(1)
في أثناء اهتمامنا المبالغ فيه، والمهين، باللحاق بقطار التقدّم، وصل ذلك القطار إلى نقاط عديدة لا يرجو المرء لأيّ أمّة أن تلحق بها، حتى من داخل منطق التقدّم الرأسمالي نفسه. فبينما أدّت الثورة الصناعية والديمقراطية البرجوازية إلى تقدّم الحريات العامّة والخاصّة، لدرجة تقديس حق التعبير والخصوصية وسنّ قوانين حماية البيئة، فإننا نشاهد اليوم وبصورة مثيرة للدهشة كيف أصبح استمرار الرأسمالية في الحكم الليبرالي مرهوناً بتراجعات جذرية وسريعة في هذه المنجزات تحديداً .
فبينما ستسمع في القرن العشرين عن انتصارات نقابة الحقوق المدنية الأميركية ACLU في القضايا التي كسبتها أمام المحكمة الدستورية بخصوص حرية التعبير، خصوصاً قضيّتي براندينبيرغ من أوهايو عام 1964 وقضيّة مدينة سكوكي في ألينوي عام 1978، التي دافعت فيها المنظمة عن حقّ التعبير السياسي لمتطرّفين نازيين ومن جماعة «كوكلوس كلاس» العنصرية. ناهيك بأنّ المنظمة كانت ملجأ الحزب الشيوعي الأميركي في التسعينيات أثناء تعرّضه لمضايقات الدولة. أما اليوم، فإنّ الدولة ذات التعديل الدستوري الأول الخاص بحرية التعبير، يحظر فيها على رئيس الدولة الكلام في العلن عبر عملية إسكات منهجية تتمّ في الحقيقة وبصورة كاملة خارج أجهزة الدولة الرسمية، ولكنّها تلغي أيّ فكرة وضعها الآباء المؤسّسون في التعديل الأول بصورة عملية.
في ما يخص مسألة الخصوصية، فإنّ البيانات التي قام إدوارد سنودن وشيلسي مانينغ بكشفها، تُظهر عملية تغوّل منهجية من قبل وكالة الأمن القومي على خصوصية الجميع. بدون أيّ نوع من الرقابة، وباستعمالِ مركّز وقاسٍ لسلطة الدولة لضمان عدم تكرار تلك التسريبات كما يظهر من الاعتقال الانفرادي الطويل لشيلسي مانينغ، النفي العملي لإدوارد سنودن والملاحقة القاسية غير الرؤوفة لجوليان أسانج. بعد هذه النماذج الثلاثة، سيكون من الجنون قيام أيّ شخص بكشف من هذه الحقائق. في الانتخابات الماضية، كذلك، كانت هناك تفصيلة غريبة في ما يخص البيئة: تنافس جو بايدن ودونالد ترمب على التأكيد على عدم اهتمامهما بمسألة البيئة. ذلك أنّ ولاية بنسلفينيا، وهي أحد معاقل الصراع الأساسية، فيها عدد كبير من العمّال في المناجم وذوي الصلة بإنتاج النفط والطاقة. الوضع الذي وصلت إليه الديمقراطية هو الآتي: الناخب، وهو عامل بسيط لا يستفيد فعلياً من عملية تدمير البيئة إلا راتبه، أصبح هو نفسه الناخب والعنصر الضاغط من أجل تجاهل المسألة البيئية. وربما سيكون من المفيد ملاحظة أنّ الطبقات التي تهتم اليوم بالبيئة وقضايا تغيّر المناخ هي الطبقات الثرية أو الوسطى العليا. فإن كنت تصارع من أجل تسديد الإيجار في آخر الشهر، ما سيحدث للكوكب بعد مئة عام يبدو أمراً غاية في التفاهة. الأمر غير المبشّر والذي ظهر في بنسلفينيا هو أنّ «العمّال هم الأغلبية». الشبح الشيوعي يظهر، مرة أخرى، في هذه الحالة الغريبة: حتى يصوّت الناس ديمقراطياً لخدمة مصالحهم البعيدة المدى، يجب أن تلغى الملكية الفردية كهدف محدّد للتصويت.
