«نهر العاصي أصبح، منذ زمنٍ، يصبّ في التيبر» - الشاعر الروماني جوليان في القرن الأول الميلادي، شاكياً تصاعد النفوذ السوري في روما
«أنت، يا من يمرّ لبرهةٍ أو يومٍ في قصر الحياة الدنيا
الدّنيا ليست مستقرّاً للإنسان
هذا الرجل الجليل أصبح معمارياً لسليمان خان
وقد بنى له مسجداً جامعاً، هو برقةٌ من الفردوس الأعلى» - من أبيات نُقشت على قبر المعماري سنان *


يجري بيني وبين أصدقاء، منذ فترة، نقاشٌ تاريخي عن مدينة البندقية. البندقيّة التي يراها الكثيرون اليوم كالرمز الأمثل للحضارة الأوروبية، وعصر النهضة، والكنائس واللوحات والفريسكو. فكرتنا باختصار كانت أنّ هناك كتاباً يستحقّ أن يُكتب، أو مشروعاً بحثياً، عن «البندقية باعتبارها مدينة شرقيّة»، أو باعتبارها حالةً تاريخية تدحض القوالب الاستشراقية التقليدية التي راجت في القرنين الأخيرين.
من الناحية الجغرافية البحت، البندقية مدينة إيطالية تقع في أوروبا. وهي قد بنت، بدءاً من القرن الثاني عشر، إمبراطورية تجارية امتدّت بينها وبين منافذ التجارة في شرق المتوسط والبحر الأسود، تشمل عشرات المحطّات التجارية والجزر والمستوطنات. لا يمكن فهم تاريخ المتوسّط الحديث من دون التعمّق في دور البندقيّة، القوّة التي نافست العثمانيين في البحر لقرون، وخاضت ضدّهم دوراتٍ متوالية من الحروب والهدنات. المرّة الأولى التي وُضعت فيها مدافع على متن سفنٍ كانت في معركةٍ بحرية، عام 1500، بين العثمانيين والبندقيّة. المرّة الأولى التي أُغرقت فيها سفنٌ بفعل مدفعية كانت قبل ذلك بعقودٍ قليلة، حين اقتربت غلايين حربية من البندقية من مدينة اسطنبول - التي كانت قد سقطت في يد العثمانيين في زمنٍ قريب - فواجهتها المدفعية العثمانية المتمركزة على الساحل.
مشهد من البندقيّة بريشة الفنان فدريكو ديل كامبو (البيرو، القرن التاسع عشر)

هنا، يجب أن نرجع قليلاً إلى الخلف وأن ننسى الصورة التي نملكها اليوم عن «البندقية السياحية»: الكرنفالات والأقنعة والغوندولا والجيلاتو. هذه البندقية «السياحية» تمّ اختراعها بعد القرن الثامن عشر، حين كانت البندقية قد فقدت استقلالها بالكامل، وخسرت إمبراطوريتها، وانتهى عهد المدن / الدول في أوروبا لمصلحة الدول الملكيّة الصاعدة. هنا اعتمدت المدينة على تراثها الغني، وساحاتها وأبنيتها المدهشة، أي بقايا المجد الإمبراطوري، لتصبح - على الأرجح - أوّل مدينة سياحية في أوروبا، يزورها النبلاء لحضور المناسبات والمهرجانات، وتفرض نفسها كمحطةٍ إجبارية لكلّ ثريٍّ يقوم بجولةٍ في أوروبا.
