من الواضح أنّ الاحتجاجات في أوكرانيا قد تطوّرت إلى حدّ لم يعد ممكناً معه الركون إلى مقاربات تقليدية للكتل المنتفضة. حدث ذلك في مصر سابقاً، لكنه في الحالة الأوكرانية بدا أكثر دراماتيكية وأقرب إلى «ما نعرفه» عن تحلّل الدولة وانتشار الاحتجاج في أنحائها كافة. لنقل إنّ السلطة هناك لم تعد قادرة بفعل توسّع الاحتجاج أفقياً على التحكّم بما يجري رغم مجيئها على أكتاف انتفاضة شعبية أيّدتها «غالبية الأوكرانيين».
لا أعرف إن كانت تسمية غالبية تصحّ بعد الآن، لكن قبل شهرين أو ثلاثة كانت هذه هي الحال فعلاً. على الأقلّ هذا ما ظهر لنا من خلال التغطية الإعلامية المحمومة التي واكبت تظاهرات ميدان الاستقلال، إذ لم نلحظ أنّ ثمّة حضوراً في المشهد للشرائح المؤيّدة لحكم يانوكوفيتش، ما خلا بعض التظاهرات المحدودة هنا وهناك. قد يكون غياب حزب الأقاليم وجمهوره في تلك الفترة وراء الإرباك الذي يشعر به المراقبون، وهم يعاينون انحسار موجة الاحتجاجات المؤيّدة لليمين، واتّساع ظاهرة الاحتجاجات المضادة التي انطلقت من شبه جزيرة القرم ولمّا تنته حتى الآن. في الحقيقة هي ليست احتجاجات مضادة، ولو فكّرنا في خلع اسم مماثل على أيّ ظاهرة لا تروق لنا أو لا نفهمها كما يجب لكفّ الاحتجاج عن كونه كذلك، ولأصبحت العلاقة السببية بينه وبين التهميش الذي تمارسه السلطة في خبر كان. في حالة يانوكوفيتش حدث السقوط بسبب مبالغة الرجل في تهميش خصومه السياسيين، ولكون روسيا التي دعمته ووقفت وراءه مرفوضة شعبياً في المناطق الغربية من أوكرانيا (سآتي لاحقاً على ذكر مقاطعة «لفوف» التي خرقت الإجماع في «الغرب» وبدأت تحتجّ على تعيين السلطة محافظين تعتبرهم فاسدين). هذا الرفض حظي بتغطية إعلامية مكثّفة -وخصوصاً من جانب الغرب-، و»بولغ به» إلى حدّ أنّنا لم نعد نسمع شيئاً عن الطبقات والشرائح الاجتماعية التي كانت تؤيّد تاريخياً الشيوعيين والقوميين المؤيّدين لروسيا (حزب الأقاليم)، وبالتالي اختزلت أوكرانيا بميدان الاستقلال، وأصبح كلّ ما يجري خارجه نافلاً، أو غير مؤثّر. ومع أنّ الجميع كان يعلم بوجود احتقانات اجتماعية في جنوب وشرق البلاد، بما في ذلك الغرب المؤيّد لاحتجاجات كييف، إلا أنهم آثروا الإسراع في تسليم السلطة إلى اليمين لكي تصبح مقدّرات البلاد كلّها في يد الحكم الجديد. ربّما اعتقدوا أنّهم بذلك سينتزعون المبادرة من يد الرافضين للحكم، ويبدؤون بفرض سيطرة شاملة وتدريجية على أجهزة الدولة، وخصوصاً في المناطق التي يوجد فيها نفوذ كبير لحزبي الأقاليم والشيوعي المرتبطين في نظر الغرب بروسيا. على هذا الأساس تركت الساحة للفاشيين وأنصار «القطّاع الأيمن»، وأصبحت مشاهد التعرّض بالضرب للشيوعيين وأنصار يانوكوفيتش