مرّ عيد مار مارون هذا العام (التاسع من شباط/ فبراير) وحالة من القلق والضياع تسود طائفته: بين لبنان القوي والجمهورية القوية والمواطن المهاجر والمهجر وبين فائض القوة وفائض الضعف، أسئلة وجودية من دون جواب يقيني.وأصدق تعبير عن واقع الموارنة اليوم : أسطورة "حفرون ونفرون" من تراثهم خلاصتها:

حفرون البكر بقي في الجبل "يحفر" الأرض ويعارك الطبيعة القاسية. أما نفرون أخوه الثاني فـ"نفر" لضيق المجال الحيوي ورحل عن الجبل الصخري وسافر في درب المغامرة.

يقول الأب ميشال حايك : "الموارنة غلاة في كل شيء، هكذا هو مناخ الجبل بتناقضات فصوله يعكس على أخلاقهم أضداده العنيفة... فهم أكثر الناس تقدمية إذا أمنوا، وأشدهم رجعية إذا فزعوا".
إلى متى سيبقى الماروني مغالياً في الانعزالية وفي الانفتاح؟
إلى متى سيبقى أسير جدلية الجبل من جهة وما يمثل من رجولة وكرامة وتمسك بالأرض ومن جهة أخرى البحر وما يجسّد من رغبة في الهجرة والسفر والمتاجرة والسمسرة؟
فأين هم اليوم من أسطورة حفرون ونفرون؟
لا يزال حفرون اليوم يطحن الصخر ليؤمّن لقمة العيش الكريم والمسكن اللائق وحبة الدواء وقسط المدرسة في ظروف اقتصادية صعبة وأزمة اجتماعية خانقة وفرص عمل معدومة.
التحدّي الكبير الذي يواجه الموارنة وجميع اللبنانيين هو أي اقتصاد نريد؟
هل اقتصاد الجبل قادر على إدخالهم في عصر العولمة وزمن الأسواق الإقليمية وضرورات الشراكة مع أوروبا، ونحن عاجزون عن تطبيق خيار الإنتاج وترشيد الاقتصاد وتنظيم العلاقات مع سوريا ومع الأسواق العربية؟
حفرون يحفر الجبل لكنّ طحن الصخر لم يعد يشبع وكذلك السفر لم يعد يغني. الهجرة اليوم هي التحدي للموارنة وجميع اللبنانيين فهي تطاول الشباب والقوى المنتجة والمبدعة والمتخصّصة. هجرة الأدمغة تُفقر البلد من المعرفة والعلم والثقافة. الهجرة في أزمة ونفرون لا يزال ينفر من ضيق العيش في وطنه ومن عجز وفساد السلطة السياسية وتجدّد دورات العنف وتكرار الأسباب التي ولّدت الحروب الأهلية.

نفرون نافر من أيديولوجية التيئيس التي تطلّ عليه كل يوم من خلال عنتريات وخطب رنّانة وشعارات جوفاء وآفاق مسدودة. نفرون نافر من التملّق والنفاق والتكاذب وغياب ثقافة سياسية واستراتيجية تبني له دولة يطمئن لها بدلاً من كوخ للتهجير أو محطة للهجرة.
والسؤال المطروح في الواقع هو كيف نضع حداً لهذا النزيف البشري وأي كرامة لوطن من دون سكانه؟
أسطورة حفرون ونفرون ما زالت حاضرة في الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وفي الأمية السياسية المستشرية وفي التعصّب الأعمى والعنصرية القتّالة وفي الفوضى والفساد والغش.
هذا هو الواقع......فماذا عن المرتجى؟
لا رجاء خارج بناء دولة مدنية قوية عادلة قادرة على تطبيق القانون على الجميع وتحقيق المساواة بين المواطنين وتوفير العدالة الاجتماعية، ما يولّد الهُوية الوطنية الجامعة.

المرتجى يبدأ بإبداع صيغة حضارية للهوية الوطنية التي تقدم جواباً واضحاً وحاسماً عن طبيعة العلاقة بين المارونية والصهيونية من جهة وبين المارونية والعروبة من جهة أخرى.
المارونية الحضارية رسالة محبة وتسامح وعطاء تستلهم القدّيس مار مارون شفيعها وشفيع الكنيسة المارونية الذي تتفيّأ روحانيته وهو الناسك الذي عاش قرب حلب وقهر ذاته ليحيا الآخر. بينما الصهيونية هي حركة عنصرية توسّعية عدوانية تستلهم يهوه الذي يجسد الغضب والقتل ويميز شعب الله المختار عن سائر البشر ويحضّ أتباعه على السيطرة وإلغاء الآخر.
بين المارونية والصهيونية تناقض حضاري عميق الجذور، وعلى المعنيين درس هذا التناقض واتخاذ موقف واضح وصريح، خاصة بعد أن تورّط بعض اللبنانيين بعلاقات مشبوهة ومدانة مع "إسرائيل".
ماذا عن علاقة الموارنة بالعروبة؟
إنها علاقة في طبيعتها مميزة ناتجة من الهوية المشتركة التي تجمع الموارنة مع بيئتهم المشرقية الإنطاكية، على أن تصاغ الهوية بلغة واضحة وتعابير صريحة بعيدة عن الالتباس والازدواجية، حتى تكون السياسة التي يلتزم بها لبنان متطابقة مع الجذور الحضارية والهوية الوطنية.
هل يستطيع لبنان تخطّي أسطورة حفرون ونفرون؟ أم هو أسير جدليّة الجغرافيا التي كتبت تاريخه بين السفر في المكان القريب والبعيد أو عبر الزمان الماضي والآتي ... فكانت حياته مشقّة وضياعاً.

* كاتب وناشر لبناني