البندقية «الحقيقية»، بندقية القوّة البحرية والأسطول الكبير والبحّارة الأحرار والجدّافين المهرة، كانت أكثر «عمليّة» بكثير من تلك «السياحيّة». الطبقة السفلى في غالبية المباني كانت تُستخدم كمتاجر ومستودعات، والقنوات أمامها هي بمثابة أرصفة لشحن البضائع، وليست للنزهات (كان في البندقية قنوات ومجارٍ مائية أكثر بكثير من اليوم، قام الفرنسيون حين احتلّوها أيام نابليون بردمها وتحويلها إلى شوارع وساحات). كما يقول المؤرّخ اندرو لامبرت، فإنّ القلب الحقيقي للبندقية لم يكن في ساحاتها العظيمة، ساحة سان ماركو (التي تمثّل السلطة والدين، وفيها قصر الدوج) أو ساحة الريالتو (التي تمثّل التجارة والأوليغارشيا وفيها مبنى البورصة)، بل في «الأرسِنالي» - الترسانة - أي المنشأة التي كانت تُبنى فيها السفن الحربية والتجارية. كانت الأرسنالي بمثابة منشأة صناعية قبل العصر الصناعي، يتمّ فيها تركيب السفن في ما يشبه «خط إنتاجٍ» حديثاً، ولكنّه يستبدل الماكينات بالمهارة والتنسيق بين فرق العمل. يروي لامبرت أنه، في أيام ازدهار البندقية، زارها ملك فرنسي، فأراد أهل المدينة إبهاره فوضعوا له طاولة الغداء في الأرسنالي وبدأ طاقمٌ، في الوقت ذاته، ببناء غليونٍ حربيّ، ومع انتهاء الملك من وجبته كان تركيب السفينة قد اكتمل.
البندقية هذه كانت اسميّاً في أوروبا، ولكن اتصالها بالشرق كان أكبر بكثير من اتصالها بالبر الأوروبي. البندقية كانت لقرونٍ عبارة عن جزيرة أو أرخبيل جزر ضمن بحيرة، منفصلة بالكامل عن إيطاليا، حتى قام النمسويون ببناء جسرٍ يصلها بالبر. وهذا الانفصال لم يكن مادياً فحسب، بل كان ثقافياً وسياسياً أيضاً. كان القانون المحلّي، مثلاً، يحظر على أهل البندقية أيّ استثمارٍ في البرّ الإيطالي، ولو لغرض الزراعة وإنتاج الغذاء (بمعنى: إن كنت تملك رأسمالاً وتريد استثماره، فعليك أن تضعه في إمبراطوريّتنا التجارية التي تمتدّ من هنا إلى حلب؛ اختر تجارةً أو مدينةً أو محطّة، ولكن لا تربطنا بإيطاليا ومشاكلها). هم كانوا كاثوليكيين ولكن، كما يقول لامبرت، على طريقتهم الخاصّة، بمعنى أنّهم لا يمتثلون لأوامر الفاتيكان، وكان البابا يهدّدهم بالحرم كلّ قرنٍ أو نصف قرن وهم لا يكترثون. في الوقت ذاته، كانت صلات البندقية بشرق المتوسط قويّة وكثيفة. التجار يعيشون جزءاً كبيراً من حياتهم في دمشق أو الإسكندرية أو إسطنبول، أكثرهم يتقنون العربية ويتعاملون مع مخلف الفئات في الشرق. هل يعقل ألّا نفترض أنهم قد نقلوا عنهم عاداتهم وعلومهم وأسلوبهم في الحياة؟ وحين أصبح أهل البندقية أثرياء وأرادوا أن يبنوا منازل فخمةً وقصوراً، فمن أين سيستوحونها؟ هم لن يخترعوا نمط العمارة بأنفسهم، بطبيعة الحال، ولن يجدوا ما يقلّدونه في روما، التي كانت يومها في حالة انحدارٍ وتهالك، وبالتأكيد ليس من دلماسيا وكرواتيا (والمعمار الروماني القديم كان قد فُقد تقريباً من إيطاليا). هم، على الأرجح، قد استنسخوا القصور وأنماط الحياة وعوامل الترف التي اختبروها في الشرق، وهو فعلياً كان مكاناً أليفاً لهم، و«أقرب» إليهم بكثير من باريس أو شمال أوروبا.
