رغم كلّ الخلافات القديمة والجديدة بين اللبنانيين: قوى سياسية، وأحزاباً، وحتى أفراداً... فإنّ الجميع متّفق، الآن، على أنّ أزمة بالغة الخطورة، فادحة الخسائر، ما زالت تضرب البلد وناسه من دون أن يوضع لتفاقمها وتماديها حدّ، ولو بشكل جزئي. هذا طبعاً، عرّض ويعرّض البلاد لأسوأ الاحتمالات والكوارث والمخاطر...بالدرجة الأولى، قوى السلطة أو النظام أو «المنظومة»، هي المتّهمة، وهي، قطعاً، المسؤولة عنها. بدت هذه القوى عاجزة تماماً عن قبول أو تقديم أبسط نوعٍ من المعالجات التي من شأنها الحدّ من الأزمة أو من تداعياتها المدمّرة. بل هي، أو القسم الأكبر منها، لا تزال تراوح في ممارساتها السابقة لجهة المضي في التنافس على السلطة وعلى المكاسب، وبالأسلوب السابق نفسه: أسلوب التحاصُص والصفقات والفساد والنهب وقلّة المسؤولية... مقرونة بفئوية جامحة تتلطّى بالطائفة والمذهب وسيلة لخدمة مصالح كبار المتحكّمين بمؤسّسات السلطة وموارد البلاد ولقمة عيش المواطن، فضلاً عن أمنه ومستقبله ومصائره جميعاً.
رغم كلّ ما حصل وسيحصل، تُواصل هذه القوى استنزاف البلد والمواطن إلى حدود الموت! يكشف ذلك أمرَين على الأقل: الأول، أنّ هذه القوى التي لم ترتقِ إلى مستوى، ولو بسيط، من المسؤولية الوطنية، في ظروف كارثية ومأساوية كالظروف الحالية، هي ليست فقط، قوى عاجزة، بل هي ساقطة بكلّ المقاييس! الثاني، هو أنّ هذه القوى هي وليدة منظومة متكاملة، سياسية واقتصادية واجتماعية... وهي تتغذّى من هذه المنظومة وتغذّيها في علاقة تفاعلية جدلية محكمة. وهكذا، تتكافل وتتكامل المنظومة مع مكوّناتها فتصبحان كياناً واحداً لا تنفصم عراه. وفاقاً لهذه المعادلة، يصبح التغيير ممكناً فقط من خارج البنية القائمة المختلّة والفاسدة، وبإبعاد مكوّناتها المتورّطة والمستفيدة، ما يتطلّب شروطاً وتوازنات مختلفة ونوعية ما زالت، واقعياً، غير متوفرة حتى الآن.
أخطر من ذلك، أنّ قوى السلطة التي يخوض أطرافها معارك يومية ومتواصلة، يحرصون في الوقت نفسه، على إيهام الناس بأنّ المشكلة إنّما تكمن في مواقف وسياسات الخصم، وليس في الصيغة نفسها التي تفاقمت أضرارها على النحو المخيف الذي يعيشه اللبنانيون على الصعد كافة.
ساعَدَ منظومة التحاصص على المضي في تجاهل معاناة المواطنين ومآسيهم المتلاحقة، عجزُ المحتجّين الذين اندفعوا، في المراحل الأولى، بشكل واسع وصاخب ومقلق للسلطة بكل تلاوينها، عن التشكُّل في حركة واحدة، منظّمة ومصمّمة، يجمعها هدفٌ واحد، وتفعِّل حركتَها آليات وأولويات واضحة وحازمة وسليمة. تكرّر، ويتكرر إلى الآن، قول من نوع «بدنا حقوقنا» و«كلّن يعني كلن». وفي تدقيق بسيط، يتبيّن أنّ مثل هاتين العبارتين يخفي غياباً تامّاً وفادحاً لوعي المشكلة والهدف. ثمّة، في حقيقة الأمر، حالة من التشرذُم والضحالة. ثمة أيضاً، أهداف مضمرة تقفُ وراءها جهات أجنبية غالباً ومحلية أحياناً. وهي أهداف من النوع الذي لا يمكن إعلانه مبكراً خشية فشل الخطة التي أنفق وينفق من أجلها الكثير من الجهد والمال، خصوصاً من قبل الإدارة الأميركية التي أعلنت بنفسها إنفاق أرقام هائلة على مدى سنوات متواصلة. ورغم رفع شعارات ضدّ الطائفية، والمحاصصة والفساد من قبل المحتجين، فإنّ الصورة لم تتبدّل والحراك لم يتحوّل، أبداً، باتجاه بلورة صيغة وبرنامج للاحتجاج الشعبي المعارض يصوِّب على الخلَل القائم في منظومة المحاصصة، منظومة النهب والفساد والتبعية والفئوية... استفادت منظومة المحاصصة أيضاً، من تشرذُم قوى التغيير التقليدية التي عجزت عن أن تتشكّل، هي بدورها، في نطاق تيار موحّد حول إطار وبرنامج وأولويات. فهذه القوى، مبدئياً وموضوعياً، هي وحدها القادرة على صياغة برنامج شامل يعالج الأزمة بشكل صحيح، ولا ينزلق إلى التفريط بالإيجابيات والإنجازات الوطنية، وخصوصاً في حقل التحرير والمقاومة ضدّ العدو الصهيوني وحماته.