السابقين (آخرها كان الهجوم على رئيس كتلة الحزب الشيوعي بالبرلمان أثناء توجيهه انتقادات للسلطة على تهميشها للأقاليم وعدم النظر كما يجب إلى مطالبها) أمراً عادياً، لا بل مقصوداً لذاته. الأرجح أنّ السلطة الجديدة في كييف قد اختارت هذه السياسة على نحو منهجي لكسر إرادة معارضيها أو غير الممتثلين لها كفاية، فبعدما حصل في القرم أضحى التعامل مع التناقضات الاجتماعية محكوماً بالهاجس الأمني وحده، وبالتالي لم تعد المعالجات السياسيّة واردة بالنسبة إلى السلطة. بهذا المعنى يصبح تحميل الروس المسؤوليّة عن انفصال القرم من جانب أبواق ليبرالية ونيوليبرالية مدعاة للسخرية فعلاً، ففضلاً عن الاحتقار الذي يكنّه هذا التأويل السياسوي اليميني للكتل والطبقات الشعبية المنتفضة، هنالك أيضاً التقليل من شأن العامل الاقتصادي الاجتماعي الذي لعب دوراً كبيراً في عملية تحريك الجماهير وحضّها على الاحتجاج والانتفاض ضدّ سلطة كييف. وهو دور لا يقلّ أبداً عن التأثير «المبالغ فيه» - برأيي- لعامل الهويّة، والذي مثّله في حالة القرم تهميش اللغة الروسية وحجبها عن التداول. والحال أنّ تداول اللغة بحدّ ذاته ليس سبباً للاحتجاج، فهذه الأخيرة لم تكن معتبرة كلغة ثانية قبل التعديل الذي أجري على الدستور عام 2012، وسمح بموجبه باعتبارها لغة رسمية بعد اللغة الأوكرانية. حينها لم تكن الأسباب الموضوعية للاحتجاج في القرم موجودة رغم حصول قدر من التهميش بحقّ السكان من أصل روسي، وما أوجدها لاحقاً هو توسّع القاعدة الاجتماعية للاحتجاج وعدم اقتصارها على جهة بعينها. لنقل أنّ الأساس في الاحتجاج هو تضافر الرغبة والقدرة، وقد أدّى انهيار سلطة يانوكوفيتش على يد محتجّي الميدان إلى توفير هذا الشرط، وبالتالي أصبح بالإمكان نقله بسهولة إلى بيئات اجتماعية أخرى لا تتوافق مع السلطة التي أتى بها «الميدان»، ولا تشعر بأنّها ممثّلة لها على أيّ صعيد. وهذا كلّه رغم أهميّته ليس سبباً لتجذّر الاحتجاجات على النحو الذي خبرناه في القرم، ولا لتحوّلها إلى دافع للانفصال والاستقلال عن أوكرانيا. ننسى أحياناً أنّ سياسات السلطة هي المحدّد الرئيسي لما يجري، وفي أوكرانيا تحديداً كانت هي المسؤولة عن جرّ الاحتجاجات في القرم إلى الانفصال والمطالبة بفكّ الارتباط مع الوطن الأم. وهذا ليس بالأمر الجديد بالمناسبة، فقد خبرناه في كثير من الانتفاضات التي قامت في السنوات الثلاث الأخيرة، وتجذّرت عبر أساليب مختلفة منها الردّ على عنف السلطة بعنف «مماثل» (أذكر على سبيل المثال لا الحصر احتجاجات محمّد محمود في مصر التي اكتسبت طابعها العنفي من تجاهل السلطة لمطالب المحتجّين واعتمادها الخيار الأمني تجاههم، عبر ذراعها المتمثّلة بوزارة الداخلية).