(2)

قد يتساءل المرء عن كيفية ظهور الذات الثورية في القرن الحادي والعشرين. حيث - تحت وطأة الإنتاج الثقافي للعقائد الليبرالية على خطوط الهوية، وتدمير القدرة الجماعية للطبقة العاملة على المقاومة، وصعود المقامات الكاذبة وفي أشكال شديدة الجاذبية وفي كلّ مكان - تمّت عملية الانتصار الكامل لما يسمّيه آلان باديو الديمقراطية المادية Democratic Materialism؟
إحدى الإجابات على هذا التساؤل من وجهة نظري، هو غلين غرينوولد. بدأ غرينوولد مسيرته ككاتب مستقل، وهو محامٍ بالتدريب يسكن في نيويورك، تحوّل بصورة فردية إلى صحافي استقصائي. وقام بكتابة عدد من التحقيقات اللامعة، الأمر الذي جعله نجماً في نظر أشخاص مثل إدوارد سنودن (ربما لسوء حظه). عندما قرّر سنودن سرقة مستندات وكالة الأمن القومي الأميركية، والتي تفضح عمليات تجسّس وانتهاك للخصوصية واسعة جداً تقوم بها الوكالة، قام بالاتصال بغرينوولد ونسّقا معاً عملية النشر.
في الفيلم الوثائقي Citizen 4 تشاهد لقاءات غرينوولد وسنودن، وهوس سنودن بقدرة الوكالة على التجسّس عليه. سنودن لم يعد منذ وقتها إلى وطنه، وقد قامت الولايات المتحدة بإنزال طائرة دبلوماسية ظُنّ أنّه على متنها، ما اضطرّه إلى إلغاء فكرة السفر إلى دولة في أميركا اللاتينية، وقرّر العيش في روسيا في ظروف حياة يقول عنها سنودس إنّه «لا يتمنّاها لأحد».
اكتملت عزلة غرينوولد الذي يعيش في البرازيل باستقالته من المجلّة التي ساهم هو نفسه في تأسيسها


ما يثير الاهتمام في شخصية غرينوولد، مع ذلك، هو مواقفه السياسية. فهو أحد الناقدين اليساريين القلائل للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، صاحب الشعبية الجارفة في المؤسّسة الليبرالية الأميركية (والذي تمّت عمليات التجسّس التي فضحها سنودن، خلال عهده، ناهيك بعمليات القتل خارج القانون بالطائرات الموجّهة بدون طيّار، وعملية الإفقار المنهجية للطبقة العاملة بالاتفاقات الدولية التي أنتجت ظاهرة دونالد ترمب. إلّا أنّه متحدّث لبق وشخص محبوب وكاريزميّ و»أسود» وذلك كافٍ بالنسبة إلى اليسار الأميركي). وخلال فترة الرئيس ترامب، هاجم غرينوولد التركيز المحموم للإعلام الأميركي على مسألة مساعدة روسيا لترامب حتى يصبح رئيساً، رفقة الصحافي البارع (والذي وصل إلى مصير العزلة ذاته لاحقاً) مات تاييبي. ففي نظر غرينوولد، تلك الدعاوى كانت وسيلة الليبرالية الأميركية لتجاهل حقيقة أنّ ترامب هو ظاهرة «ديمقراطية»، فالناخب الذي تُفقره الآلة الرأسمالية لن يخضع بالضرورة للخطاب الهوياتي وخطاب السلامة اللغوية ليصوّت مرحاً لليبرالي آخر، بل سيصل إلى حالة يأس وبؤس لن تجد إلّا مثل ترامب (أو أسوأ) ليعبّر عنها.
