تهدف هذه المقالة إلى نقاشٍ بنّاء حول الدعوة المفتوحة لعقد مؤتمر شعبي في مدينة مدريد، في تشرين الأول / أكتوبر المقبل، من قِبل بعض الناشطين الفلسطينيين التقدميين، وهم مثلي من المعارضين اللدودين لإذعان أوسلو ومسار التسوية المذلّ. وهذا طبيعي. فطالما انطلقت بحمية في أوقات الشدائد والتراجع، دعوات تطالب بسلوك نهج جديد أو بديل. ولا أرى ضيراً في ذلك ضمن قواعد وأسس معيّنة. وقد تلقى هذه «المبادرة» تجاوباً عند بعضهم في ظلمة الاحتباس الخانق والتراجع العاصف على حاضر ومستقبل الأمّة العربية وقضيّتها الأمّ فلسطين، وما يُخال لوهلة وكأنّه الغثيان عند معارضي أوسلو من التنظيمات الثورية وتسلّط زبانية رام الله.أما المبتغى المرجوّ للجنة التحضيرية للمؤتمر، فهو خلق حالة جماهيرية ضاغطة باتجاه التخلّص من مسار مدريد - أوسلو «وتثوير» فصيل أساسي من الفصائل الفلسطينية، هو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، لأخذ زمام المبادرة وقلب الطاولة على زمرة السلطة في رام الله، والتخلّص من مسارات أوسلو باتجاه التحرير الكامل لفلسطين التاريخية.
وفي رأيي المتواضع، إنّ هذه المبادرة لا تحمل من الجدية الوطنية سوى أوهام أقل ما توصف به هو طوباوية العجز. وذلك لأسباب عدّة لا يقل أوّلها أهمية عن المتبقّي من الأسباب. فأصحابها يرمون، أولاً، إلى الضغط على فصيل فلسطيني أساسي له تاريخ مشرّف. إضافة إلى ذلك، فإنّ العديد من الأسئلة والمواضيع لا تلقى لها إجابات علمية، ولا حتى عملية، عند المبادرين لعقد هذا المؤتمر لـ»المسار البديل»!
فأين «التثوير» عند أصحاب الدعوة وهم يملكون إمكانات السفر وتحضير المؤتمرات وما لها من تكلفة في الخارج وتنظيم اللقاءات والتنقّل إلخ؟

العودة إلى الوطن واجب الشرفاء والثوريين الحقيقيين
أين نحن أبناء هذا الوطن الممزّق والمتطاير الأجزاء؟ هكذا؟ يا لوحدي وعائلتي؟! ما مصيري وماذا أفعل وأين أعمل؟ يا لها من ثقافة استملكتنا نحن قاطني الغُربة!
الواجب الثوري الأول يا أعزّاء هو العودة إلى الوطن. أتكلّم هنا تحديداً عن الكثير والكثير منّا ممّن يملك أن يقوم بذلك. فلكلّ تقدّمي وكلّ متعلّم أو مثقّف أو صاحب ملكات مكان ودور وواجب، رجالاً ونساء. والواجبات الوطنية والمجتمعية هنا قبل الحقوق الفردية.
كان جورج لوكاتش، الفيلسوف والمنظِّر المجري قد لخّص «أنّ التنظيم هو شكل الواسطة بين النظرية والممارسة» (أو الجسر بين النظرية والممارسة). علينا هنا أن نُسرّ لأنّ تعريفه هذا في كتابه «التاريخ والوعي الطبقي» جاء في زمن سبق سفسطات شبكات «التواصل الاجتماعي» المبدعة في وسائل تفريقنا وإبقائنا «عن بعد»!