■ ■ ■


من تجربتنا نعرف أنّ المراحل الانتقالية التي تعقب الثورات أو الانتفاضات الشعبية تحتاج إلى توافقات، على الأقل «حتى يستقرّ الحال بالبلد». وبعد ذلك يستؤنف الصراع، على اعتبار أنّه سيصبح في هذه الحالة دستورياً أكثر وممثّلاً على نحو أفضل للفئات الشعبية المختلفة التي نهضت بالاحتجاجات (والتي لم تنهض بها أيضاً). وهذا على الأرجح ما كان ينتظره سكّان القرم، غير أنّهم لم يجدوه، لا بل فوجئوا بالسلطة وهي تفعل عكسه تماماً، ربطاً بالأولويّات التي تخصّها والتي تجعل منهم في أفضل الأحوال مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة. و«ما لا تعلمه السلطة» أنّه في حال تكرّر مأزق القرم في مناطق أخرى وأصبح نموذجاً قابلاً للتعميم (ما يحدث في دونيتسك ولوغانسك ليس بعيداً كثيراً عما حصل في القرم) فإنّ الدولة الأوكرانية لن تعود كما كانت، وستصبح أيّ سلطة مركزية في كييف مجبرة على التعاطي مع الاحتجاجات ومطالب الأقاليم كأمر واقع. بكلام آخر لن تعود الدولة قادرة بعد تجذّر الاحتجاجات وتوسّعها على حكم «أيّ شبر من أوكرانيا». حتّى البيئات المحسوبة على السلطة الجديدة بدأت بالاحتجاج على وضعها الاجتماعي، وإن في سياق مختلف عن السياق الذي حصلت فيه احتجاجات الشرق والجنوب. ففي مقاطعة «لفوف» الواقعة غرب البلاد اقتحم عشرات المحتجّين يوم 8 نيسان/ ابريل مقرّ النيابة المحلّية، مطالبين بالعزل الفوري للمسؤول القضائي الجديد المعيّن من جانب سلطات كييف فلاديمير غوراليو. وبحسب موقع «روسيا اليوم» (كونه يمثّل ذراعاً إعلامية للسلطة في روسيا لا يعني أنّ الأخبار التي يأتي بها ليست صحيحة، فالحكم عليه وعلى غيره من المواقع الإخبارية لا يشمل تقويم الخبر، وإنما مسائل التحليل السياسي والسياسة التحريرية العامة، والتي هي بالطبع تخدم سياسات روسيا «التوسّعية» تجاه أوكرانيا، تماماً كما تفعل المواقع الإخبارية المؤيّدة للغرب وسلطة كييف) فإنّ الشرطة لم تتمكّن من التصدّي للمحتجّين. وهذه ليست المرّة الأولى التي يقع فيها احتجاج مماثل في الغرب، وتحديداً في «لفوف»، إذ سبق للناشطين هناك أن احتجّوا ضدّ النائب العام المحلّي السابق المعيّن من قبل كييف أيضاً. طبعاً، ستأخذ الاحتجاجات في الغرب وقتاً حتى تتبلور أكثر، فقاعدتها الاجتماعية ليست كبيرة، كما أنّها رهن بتذليل العقبة التي يمثّلها عامل الهوية، إذ من المعروف عن المناطق الغربية من أوكرانيا تأييدها الشديد للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ولا يبدو أنّ هذا الانحياز سيتأثّر في المدى المنظور بالعامل الاقتصادي الذي يصوغ وعي السكّان في المناطق الشرقية ويدفع باحتجاجهم إلى الأمام.

■ ■ ■


لا يجب أن ننسى في هذا السياق تأثير القاعدة الصناعية التي يعتمد عليها اقتصاد البلاد، فهي موجودة في الشرق (تحديداً في مقاطعة دونيتسك حيث صناعات الفحم والحديد والصلب والكيماويات والآلات الثقيلة و... إلخ)، ووجودها هناك يتيح للسكّان فرصاً كثيرة للعمل، الأمر الذي يجعلهم أكثر تصميماً من غيرهم على مناوءة السلطة التي تهدّد سياساتها بحرمانهم من التشغيل. نفهم من ذلك أنّهم لا يحتجّون فقط على تهميشهم مناطقياً أو لغوياً. ومن يعتبر أنّ هذا هو الأساس في احتجاجهم لا يختلف كثيراً عن اليمين الذي يحكم على تحرّكاتهم في ضوء موقفه من روسيا. من المؤسف أيضاً أن نرى يساريين هنا يشاطرون اليمين الأوكراني موقفه، فيصرفون النظر عن العوامل الاقتصادية التي أجّجت الاحتجاجات في مقاطعات مثل خاركوف ودونيتسك ولوغانسك، ويتعاملون مع المهمّشين اقتصادياً كما لو كانوا أبواقاً للإيجار فحسب! التدخّل الروسي الذي يتذرّع به هؤلاء للتقليل من أهميّة الفعل الاحتجاجي هناك موجود بالفعل، ولكنه ليس الأساس في ما يحدث، تماماً كما لم يكن التدخّل الغربي في اسقاط يانوكوفيتش أساسياً، رغم حضوره الملحوظ عبر الممثّليات الدبلوماسية الغربية في كييف. كلّ ذلك ليس مهمّاً أمام ما تعاني منه الطبقات الاجتماعية المحتجّة والمنتشرة في شوارع المدن الأوكرانية الشرقية والجنوبية (وقبل ذلك الغربية). هؤلاء يخشون الآن على مدّخراتهم ومكتسباتهم الاجتماعية وفرص عملهم، وكلّها باتت مهدّدة بشروط اتفاقية الشراكة مع أوروبا التي ستنهي عملياً الصناعات الثقيلة في الشرق، وتحوّل أوكرانيا إلى سوق استهلاكية للمنتجات الأوروبية. هذه الخشية لا تظهر كما يجب في الاحتجاجات التي ترفع مطالب الفدرلة والحكم الذاتي، إلا أنّها تقبع في خلفيّة أيّ تحرك، وكونها - أي الاحتجاجات - متمركزة أكثر في المناطق التي تكثر فيها الصناعات والتجمّعات العمالية فهذا يعني أنّها ذات منحى اقتصادي اجتماعي بالضرورة.