هذه الفرضية تثبتها الباحثة ديان دارك في كتابٍ جديد عن تأثير العمارة الإسلامية في أوروبا، إذ تنقل فيه عن المعماري البريطاني الشهير كريستوفر رِن (Wren)، الذي صمّم العديد من الصروح البريطانية المهمّة (كإعادة بناء كنيسة القديس بولس في لندن على شكلها الحالي) وله كتابات تأسيسية في علم العمارة. يكتب رِن في أواخر القرن السابع عشر عن الكنيسة الأشهر في البندقية، كاتدرائية القديس مرقص، فيقول إنّها «نموذج» على المعمار العربي كما تمّ نسخه في أوروبا. تبيّن أيضاً عبر عمل دارك، على الهامش، بأنّ الكتاب الذي كنّا ندعو إلى تأليفه عن البندقية قد تمّ نشره بالفعل، عام 2000، وقد كتبته دبوراه هوارد تحت عنوان «البندقية والشرق» (منشورات ييل الجامعية)، وتشرح فيه أنّ تصميم قصر الدوج بقناطره المتوالية هو فعلياً استنساخٌ للمسجد الأقصى (الذي كان الصليبيون يعتقدون، خطأً، بأنه قصر سليمان)، وأنّ أزقة البندقية السكنية تشبه المدن العربية، كالإسكندرية ودمشق، ببيوتها المتلاصقة ذات الأفنية الداخلية، ولا تشبه تخطيط مدن أوروبا، وأنّ البناء بأحجارٍ سوداء وبيضاء متوالية، الذي نجده في العديد من مدن النهضة كفلورنسا، ما هو إلّا تقليدُ للنمط الشهير في الشام وحلب.

القوط العرب
تشرح دارك في المقدمة أنّ السبب الذي دفعها للبدء بهذا الكتاب كان مشاهدتها للتغطية الإعلامية يوم حريق كنيسة نوتردام في باريس. نوتردام، الرمز الأشهر للحضارة الأوروبية المسيحية، وما يمكن أن يكون أوروبياً ومسيحياً أكثر من كنيسة قوطية؟ كتاب دارك اسمه «السرقة من السرّاقين» (Stealing from the Saracens)، صدر السنة الماضية عن مشنورات «هيرست»، والعنوان مستمدّ من التعبير التحقيري الذي كان الأوروبيون يستخدمونه للإشارة إلى المسلمين؛ فالظاهر أنّ كلمة Saracens، بحسب دارك، كانت إعجاماً للكلمة العربية «سرّاقين» (اقرأ عرض الكتاب الذي قدّمه الزميل زياد منى على هذه الصفحات). الفكرة هي أنّ ما نسمّيه هندسة «قوطية» قد بدأ بالظهور في كنائس أوروبا وقصورها منذ بداية القرن الثالث عشر، أولاً في فرنسا، ثمّ بريطانيا، ثمّ البرتغال وألمانيا وإسبانيا. أي أنّ هذا الأسلوب في المعمار قد ظهر بعد قرونٍ طويلة على اندثار القوط ودولهم وثقافتهم؛ بمعنى آخر، «الهندسة القوطية» لا علاقة لها بالقوط من قريبٍ أو من بعيد، وهي مجرّد تعبير أوروبي متأخّر و«رومانسي»، خرج بعد القرن السادس عشر لوصف هذه المباني. ماذا كانت الهندسة «القوطية» إذاً؟ يجيب كريستوفر رِن بثقة أنّ «نسب هذه العمارة يجب أن يكون للمور فقط أو، وهو يعني الأمر نفسه، العرب أو السرّاقين».
على الأرجح استنسخ أهل البندقية القصور وأنماط الحياة وعوامل الترف التي اختبروها في الشرق


العنصر الأساسي في المباني «القوطيّة» هو القوس المروّس. تقليد البناء اليوناني والروماني يقوم على مساحات أفقية، متناسقة، مع جدران وأحجار ضخمة تحمل وزن السقف، وارتفاعات قليلة. القوس الروماني كان بسيطاً، عبارة عن نصف دائرة، لا يحتاج إلى حساباتٍ ومهارة ولكنه، في الوقت نفسه، ضعيفٌ ولا يحمل الكثير من الوزن. القوس المروّس الذي جاء من الشرق أسّس لعمارة مختلفة بالكامل: خفيفة وعمودية، بكثيرٍ من النوافذ، وأبراجٍ وأسقف تصل إلى ارتفاعاتٍ مدهشة. القوس المروّس رشيقٌ ويقدر على حمل الأوزان، وهو يسمح لك بأن ترتفع به عمودياً، وأن تضع صفوفاً من الأقواس فوق صفوفٍ لبناء عماراتٍ شاهقة لم تشهد أوروبا مثيلاً لها من قبل. القوس المروّس يعني أيضاً أنك لن تحتاج إلى جدران ثقيلة لحمل وزن السقف، بل يمكنك أن تفرغ جوانب البناء وتملأه بالنوافذ، حتى تغرق قاعة الصلاة بالضوء والألوان. في الوقت نفسه، أنت لا تحتاج إلى أحجار كبيرة، أو إلى كمية كبيرة من الصخور، ويمكنك استخدام أي مواد بناء متوافرة محلياً لتحقيق هذه العمارة، وبكلفةٍ قليلة وتنفيذٍ سريع. أما النماذج الأولى، تاريخياً، لهذه الأقواس فتجدها في قبة الصخرة في القدس، وقصور الأمويين في البادية السورية، وأيضاً في الجامع الأموي الكبير في دمشق.
