مع خروج «الترامبية» من المشهد مؤقّتاً، على وقع ملاحقتها القانونية ومحاولات»حظرها»، حتى كإطار للعمل السياسي أو التنظيمي خارج المؤسّسة، يبدأ المشهدان الداخلي والدولي بالتغيُّر تدريجياً. الأولويات بين الإدارتين ليست مختلفة فقط، بل متناقضة جذرياً، وإن كان الأداء لجهة الملفّات الاستراتيجية يحمل رمزية الاستمرارية، على اعتبار أنّ المشهد الدولي لم يعد كما كان قبيل مغادرة الرئيس الأسبق باراك أوباما المنصب، في عام 2016. فما حقَّقه الرئيس دونالد ترامب، منذ ذلك الحين، في ملفّات أساسية مثل الحرب التجارية مع الصين وتضييق الخناق على إيران بالحصار والعقوبات، يُعتبر بالمعايير الخاصّة بالمؤسّسة إنجازاً يتعيّن عدم التفريط فيه، بحيث تكون الإدارة الديمقراطية له بمثابة استمرارية لما أُنجز، ولكن بأدوات مختلفة، وبنهجٍ أقلّ تصادمية بكثير، عنوانه: العودة إلى سياسة «التدخّل الإنساني».
التشدّد تجاه روسيا
لكن ما ينطبق على هذين الملفّين الاستراتيجيين، لا ينسحب بالضرورة على ملفّات أخرى في السياسة الخارجية لا تقلّ أهمية عنهما، وعلى رأسها العلاقة مع روسيا. فهنا الأولوية، بخلاف منهج ترامب في التعامل مع موسكو، هي للتشدّد في الملفّات التي تعتبر إدارة جو بايدن، ومن ورائها الدولة العميقة، أنّها تمثّل عبر المقاربة الروسية المعتمَدة لها، تهديداً استراتيجياً للمصلحة الأميركية. وهو ما عبّر عنه بايدن، بصراحة، في أوّل اتصال هاتفي، عقب تنصيبه، بينه وبين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. فقد أكّد في الاتصال، وبلهجة لا تخلو من تصلُّب، أنّ التراجع أمام «عدوانية روسيا» لم يعد ممكناً، وأنّ الثمن الذي ستدفعه موسكو لقاءَ سلوكها سيكون مرتفعاً. ويمكن اعتبار تحريك قضية المعارض الروسي البارز أليكسي نافالني، عقب تنصيب بايدن مباشرةً، وما صَدَر عن الولايات المتحدة وأوروبا من مواقف إثر توقيفه في روسيا، بعد العودة من ألمانيا، بمثابة تلويح لموسكو بالعودة إلى السياسة التي عبّر عنها بايدن في اتصاله، والتي كانت متّبعة قبل مجيء إدارة ترامب إلى الحكم. ويُستثنى من هذا المنهج المتشدِّد، الإنجاز الذي تحقّق أخيراً بتمديد معاهد الحدّ من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية «ستارت 3»، لأنّ التمديد هنا يدخل في إطار الحفاظ على الاستقرار الاستراتيجي في العالم، وهو أمرٌ يحظى بإجماع دولي، حتى بين أشدّ الخصوم السياسيين. وأهميته بالإضافة إلى ذلك، أنّه يأتي عقب انسحاب الإدارة السابقة من معاهدتين أخريين للحدّ من التسلّح، ما يضفي قيمة أكبر على الحفاظ على هذه المعاهدة، ولو في سياق اشتداد التصعيد بين الجانبين. والحال أنّ هذا الانسحاب الترامبي لم يكن يحمل ملامح عداء منهجي للروس، كما يفعل الديمقراطيون حالياً، بقدر ما كان يعبّر عن معارضته للنهج المتعدِّد الأطراف في إدارة العلاقات الدولية، إذا لم يكن يصبّ، من وجهة نظره، في مصلحة الولايات المتحدة. الصقورية التي نشهدها حالياً في السياسة الديمقراطية تجاه روسيا، ستنعكس بالضرورة على مسارح الصراع التي تشهد ربط نزاع بين الطرفين، سواءً في مناطق النفوذ الروسي داخل القوقاز ودول البلقان، وخصوصاً في أوكرانيا وبيلاروسيا، وحتى في نزاعات لا وجود فيها لأيٍّ من الطرفين مباشرةً، مثل قره باخ، أو أبعد قليلاً، حيث الوجود الروسي في سوريا مثلاً، والذي تشهد التسوية فيه جموداً منذ سنوات، بسبب استنفاد أدوات الحلّ السياسي، وآخرها مسارا آستانا وسوتشي. بهذا المعنى، ستحصل مقايَضة معاكِسة لتلك التي اعتمدها ترامب، فبدل التشدّد مع الصين وإيران لرفع الثمن مع الروس، ستكون المواجهة مع روسيا هي المدخل لجعل احتواء الصين وإيران، عبر سياسة القوّة الناعمة، أكثر سهولة وقابلية للتحقُّق.