في ما يخصّ حرية التعبير، فإنّ غرينوولد ملتزم عقائدي لنص التعديل الأول، مثل الـALCU قبل تراجعهم أمام ضغط سياسة الهوية (في تحذير داخلي بدأت المنظمة في الحديث عن إمكانية تقييد حرية التعبير إذا أدّت إلى مسّ حساسية الأقليات). والتزام غرينوولد ناتجٌ عن معرفة بالهدف الرئيسي لعمليات كبت حرية التعبير: بينما يحتفي الإعلام الآن بإسكات صوت ترامب. ففي الوقت ذاته يقبع جوليان أسانج في السجن وتتمّ عملية تشويه منهجية بحقه، والمرحلة التالية هي استعمال الوسائل التكنولوجية والتحالف الإعلامي الرقمي نفسه بين القنوات التلفزيونية و»فايسبوك»/»تويتر»/»آبل»/»غووغل»/»أمازون»، لإخفاء أيّ أسانج آخر قبل أن يحصل على أيّ شهرة. تجربة غرينوولد الخاصة تقول بأنّ الإمبراطورية لن تتراجع عن الالتزام بحق التعبير فقط لتُسكت مهرّجاً من الواضح أنّه لا يمثل أي خطر فعلي عليها، بل لإسكات أي رأيٍ أو حركة سياسية قد تأتي من اليسار لتعبّر عن آلام القواعد التي تمّ خداعها عبر ترامب.
أخيراً، اكتملت عزلة غرينوولد الذي يعيش في البرازيل (وقامت حكومة بولسنارو اليمينية بملاحقته قانونياً هناك وما زالت أمامه محاكم أخرى، لأنه قام بنشر تقارير مزعجة عن الحكومة البرازيلية ومؤامرتها ضد دا سيلفا الرئيس السابق)، باستقالته من المجلّة التي ساهم هو نفسه في تأسيسها لتكون إعلاماً بديلاً عن الإعلام شبه الرسمي الأميركي. استقال غرينوولد لأنّ المجلّة قامت بحذف جزء من مقالٍ له انتقد جو بايدن أثناء الانتخابات الأميركية، لأنّ عقيدة طاغية وصلت إلى البيت الداخلي لغرينوولد نفسه، تقول بأنّه ليس هنالك في الكون شرّ أكبر من ترامب (نعوم تشومسكي ظهر، أخيراً، بصورة مهينة مندّداً بأيّ شخص يرفض التصويت لبايدن، كأحد أهم المدافعين عن فكرة التصويت «للشر الأقل»، وكأنّنا لا نعلم أنّ هذا الشر الأقل ينتج الشر الأكبر كل مرة ويؤخّر وعي الطبقة الكادحة ويخدعها ويقتل وينهب شعوب العالم باسمها. ثم يغفل تشومسكي أنّ هذا النوع من الاستسلام لفكرة الشر الأقل يؤدّي عملياً إلى تحوّل هذه الفكرة إلى استراتيجية انتخابية ناجحة، فكلّ ما على الطبقة الحاكمة إظهاره هو أنّ هناك شرّاً أكبر منها، التكرار المملّ لهذه الظاهرة يتطلّب وضع حدّ لها بصفتها هي الشر الأكبر).
أياً يكن من أمر، فهنالك ذاتية ليس لها مكان في هذا العالم. سيقف اليساري الطفولي هنا ويحتفي بالعزلة والهزيمة، بصفته الحقيقة الوحيدة المنهزمة ويشعر بالغبطة. لذلك، عليَّ أن أذكر أنّ أكثر ما يعجبني في غرينوولد هو سعيه المحموم، والذي يكون هوسياً مزعجاً، للتأثير والفعل والانفعال بالواقع. ثم قدرته المميّزة على خلق تحالفات وصلة مع قطاعات واسعة من ما يمكن تسميته باليسار العقلاني أو الاشتراكي المادي (اليسار الذي يسعى إلى توحيد الطبقة الكادحة وليس الاستثمار في صراعاتها الثقافية). الوحدة والعزلة، إذن، هما وسيلة التزام. التزامٌ أولاً بالخروج منهما. ليس هنالك أي شيء تحرّري في بعد الواحد منّا عن أهله.
* كاتب سوداني