كما أنّ قصة دخول الهندسة «القوطية» إلى أوروبا من الشرق ليست سرّاً، وقد كتب عنها رِن ووصّفها، ولنا عليها شواهد كثيرة، وهي تستحقّ أن تُروى: بعد الحروب الصليبية مباشرة، عاد عدد كبير من الأوروبيين إلى القارة من مدن الشرق، وقد حملوا معهم فنون العمارة التي تعلّموها هناك، وكان إلى جانبهم أيضاً عدد من السكان المحليين (مسيحيون عرب، أقباط، يونان) فضّلوا العودة إلى أوروبا مع الفرسان الصليبيين. قام هؤلاء بتأسيس نقابة (guild) لحفظ هذه العلوم وتطبيقها في بناء كنائس جديدة. وقد شجّعهم البابا ورعاهم عبر مرسومٍ بابوي يعترف بنقابتهم ويعطيها امتيازات وإعفاءات من الضرائب. هدف الفاتيكان في فترة «الحماسة الدينية» تلك، بحسب دارك، كان تشجيع بناء عددٍ كبير من الكنائس، في وقتٍ قصير، يعطي الكاثوليكية الأوروبية مظهراً متشابهاً ومعيارياً. كان اسم هذه النقابة «البنّاؤون الأحرار» (Free Masons). واسمهم «أحرار» لأنهم ينتقلون من مدينةٍ إلى أخرى لملاحقة المشاريع، ولا يخدمون أميراً محدّداً. وكان هناك بنّاء أوّل مسؤولٌ عن كلّ فرقة. هذا الرئيس كان يقطن في منزلٍ قريبٍ من الورشة اسمه «محفل» (Lodge)، وفيه تجري طقوسٌ لترفيع الأعضاء الذين يجري تدريبهم، حتى يصبحوا بنّائين مهرة يحملون ألقاباً متدرّجة في التراتبيّة.
لم يكن رِن معجباً بالعمارة «القوطية» هذه، ويعتبرها غير منتظمة ومتناسقة، كالتقليد الروماني القديم، ويجد زخرفتها مبالغة. ما هو أهمّ من ذلك أنّ رِن لم يكن يثق بجودة هذا البناء، ولهذا سببٌ يشرحه: لم يكن البنّاؤون الأوروبيون يملكون المهارات الحسابية التي يتمتّع بها نظراؤهم في بلاد الإسلام، الذين كان لديهم قرون من الأسبقية وخلفية أقوى بكثير في الحسابات والهندسة، بينما البنّاؤون الأوروبيون يعتمدون على مخطّطات بدائية وحسابات بسيطة. من هنا، تقول دارك، كانت بعض الكنائس «القوطية» تنهار بعد سنواتٍ من بنائها، وأكثرها تنبعج أعمدته نحو الخارج تحت ثقل السقف، وهل تعرفون هذه الأعمدة الخارجية التي تشبه الأضلع؟ القبيحة والمكشوفة التي تحيط بالكثير من المباني «القوطية» مثل نوتردام؟ هذه فعلياً محاولات «ترميم» لاحقة، تقول دارك، كانت تُبنى لإسناد المبنى بعد أن يبدأ بالتضعضُع. بالمقارنة، فإنّ مسجد قرطبة، الذي يُعتبر مثالاً على الاستخدام الكثيف لكلّ أشكال الأقواس (مروّسة، مثلّثة، مخمّسة، حدوة حصان، إلخ)، ويقوم على حساباتٍ هندسية أكثر تعقيداً بما لا يقاس من العمارات «القوطية»، قد بنيت أسقفه الواسعة التي تتشكّل من عقد أقواسٍ تتشابك في القرن العاشر، وهي لم تحتج إلى إصلاحٍ هيكلي منذ ذلك الزمن.