ومعلومة أيضاً المقولة اللينينية «لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية»! فالواجب الثوري الآخر والأهم (لمن تحزّب) هو العودة إلى الحزب والنضال من داخله «لتثويره» (على رأيكم)، لا الوقوف خارجاً وتناول النقد بترفّع الأدمغة المهاجرة! فقط من خلال الانتماء الحزبي والتمسّك بالوحدة الفكرية للتنظيم والنقاش الداخلي المتعمّق والديمقراطي لفهم الواقع ولتطوير النظرية، يمكن الارتقاء بشكل جماعي لا فردي. «إنّ موقف أيّ حزب سياسي من أخطائه هو من أهم المقاييس وأصدقها للحكم في ما إذا كان هذا الحزب حزباً جدياً» (ستالين). وأعتقد جازماً أنّ الفصيل الذي تدعون لتثويره هو الفصيل الذي أثبت مصداقيته عبر العديد من المواقف، والتي صارح أعضاءه وطبقته وجماهيره بها عبر مسيرته منذ نشأته. راجعوا مواقفه المعلنة وتقارير مؤتمراته المنشورة على الملأ.
وهذا يحدونا إلى استلهام العبر والدروس من تجارب الانشقاق والتي جابهتها الجبهة بقوة الوحدة الداخلية وقوة موقفها الجماهيري. وللعلم، فقد ساهم المنشقّون في خلق حالات التفتّت للقوى التقدّمية والعلمانية في الساحة الفلسطينية على الأقل، وبالتالي في تقوية تسلّط اليمين الفلسطيني والاستفراد بمقاليد القرار السياسي والتنظيمي والمالي. وكان هذا أحد أهم أسباب وضعنا الحالي للأسف.
العودة إلى الحزب، أو أقلّه إلى الوطن، هي البداية الصحيحة للارتقاء بالمسار الثوري حتى لا أقول البديل


ثم ما فائدة الشعارات الثورية إن لم تكن مقرونة بحزب يعمل بدأب لتنظيم وتثقيف طبقته وعامة الناس، ويذرف الشهداءَ في الداخل (الأمين العام السابق الشهيد أبو علي مصطفى مثلاً) وفي الخارج (الشهيد البطل عمر النايف مثلاً) والأسرى (أمينه العام الحالي أحمد سعدات مثلاً) والمشرّدين يومياً، ثمناً زهيداً لفلسطين محرّرة ولمجتمع عربي موحّد؟ ثم كيف تقيّمون تراجع ثورية حزب ما زال إلى اليوم يواجه طعنات الظهر من السلطة الفلسطينية الذليلة النفس وأساليب ومواقف حركة «حماس» غير المؤتمنة، من جهة، وفاشية الكيان الصهيوني، من جهة أخرى، في قتل وملاحقة عناصره شبّاناً وشابات، طلّاباً وطالبات حتى من داخل الحرم الجامعي، واعتقال أعضاء قيادته في الداخل (خالدة جرار مثلاً) والتعذيب الوحشي حتى الاستشهاد البطيء لقائد تاريخي من مثل عبد الرحيم ملوح؟
أنتم محقّون في الإشارة إلى انقباض دور وتمدّد الأحزاب العلمانية الماركسية العربية والفلسطينية تحديداً. إلّا أنّ هذا ليس الحقيقة كلّها بالتأكيد. الأمور أعقد من ذلك بكثير. ونحن في مرحلة تحرّر وطني تتطلّب بناء جبهة وطنية عريضة، لا العمل الأحادي. وهذا ما يوجب التمسّك بالدعوة إلى الوحدة الوطنية رغم طبيعة من تتمسّك الجبهة بالوحدة معهم في الظرف الراهن لطغيان التناقض مع الكيان الصهيوني على التناقض مع زمرة السلطة والمنتفعين منها. أقول هذا كمن يناقض نفسه، لأني مثلكم، يكاد صدري ينفجر من هؤلاء المسخ!
