يتميّز نظامنا الدستوري والسياسي بتعقيدات تجعله نظاماً فريداً في العالم، تتشوّه فيه القواعد الدستورية والقانونية، إذ إنّ للبرلمانية فيه ركيزة ثانية هي الصيغة الطائفية. ومن الأمثلة، التشوّهات التي طاولت النظام البرلماني سواء قبل التعديل الدستوري لعام 1990 أو بعده. فقبل عام 1990، كان نظامنا لا يملك من الميّزات البرلمانية سوى مسؤولية الحكومة أمام البرلمان وصلاحية حل البرلمان التي هي أيضاً كانت في يد رئيس الجمهورية، إذ كان هذا الأخير، بخلاف الأصول البرلمانية، يملك الصلاحية التنفيذية وصلاحية تعيين رئيس الحكومة والوزراء وإقالتهم. وكانت الاستشارات التي يجريها في هذا الصدد شكلية لا تلزمه دستورياً. لكنّ التعديل الدستوري لعام 1990، الذي نزع السلطة الإجرائية من رئيس الجمهورية وأناطها بمجلس الوزراء، أدّى إلى خلل جوهري في أساس النظام البرلماني القائم على فصل السلطات والتعاون والتوازن في ما بينها، حيث حق البرلمان في مراقبة عمل الحكومة وصولاً إلى نزع الثقة عنها، يقابله حق السلطة التنفيذية في حلّ البرلمان. لكن للأسف، فقد جعل الدستور الحالي من حلّ البرلمان عملية شديدة التعقيد وصعبة الحدوث حتى كأنه جعلها شبه مستحيلة. وهذا ما يشكل إخلالاً بالتوازن بين السلطات في الأنظمة البرلمانية.
وإذا كان تعديل 1990 قد وضع حدّاً لانفراد رئيس الجمهورية بالسلطة التنفيذية، إلّا أنّه لم ينزع منه كلّ الصلاحيات ولم يتحوّل إلى مجرد واجهة دستورية لا يمارس صلاحياته كما هو حال الملك في بريطانيا. بل إنّ رئيس الجمهورية في لبنان ما زال محتفظاً بصلاحيات دستورية مهمّة، وما زالت بعض النصوص تعطيه دوراً يجعل منه قطباً دستورياً مؤثراً في الحياة العامة. لم يصبح رئيس الجمهورية مجرّد رمز، إنّما غدا مرجعيةً دستورية لها صلاحيات تستخدمها من أجل الحفاظ على انتظام أداء المؤسّسات الدستورية. ويمكننا القول إنّ الدستور اعتمد أحياناً الثنائية التنفيذية المتساوية بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء في الأمور والقضايا التي تتوقف ممارستها من قبل مجلس الوزراء على مبادرة رئيس الدولة، وأحياناً الثنائية التنفيذية اللامتساوية لمصلحة رئيس مجلس الوزراء والحكومة في ممارسة غالبية الصلاحيات المناطة بمجلس الوزراء، والتي لا يملك حيالها رئيس الدولة إلا صلاحية اعتراض مؤقت.
من أهم الصلاحيات التي احتفظ بها رئيس الجمهورية بالإضافة إلى مشاركته في تشكيل الحكومة، حقّه، إذا شاء، في ترؤس جلسات مجلس الوزراء (المادة 53 من الدستور). فهو وإن كان لا يحقّ له التصويت، إلّا أنّ مجرّد وجوده يشكل ثقلاً معنوياً ويجعل منه شريكاً في اتخاذ القرارات وفي توجيه العمل الحكومي، خصوصاً أنّ على رئيس الحكومة إطلاعه مسبقاً على جدول الأعمال. كما له الحق في عرض أيّ من الأمور الطارئة على مجلس الوزراء من خارج جدول الأعمال (المادة 53). كذلك، يستطيع، بالاتفاق مع رئيس الحكومة، دعوة مجلس الوزراء استثنائياً كلّما رأى ذلك ضرورياً (المادة 53). وله الحق في ردّ القوانين إلى مجلس النواب والمراسيم إلى مجلس الوزراء، ولا يجوز أن يُرفض طلبه (المادة 56 من الدستور). وهو، رغم انتزاع السلطة التنفيذية منه، ما زال شريكاً أساسياً في عملية حلّ مجلس النواب التي لا يمكن أن تحصل إلا بطلب منه (المادة 55 من الدستور). كما أنّه هو من يصدر القوانين المعجّلة بموجب المادة 58 من الدستور (بعد موافقة مجلس الوزراء، لكن مجلس الوزراء أيضاً لا يستطيع استخدام هذه الصلاحية من دون رئيس الجمهورية). وله أيضاً (منفرداً) صلاحية تأجيل الجلسات العادية لمجلس النواب (المادة 59 من الدستور)، وصلاحية دعوته إلى جلسات استثنائية بالاتفاق مع رئيس الحكومة (المادة 33 من الدستور). وهو الذي يصدر مرسوماً، بناءً على قرار مجلس الوزراء، بجعل مشروع الموازنة كما قدمته الحكومة مرعياً ومعمولاً به (المادة 86). كما أناطت به المادة 52 من الدستور صلاحية المفاوضة في عقد المعاهدات الدولية وإبرامها بالاتفاق مع رئيس الحكومة.