الصلة السوريّة وقبّة السماء
جالت دارك في سوريا مراتٍ عدّة، وهي لديها نظرية عن أنّ مؤرّخي العصر الروماني يقلّلون من أهمية التأثير السوري في الإمبراطورية، وبخاصة بالمعنى الروحي والثقافي. المسيحية كانت، في قرونها الأولى، ديانة سورية أساساً، تحاجج دارك، أكثر معتنقيها في سوريا، أكثر كنائسها هناك، أكثر الأساقفة والقديسين والطوائف (كطائفة سمعان العامودي) ومواقع الحجّ تقع فيها. هذا التأثير السوري كان جوهرياً، تضيف دارك، خلال «القرون الحاسمة»لدخول المسيحية إلى أوروبا، في القرون: الرابع والخامس والسادس. كانت الكثير من الكراسي المهمّة يشغلها سوريون، حتى كانتربري - في أقصى شمال أوروبا - حظيت بأُسقفٍ سوري في القرن السابع، وما كان الكاهن الذي عمّد الإمبراطور قسطنطين، وهو على فراش الموت، إلّا أسقف بيروت. من هنا، تقول دارك، كان من الطبيعي أن تنتقل الكثير من المفاهيم عن الممارسة والطقوس ومفهوم الكنيسة من سوريا، ولهذا السبب فأنت حين تنظر إلى واجهة كنيسة نوتردام، ثمّ تنظر إلى واجهة كنيسة سوريّة قديمة، مثل مار سمعان أو قلب لوزة، فإنّك ستجد العناصر نفسها منسوخةً بالتمام.
الطريف هو أنّ الكثير من هذه العمارة جاء أساساً من تقاليد دينية تسبق المسيحية. الكنائس كلّها تُبنى من الغرب إلى الشرق، ويكون المدخل دوماً غربياً فيما مساحة الطقوس في شرق المبنى. هذه مجرّد استعادةٍ لنمط المعابد الوثنية وإله الشمس (سواء أكان «بعل» أم «شمش» الأشوري)، حيث يجب أن يشرق الضوء على موقع الطقس المقدّس. والمسيحية الأولى، تقول دارك، تشاركت وتخالطت لقرونٍ مع العبادات السابقة، والعديد من المؤمنين كانوا يرون يسوع المسيح على أنّه - ببساطة - إله الشمس (ومن هنا، تضيف دارك، جاء رسم هالاتٍ من الضوء حول رأسه في الأيقونات). ولكنّ الأساس هو أنّ الديانات الشرقية، على عكس التديّن الروماني واليوناني، كانت «شعبويّة» تقوم على طقوسٍ جماعية تشارك فيها كلّ الرعيّة. من هنا، احتاجت هذه الديانات دوماً إلى هندسةٍ خاصّة، واستلزمت مساحات واسعة عليك أن تصمّمها وتبنيها، لكي يشارك في الطقس آلاف المؤمنين (وهذه مشكلة لم تكن موجودة في المعابد اليونانية والرومانية).
حين انتشرت المسيحية، وهي ديانة شرقية، في أوروبا، ظهرت الحاجة إلى نمطٍ جديدٍ من البناء ومفهومٍ مختلف عن المعبد. الهدف من كشف هذه الصلات الشرقيّة هو تصحيح التاريخ، كما كُتب في القرنين الأخيرين، وخلخلة المفاهيم الجوهرانيّة عن «الشرق» و«الغرب»، وليس الهدف تعزيز «الفخر القومي» أو نظريات التفوّق العرقي. كما تقول دارك، فإنّ السبب الذي جعل العمارة والهندسة والأنماط تنتقل في اتجاه واحد طوال قرون، من الشرق إلى الغرب، لم يكن إلّا لأنّ بلاد ما بين النهرين كانت - ببساطة - المجتمعات الأولى في العالم التي بنت مدناً ودولاً ومعابد، فكان من الطبيعي أن تنتقل هذه المفاهيم إلى سوريا، ومنها إلى اليونان وأوروبا (وإن كنت، كعربيّ، تحتاج إلى معرفة هذا التاريخ لكي تقتنع بأنك «بشري» ولا تقلّ عن الآخرين، فإنّ مشكلتك تتجاوز الجهل البسيط، وإن كانت إنجازات الأسلاف ستجعلك تعتبر أنك أفضل من الباقين و«متفوّق» عليهم، فخيرُ لك أن تظلّ جاهلاً).