من منا، نحن من ندّعي التقدمية، ليس مستاءً من ظلامية أحوال القضية الفلسطينية وأزمة اليسار الماركسي عربياً وعالمياً؟ لا أستثني نفسي كواحد من آلاف. لكننا لا نملك، ولو للحظة واحدة، أن نتصرّف بذهنية البرجوازية الصغيرة (الطبقة الوسطى) التي تتميّز بقصر النفس والفردية والتذبذب، ولا تتحلّى بصبر وعناء العامل والمستخدم والفقير والمسحوق. فهذه الطبقة، بينما ترنو إلى التغيير، غير متجانسة، ولذا فهي قاصرة عن أن تملك نظرية مجتمعية جامعة. وأفرادها لا يملكون إلّا أحد ثلاثة خيارات: الانتظام في أحد أحزاب الطبقة العليا ليرتقوا طبقياً، أو في أحد أحزاب الطبقة العاملة ليلتحموا بالنضال، أو الهجرة (كما هو حادث في مجتمعاتنا بشكل مروّع)! فأي خيار سنختار نحن أصحاب التقدمية والكلام الثوري؟
المشكلة الكبرى كانت وما زالت في تغريب، أملاً في التغييب الكامل، للخطر الصهيوني وكيانه السرطاني على وجودنا البشري والثقافي وتقدّمنا الحضاري. وعلى هذه الرافعة، تمّ تقزيم وتغريب القضية الفلسطينية من الوعي العربي عموماً، وإن لم، ولن، يتم تغييبها.
ويبقى هذا مربط الفرَس! أنّ الذي أجرم جرماً لا يغتفر بحق فلسطين والعرب كان للأسف من أبرز «أصحاب القضية»: ياسر عرفات وزمرته الوريثة في منح تنازلات أوسلو الخيانية والمجانية، ممثلين لشريحة يمينية رثة من البرجوازية الفلسطينية، الشريحة التجارية والمقاولة، والملتحمة علاقاتها بالرأسمال العالمي، وهي طمحت إلى تبوّؤ مركز قرار سياسي («بالمشمش!» على قول العامية الفلسطينية الساخرة) لمصلحتها التجارية والريعية، ولو على حساب أربعة عشر مليون فلسطيني وفلسطينية متمسّكين بحق العودة، وآلاف الشهداء والأسرى والمعوّقين ومخيّمات اللجوء على امتداد دول الطوق والأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. وهذا ما فتح باب السد العربي وإغراقنا جميعاً في فيضان التحالفات الرجعية مع الكيان الصهيوني. فالاستيطان الاستعماري الصهيوني، وهو إحلاليّ دائماً بطبيعته وأسباب وجوده، لا يتوانَى للحظة عن تجديد أساليبه وأشكال تمدّده السرطاني المميت، ولو أنّها كلّها تقوم على قاعدة التغلغل في مسام وخلايا الجسد العربي ووجدانه تمهيداً لإماتته وإحلال ديمومة الكيان الصهيوني على أنقاضه.
إلّا أنّ فلسطين تبقى قاطرة الوضع العربي والقلب النابض في جسده العام. وعلى قواها التقدّمية والعلمانية تحديداً تقع المسؤولية الأكبر والأثقل والأكثر جدية. فهل يكترث المستعمر وعبيده المستعربون لطائفتك أو مذهبك أو دينك قبل الإجهاز عليك وعلى مستقبلك وكلِّ ما تحلم به؟
يشرح ستالين، في كتابه «أسس اللينينية»، الأسباب التي جعلت من روسيا مركز الثورة البروليتارية عالمياً، والموطن الثوري للانقلاب على الاستعمار والقيصرية: «إنّ الاستعمار لم يؤدِّ فقط إلى أنّ الثورة أصبحت شيئاً لا بدّ منه من الناحية العملية، بل أدّى أيضاً إلى تكوُّن ظروف ملائمة للهجوم المباشر على قلاع الرأسمالية»!
وفي وضعنا العربي الحالي، فإنّ الثورة شيء لا بدّ منه بالتأكيد (فالأمور لم تعد تحتمل) ونحن نشهد تجلياتها العديدة والمباركة على المستوى العربي عامّة. كان ستالين، ولينين قبله، محقّين عند استعمال تعبير «الهجوم المباشر على قلاع الرأسمالية»! فقد ربطا بين دحر الإمبريالية في وطنهما والانقلاب على الأوضاع الطبقية وسحق ممثلي المصالح الرأسمالية في روسيا. وذلك بهدف تطبيق سلطة الطبقة العاملة، دكتاتورية العمّال والفقراء والمحرومين، على طريق بناء المجتمع الاشتراكي الوافر للجميع.