العودة إلى سياسة «التدخّل الإنساني»
في العلاقة مع الحلفاء خارج إطار «الأطلسي»، ثمّة تحوّلات أيضاً، لا تقلّ أهمية عن تلك التي تشهدها نظيرتها، مع الخصوم. المدخل لهذا التحوّل، كما في المنهج السابق، هو التراجع عن سياسة المصلحة المباشرة التي اعتمدها ترامب، والتي فضّل من خلالها أن يكون التدخّل الإمبريالي للولايات المتحدة لمصلحة الحلفاء بدون أقنعة، أي في الدول التي تقع على عاتق الولايات المتحدة حمايتها، عبر القواعد العسكرية، البحرية والبرّية. بالنسبة إلى الرئيس السابق، وخلافاً للسياسات الأميركية المتعاقبة جميعها، فإنّ الحماية لا يجب أن تكون مكلفة، ويجب أن تصبّ في مصلحة الولايات المتحدة مباشرةً، عبر تحصيل الثمن فوراً، سواءً عبر دفوعات نقدية لمصلحة الخزينة الأميركية كما حصل مع السعودية، أو من خلال مقايضة الحماية باتفاقات إقليمية تضمن لهذه الدول ليس فقط «استقراراً» ومنافعَ ماديةً على المدى البعيد، بل أيضاً مظلّة حماية بديلة، في حال انقلاب الإدارة الجديدة على ما اتُّفق عليه. هذه الفلسفة التي تقف خلف اتفاقات التطبيع العربية مع إسرائيل، برعاية أميركية، هي أولى ضحايا العودة إلى سياسة «التدخّل الإنساني»، والتي كانت المدخل سابقاً لغزو العراق، وحتى لتسريع عملية انهيار الإقليم في ما بعد، تحت شعار دعم الاحتجاجات العربية. وكما حصل التدخّل سابقاً بحجّة حماية الشعوب من قمع الأنظمة، سيحصل حالياً بذريعة إيقاف الحروب على الشعوب نفسها، ولكن هذه المرّة بوجهة مختلفة تستهدف تقليم أظفار المَلَكيات التي لم تمسّها الموجة السابقة من «التدخّل الإنساني». الديمقراطيون يعتبرون أنّ هذا الشكل غير المباشر من التدخّل، والذي سينهي حالياً حرب اليمن، ويحدّ من نفوذ السعودية في الإقليم، يخدم المصلحة الأميركية أكثر بكثير من المنهج السابق الذي اعتمده ترامب، وأدّى فضلاً عن استمرار المجزرة في اليمن - على اعتبار أنّ الرجل لم يبدأها كالعادة - إلى تضرّر النفوذ الأميركي في الخليج والمنطقة عموماً، عبر حرمانه من خيارات القوّة الناعمة. إنهاء الحرب، حتى لو استغرق وقتاً، سيضع حدّاً للربط بين التطبيع وحماية الملَكيات، اقتصادياً وأمنياً، لأنّ نفوذ السعودية سيكون قد تضرَّر كثيراً بعد الخروج من اليمن، وبالتالي ستُجبَر الملكيات التي تدور جميعها في الفلك السعودي على مراجعة السياسات التي أفَضَت إلى الربط بين مصيرها ومصير إدارةٍ، لا تعبِّر سياساتها عن مصالح الولايات المتحدة على المدى البعيد.