يقتضي الإنصاف الإشارة إلى أنّ الانتفاضة الشعبية قد نجحت في جذب مئات الآلاف إلى الساحات. هي قد أقلقت، حقاً، قوى السلطة المتحكّمة، وكشفت الكثير من زيف منظومتها السياسية والدعائية التي عزّزتها خلال عشرات السنوات. يجب أيضاً تسجيل أنّ جائحة «كورونا» قد قدّمت خدمة كبيرة لمنظومة التحاصُص، ما حدَّ من التحرّك الشعبي حتى في صورته العفوية وغير المنظمة. لكنّ ذلك لا يُلغي حقيقة أنّ البديل لم يكن قيد التبلور، ولو في الحد الأدنى من شروط ولادته، التي كان ينبغي أن يسرِّعها وينضجها شرط موضوعي ملائم إلى أقصى الحدود.
في السياق، وبعدما تفاقم الصراع، أخيراً، بين أطراف المنظومة إلى حدّ العجز عن تشكيل حكومة (بعد اعتذار الرئيس المكلّف السابق وقبله استقالة حكومة الحريري)، تحرّك رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة، سعياً لبناء تحالف يجمع كلّ أو معظم مكوّنات فريق 14 آذار السابق. يشكّل تحرّك السنيورة استكمالاً لمبادرة البطريرك بشارة الراعي. وهو يحاول استثمار الأزمة في السياسة وفي الشارع (أحداث طرابلس الأخيرة ليست خارج هذا السياق)، مواصلاً مواقف وتوجّهات عُرفت له، خصوصاً أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006. في بعض كلام الرئيس السنيورة، في جولته على مراجع وقوى سياسية، ما يذكّر بماري أنطوانيت وهي تطالب الناس باللجوء إلى البسكويت بدل الخبز! لكنّ الرجل ليس بهذه الخفّة. لقد توجّه بعد لقائه رئيس البرلمان، إلى فريق محدّد من المواطنين مطالباً إياهم، بشكل مباشر، بالانفضاض عن المقاومة (وضمناً عن العداء لإسرائيل)، وذلك لكسب «دعم المجتمع الدولي والعربي»، وبالتالي حلّ الأزمة الاقتصادية.
ما كان يُعمل له بشكل غير مباشر، في الشارع وفي الغرف السفاراتية المغلقة، يلخّصه علناً الآن مشروع السنيورة الذي يبدي غيرته الزائفة على دولة لم يتورّع عن نهبها عندما كانت مقدّراتها المالية تحت تصرّفه وزيراً ورئيساً للحكومة (أحد عشر ملياراً وليس كوكباً!). يلاقي مشروع السنيورة «صفقة القرن» الترامبية إلى أكثر من منتصف الطريق. هو، فعلياً، صدى للسياسة الأميركية حيال لبنان والمنطقة (والقضية الفلسطينية خصوصاً) كما عبّر عنها، مباشرة، المسؤولون الأميركيون وخصوصاً سفيرتهم في لبنان.
طبعاً، مشروع السنيورة، الذي ينتمي إلى الحقبة الترامبية، سيتعثّر جزئياً بعد سقوط ترامب. لكنّ جوهر السياسات الأميركية لن يتغيّر. الأمور بالغة الخطورة: المواجهة ينبغي أن تكون، إذن، بالغة الجدية!

* كاتب وسياسي لبناني