إنّ التوقيع الوزاري الإضافي على أعمال رئيس الجمهورية ليس تقييداً لصلاحياته الدستورية، بل هو حماية للامسؤوليته المتأتية من كونه رمزاً لوحدة الوطن وحامياً للدستور ولاستقلال لبنان ووحدة أراضيه (المادة 49). هذه اللامسؤولية السياسية التي يملكها رئيس الجمهورية والطريقة الاستثنائية في ملاحقته ومحاكمته حتى في الجرائم العادية التي يرتكبها، هما تكريس لرمزيته ولأهمية الموقع الذي يشغله.
الرمزية التي يملكها رئيس الجمهورية دستورياً (المادة 49) لم ينص عليها الدستور بالنسبة إلى رئيس الحكومة


هذا العرض الموجز لأهمّ صلاحيات رئيس الجمهورية (وليس كلّها) إنما للدلالة على أنّ رئيس الجمهورية لم يفقد بعد تعديل عام 1990 كلّ صلاحياته، بل ما زال دوره أساسياً على الصعيد الدستوري، ما يجعل من المنطقي ألا يكون دوره شكلياً على صعيد تشكيل الحكومة. فإذا كان العرف يقتضي في بعض الأنظمة البرلمانية ألا يتدخّل رئيس الدولة في عمل الحكومة وعمل رئيسها، بل يكتفي بالاطلاع والتوقيع، فإنّ العرف في لبنان والتوازنات الطائفية يجعلان من غير الممكن استبعاد رئيس الجمهورية عن المشاركة الأساسية في القرارات ومنها بالطبع تكوين السلطة الإجرائية. ودوره ليس عارضاً أو عابراً أو متلقياً، بل يمكنه أن يبدي ملاحظات بشأنها أو يطلب تعديلات عليها، لأنّ الحكومة لا يتم تشكيلها بحسب نص الدستور إلّا بموافقة رئيس الجمهورية، بما يجعله مقتنعاً ومطمئناً إلى توفر المقومات اللازمة لنجاحها وتحقيقها للمصلحة الوطنية.
فبموجب الفقرة الرابعة من المادة 53 من الدستور: «يصدر بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة...». فنص المادة واضح بالنص على الاتفاق بين الرئيسين على إصدار المرسوم أي على تشكيل الحكومة. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ المادة 53 المذكورة وردت ضمن الفصل الرابع من الدستور وضمن الفقرة «أولاً» المتعلقة برئيس الجمهورية. وبالتالي، يتّضح أنّ المشرع الدستوري قد جعل تشكيل الحكومة داخلاً ضمن صلاحيات رئيس الجمهورية التي يشاركه فيها رئيس الحكومة. فهذه الصلاحيات التي يمارسها بالاتفاق مع رئيس الحكومة يتشارك فيها الاثنان ولا يقتصر دور الآخر على التوقيع. وإذا كان هذا التوافق يُعتبر تجاوزاً لأسس النظام البرلماني التي يقتصر فيها تشكيل الحكومة على رئيس مجلس الوزراء، فإنّ تبريره هو الخصوصية اللبنانية التي جعلت رئيس الجمهورية الذي يمثل فئة أساسية من مكوّنات المجتمع اللبناني شريكاً في الحكم من جهة، وحكَماً من جهة أخرى.
لكن ماذا لو اختلف الرئيسان بشأن التشكيلة الحكومية كما حصل ويحصل في الكثير من الأحيان؟ مَن منهما عليه التراجع أمام الآخر؟ هل لتشكيل الحكومة مهلة دستورية كما هو الحال بالنسبة إلى نيل الثقة التي حُدّدت بموجب المادة 64 من الدستور بثلاثين يوماً؟ هل يجوز نزع الثقة التي أُعطيت للرئيس المكلّف لتشكيل الحكومة وفقاً للاستشارات النيابية؟
رئيس الحكومة هو المسؤول الأول عن الحكومة، يتحمّل مسؤوليتها أمام مجلس النواب وأمام الرأي العام. وبالتالي لا يمكن إلزامه برأي رئيس الجمهورية في التأليف في حال اختلفا بالرأي. ورئيس الجمهورية شريك في السلطة التنفيذية وفي تشكيل الحكومة لا يمكن إلزامه بالتوقيع على تشكيلة حكومية لا يستطيع العمل معها، أو يجد أنها لن تحصل على ثقة البرلمان أو غيرها من الأسباب التي قد يرتئيها.