في حالنا العربي اليوم، لا تزال الهوة متّسعة في وطننا العربي بين الأهداف الثورية، المعلنة والصادقة عند غالبية قوى التحرير (لبنان حزب الله والمقاومة، فلسطين العراق واليمن كأمثلة) من جهة، وتغييب المقاصد الطبقية والاجتماعية بعد التحرير، من جهة أخرى. فهذه المقاصد هي التي تنير استراتيجية التحرّر الاجتماعي وبناء الأوطان. وهنا تحضرني رسالة إنغلز إلى ماركس عند تساؤل الأخير عن أسباب تلازم ظاهرة الدين الدائمة رغم قرون من التغيّرات السياسية والاجتماعية عند العرب. فقد حلّل أنّه بينما كانت التحوّلات الطبقية الكبرى في أوروبا تنتج أنماط إنتاج مغايرة تتصدّر في كلّ منها طبقة مسيطرة جديدة تقضي على النمط القديم وتقيم علاقات إنتاج نقيضة وفكراً متقدّماً وقوى إنتاج متطوّرة عن السابق، فإنّ المجتمعات العربية (كباقي مجتمعات نمط الإنتاج الشرقي) كانت تشهد صراعات بين جماعات متباينة على السلطة، تتبدّل فيها عصور وعصائب ووجوه حاكمة. إلّا أنّ أيّاً منها لم يقترن بحفر وترسيخ أنماط إنتاج مغايرة وأكثر تطوراً وقوى إنتاج عاملة جديدة. (لا يخفى أنّ العلاقة بين الإمبريالية والدول المستعمرة قد تبدّلت منذ زمن كتابة الرسائل في أواخر القرن التاسع عشر).
ويضيف ستالين، في كتابه «الأسس اللينينية»: «إنّ ميل المناضلين العمليين إلى عدم الاهتمام بالنظرية يخالف بصورة مطلقة روح اللينينية ويحمل أخطاراً عظيمة على القضية»!
يتضمّن هذان القولان، في حالنا الراهن، عناصر مهمّة لكلّ من يريد التمسّك بحتمية النصر على الكيان الصهيوني والإمبريالية وجرذانهما المحليين.
• نضوجٌ متكامل والتقاء لكل العوامل الموضوعية والذاتية قبل الانتقال إلى مرحلة الانقضاض على خراب ومخرّبي الحاضر وترسيخ مرحلة أعلى، على نهج التحرير الكامل. فأين هذه من تلك في حالنا نحن؟
• ثم إنّ أوضاعنا المزرية والممتدّة لقرون، لم تغيّر في تشتّتنا الجغرافي والتقسيمي فقط، بل أيضاً في تفتيتنا الفكري والثقافي والنظري. فأضحى كلٌّ منّا جزيرة منفصلة في أرخبيل غير متجانس. وهكذا، استقوينا ببعض تاريخنا الماضي على حساب التمسّك بالنظرية الثورية والانفلات من التنظيم والجماعة.
لذا يصبح لزاماً علينا أن نعي أنّ الموقف السياسي التقدّمي المناصر للثورة والتحرير، والمستعدي للإمبريالية والصهيونية لا يكفي. فهذا، وهو طبعاً حميد ومطلوب، لكنّه في آن نوع من السهولة والطبطبة الذاتية، حتى ولو ترافق مع إنشاء شبكات جماهيرية مناصرة لفلسطين في المهاجر. فالأكثر أهمية هو التمسّك بالتراث الماركسي اللينيني لتوعية الذات والجماهير. وهذا ضعيف، إن لم يكن غير ممكن في زمن الأرخبيلات الفكرية الفردية، خصوصاً ونحن غرباء في دول المستعمر ونحمل من التغيّرات النمطية والطبقية والفكرية والاجتماعية الكثير من الفردية والانفصال عن نضال جماهيرنا الحي أو العيش وسط الطبقات العمالية والمسحوقة والمستغَلّة في كل أرجاء هذا الوطن العربي المشرّح، والفلسطيني الممزّق!
العودة إلى الحزب، أو أقلّه إلى الوطن، هي البداية الصحيحة للارتقاء بالمسار الثوري، حتى لا أقول البديل.
*كاتب فلسطيني