عقبة الانقسام في الداخل
في كلّ هذه السياسات، والتي تمثّل عمقاً فعلياً للاستراتيجية الأميركية، نشهد عودة مُبرَمة و»نهائية» عن «الترامبية»، سواءً في السياسة أو في الاقتصاد. الملفّات السياسية بدأت تظهر بسرعة أكبر، لأنّها تشي فوراً بسياسات الإدارة الجديدة على الصعيد الدولي، وخصوصاً لجهة طمأنة الحلفاء الذين تضرّروا كثيراً من انعزالية ترامب، وانكفائه عن التدخّل المعتاد لحمايتهم والتنسيق معهم في الملفّات التي تعبر عن المصلحة الغربية، عموماً. ولكن حتى في الاقتصاد، بدأت تظهر ملامح لسياسة بايدن، تُنبئ أيضاً بالتراجع عن الحمائية التي ميّزت عهد سلفه، والتي دفع الحلفاء أكثر من سواهم ثمنها، على صعيد فضّ الشراكات التجارية المتعدّدة الأطراف، والالتزام بالمصلحة الأميركية وحدها، لجهة حماية الصناعات الأميركية، عبر فرض الرسوم الجمركية على دول حليفة مثل ألمانيا وفرنسا، بغية الحدّ من تنافسيتها تجارياً. المراسيم التنفيذية العديدة التي وقّعها بايدن منذ تنصيبه رئيساً، تصبّ في هذا الاتجاه، وخصوصاً لناحية العودة إلى اتفاقية باريس للمناخ، كإطار لمعاودة الانخراط الأميركي في السياسات البيئية العالمية الخاصّة بالحدّ من الاحتباس الحراري. هذا الملمح لسياسة الديمقراطيين، والذي سيتبلور أكثر مع اتضاح جدّية الإدارة في الحدّ من الاعتماد على الوقود الأحفوري في إنتاج الطاقة وتصديرها، هو بمثابة تحدٍّ فعليّ على المستوى الداخلي، لأنّ اعتماده كسياسة عامّة للديمقراطيين، اقتصادياً وبيئياً، سيزيد من حدّة الانقسام الداخلي، كون هذه الصناعة هي أحد مصادر الثروة الأساسية في البلاد. الفائض الكبير الذي تحقّق للاقتصاد الأميركي في عهد ترامب، أتى من هذه الصناعة تحديداً، إلى جانب صناعات أخرى، مثل التعدين والتكنولوجيا وسواهما، والتخلّي عنه من دون وجود بديل، وفي ظلّ أزمة اقتصادية مستمرّة، سيُفقِد المزيد من الأميركيين وظائفَهَم، وخصوصاً في الأوساط العاملة التي لا يَعتبر الديمقراطيون أنفسهم معنيين بالدفاع عن مصالحها، أسوةً بشرائح أخرى، تحظى بأفضلية لديهم، على خلفية انتمائها السياسي أو ميولها الثقافية والعرقية. الانقسام بهذا المعنى لا يقتصر على الموقف من «الترامبية»، سياسياً، فمناصرو ترامب الذين اقتحموا «الكابيتول»، وتسبّبوا بكلّ هذه الفوضى السياسية، قبيل تنصيب بايدن، لم يفعلوا ذلك دفاعاً عن ترامب فحسب، بل عن مصالحهم الطبقية أيضاً، لأنّ خبرتهم مع الليبرالية التي يتبنّاها الديمقراطيون ليست جيّدة، ولن تقود، في حال تعايشوا معها مجدداً، إلّا إلى المزيد من انقسام الطبقة العاملة، وإفقارِها، بدعوى استعادة ثمار العولمة، التي أضاعها ترامب.
*كاتب سوري