إنّ الثابت في المعادلة الدستورية هو رئيس الجمهورية الذي لا يمكن اختصار ولايته إلّا في حال اتهامه جزائياً أو في حال استقالته أو عجزه عن ممارسة دوره. والرمزية التي يملكها رئيس الجمهورية دستورياً (المادة 49) لم ينص عليها الدستور بالنسبة إلى رئيس الحكومة. وكون رئيس الجمهورية ما زال شريكاً في السلطة التنفيذية رغم أنه لم يعد رأس هذه السلطة كما كان قبل اتفاق «الطائف»، فإنّ المنطق يستدعي تراجع رئيس الحكومة في حال الخلاف بينهما. وهذا التراجع لا يعني أنّ لرئيس الجمهورية صلاحية إلزام رئيس الحكومة المكلّف بالتأليف أو بالاعتذار. ولا يعني أنّ له أن يطلب من مجلس النواب العودة عن التكليف وهو أمر غير ممكن دستورياً، إذ بعد التكليف وتسمية رئيس الحكومة، لا سلطة ولا صلاحية لأية جهة بسحب التكليف أو وضع حدّ له، فاختيار رئيس الحكومة من قبل النواب، ليس تفويضاً يمكن سحبه، وليس تعييناً يمكن العودة عنه، بل هو تكليف بمهمّة تنتهي إما بتشكيل الحكومة ونيلها الثقة وإما باستقالته. ودور النواب هو دور استشاري ملزم ينتهي بانتهاء التكليف، فلا يمكن توقيع عريضة من أكثرية مجلس النواب تطلب من رئيس الجمهورية سحب هذه الثقة، لأنّ ذلك لا سند له في الدستور. فالمفروض أن يقوم رئيس الحكومة طوعاً بالاحتكام لمجلس النواب من خلال تقديم استقالته إما لتجديد الثقة به، وهنا على رئيس الجمهورية الرضوخ لرأي الغالبية النيابية وإجابة رئيس الحكومة لطلبه وإما القيام بالتصويت خلال الاستشارات النيابية الملزمة لغيره.
أما في ما يخص المهلة الدستورية المطلوبة للاتفاق على تشكيل الحكومة، فلم يقم المشرّع الدستوري بتحديدها. ويمكن في هذا المجال الاسترشاد بالاجتهاد الإداري الذي يرى أنه عندما لا يحدّد النص مهلة، على الجهة المخوّلة القيام بعمل ما أن تلتزم بمهلة معقولة، تختلف بحسب طبيعة العمل المطلوب والظروف المحيطة به. ومن المنطقي القول بأنه إذا كانت الحكومة لا تملك سوى ثلاثين يوماً لنيل الثقة من مجلس النواب، فمن الأَولى ألا تكون المهلة لتشكيل الحكومة مفتوحة لآجال طويلة.
لقد تضمّن الدستور ثغرات كبيرة على صعيد تنظيم الحياة الدستورية. ولعلّ السبب يرجع إلى أنّ الممارسات الدستورية في لبنان تختلف عمّا هو الحال في الدول البرلمانية. كما أنها قد اختلفت جذرياً عما كانت عليه قبل عام 1990. فقد ظهر بالممارسة أنّ النظام الحالي يولّد أزمات متوالية لا بدّ للمشرّع الدستوري أن يبادر إلى وضع حلول لها، ومنها بالطبع مسألة تشكيل الحكومة. ولا شك في أنّ التوازنات الطائفية تعطي للمواقع الدستورية حصانات وصلاحيات تتجاوز في كثير من الأحيان ما جرى النص عليه في الدستور. لذلك، فإنّ الممارسة تختلف عن النص.
عندما نصّ الدستور في المادة 49 على أن ّ»رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن يسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه وفقاً لأحكام الدستور»، فقد وضعه في مقام سامٍ، وجعله صمام أمان للنظام. لقد افترض المشترع أنّ المؤسّسات الدستورية، وتحديداً مجلسَي النواب والوزراء، تعمل بشكل منتظم ومنضبط بما نصّ عليه الدستور، ولم يتحسّب لما يمكن أن تتعرّض له المؤسّسات الدستورية من أزمات حادة بفعل الصراعات السياسية وموازين القوى، فحصر صلاحيات رئيس الجمهورية بالحد الأدنى، ولم يمنحه من الصلاحيات ما يمكّنه عند حدوث الأزمات من استخدامها لإيجاد مخارج تحول دون تعطيل أداء المؤسّسات الدستورية.

* أستاذة القانون العام في الجامعة اللبنانية