أخذ الأمويّون مفهوم الـ«بازيليكا» المستطيل وبدّلوا مهامه في المسجد الأموي في دمشق، وخلطوا تأثيرات فارسية ورافدينية وبيزنطية، ثم أضافوا ابتكاراتٍ جديدة نتجت عن هذا التفاعل (مثل استدخال مفهوم المئذنة مع مسجد دمشق، ومن بعده انتشرت في أوروبا أبراج الكنائس المتشابهة التي تحمل الأجراس). إضافة إلى القوس المروّس، تجد في قبة الصخرة إبداعاً آخرَ، هو تزيين المبنى من الخارج بالفسيفساء، وهذه عناصر لا نجدها في أيّ عمارة سابقة. يبدو أنّ المسجد الأموي في دمشق كان أيضاً مطلياً بالفسيفساء بالكامل، بجدرانه الخارجية والداخلية، وهي تعرض مشاهد متقنة لأنهرٍ وبرارٍ وتمثيلات أخرى للجنّة - وقد غطى العثمانيون هذه الفسيفساء بالجبس في زمنٍ متأخّر. ثمّ نقل العباسيون والفاطميون، الذين أُغرموا بالأقواس والقباب، هذه الهندسة إلى مكانٍ أكثر تقدّماً، وقد أصبحت لديهم معارف علمية وحسابية متفوّقة.
ولكنّ التعبير الأخير لهذه الهندسة المتحوّلة والتراكميّة تجده في المساجد السلجوقية المتأخّرة وعمارة سنان. مع سنان، يصبح المبنى بمثابة تجريد. لا زخرفة ولا غرف ولا مساحات لها وظائف محدّدة؛ ولا يوجد أثاثٌ وتقسيمات في المبنى. كما في مسجد قرطبة، يمكنك أن تجلس في أيّ مكان وستكون متوحّداً مع كامل المساحة. لا تراتبيّة ولا طبقات ولا اتجاه محدّد. الأقواس التي تسند القباب أصبحت رشيقةً تكاد لا تُرى، والقبة الرئيسية تحملها قباب أصغر حولها، فتبدو بلا دعائم ترفعها. الجدران حولك خفيفة ومرتفعة وشفّافة، أكثر مساحتها عبارة عن نوافذ هائلة، فتبدو كأنّها زخرفة وإيحاء أكثر منها حاجزاً وجداراً. لا يوجد تمييزٌ واضحٌ بين «خارج» و«داخل»، فالضوء (إله الشمس) أصبح في كلّ مكان، و«المركز» الوحيد هنا هو القبّة الهائلة التي تطفو فوقك، لا تراها ولكنّها تملأ المسجد بالضوء. مفهوم «القبة المستديرة فوق المبنى المربّع» هو نموذج المعبد الفارسي القديم، تكتب دارك، والدائرة هنا ترمز إلى السماء فيما المربّع هو الأرض. واللقاء بين الاثنين تنتج عنه نجمة ثمانية الأضلع، هي لذلك رمزٌ مقدس - يعبّر عن القيامة والانبعاث - في الكثير من الثقافات. مع البنّائين المسلمين، وصولاً إلى سنان، أصبحت هذه المفاهيم الهندسية (الدائرة، المربّع، النجمة) بمثابة «تجربة» يعيشها المؤمن. أنت لا تحتاج إلى رسم مشاهد من الجنّة حولك، فأنت أصلاً في مكانٍ سحريّ لا ينتمي إلى هذا العالم، لا مركز فيه سوى قبّة تطفو في السماء، ولا جماد يحيط بك بل مفهومان مجرّدان بالكامل: التوحيد والجماعة.

* الاقتباسان من كتاب دارك، ص. 67 وص. 307