من تجربتنا نعرف أنّ
المراحل الانتقالية التي تعقب الانتفاضات الشعبية تحتاج إلى توافقات


لا يضع اليسار الامتثالي كلّ ذلك في اعتباره، ويركّز فقط على ما تفعله روسيا هناك، وكيف تجنّد الميليشيات المحلّية وتحضّ على الفدرلة والمطالبة بالحكم الذاتي. لنحاول مجاراة هؤلاء في هذيانهم، ولنلق نظرة على الميليشيات التي يتّهمونها بالعمالة لروسيا وتحريض السكان على الاحتجاج والمطالبة بالانفصال. أوّل من أمس السبت، استولى حوالى ألف شخص من المعارضين لسلطات كييف الجديدة على مبنى بلدية سلافيانسك الواقعة في مقاطعة دوناتسك، ورفعوا فوقه علم روسيا بحسب عمدة المدينة نيلا شتيبا. إذا كانت هذه المسؤولة موالية لروسيا بالفعل، ومنحازة إلى رؤيتها للصراع فهل سيغيّر ذلك من الوقائع التي تذكرها؟ تقول السيدة شتيبا: «بالأمس وجهت رسالة إلى رئيس الوزراء الأوكراني طالبته فيها ببدء التفاوض. واليوم نزل جميع سكان سلافيانسك إلى الشوارع تأييداً للنشطاء (الذين دخلوا مقر البلدية)، وأنزلوا العلم الأوكراني من هناك وبدّلوه بالعلم الروسي». ثمّ واصلت: «سنجري الاستفتاء. والذي يحدث هنا يدعو السلطات الأوكرانية إلى التفكير. أنا على يقين بأنهم (السلطات الجديدة) سيعلنون غداً عن إجراء الاستفتاء في أقاليم أوكرانيا. لكن، يا ترى، لماذا لم يسألوا الشعب عما يريده من قبل؟». الحديث نشره بحسب «روسيا اليوم» موقع «slavgorod.com.au» المحلّي، ولأنه يسلّط الضوء على مساحات يجري طمسها يومياً في الإعلام السائد وغير المتحمّس لاحتجاجات المقاطعات الجنوبية والغربية سأتابع إيراد مقطتفات منه. بعد إيضاحها لما يحدث في مدينتها تقول عمدة سلافيانسك: «92 في المئة من مصانع ومؤسسات المدينة تتعاون مع روسيا، ومن المهم بالنسبة لنا أن نحتفظ بعلاقات الشراكة مع هذه الدولة. يجب على السلطات في كييف أن تسمع أن الشعب يريد الحوار والاستقرار والسلام والأمن». وأردفت: «لقد ذهبت المدينة كلها للدفاع عن الشباب الذين استولوا على مبنى البلدية. وإذا أصرت السلطات على قمع الانتفاضة، فسيؤدي ذلك إلى مقتل الكثير من المدنيين، يجب ألا نسمح بهذا». الحديث هنا يدور عن انتفاضة وعن طبقات اجتماعية عريضة تساند احتجاجات الشبان الذين استولوا على مبنى البلدية. هذه وقائع، وليست تحليلات سياسية خاضعة لتجاذبات المحاور الدولية وصراعاتها. ماذا سيفعل اليسار حيالها، وبماذا سيتحجّج لرفضها وابقائها في دائرة التنازع حول الروايات والسرديات المهيمنة؟ ما الفرق أصلاً بين الإدارة الذاتية التي يطالب بها هؤلاء في أوكرانيا والحكم المحلّي القائم بالفعل في أكثر من منطقة سورية خارجة عن سيطرة النظام؟ من البديهي أن يكون الفعلان متطابقين، ولكن من المستغرب أن تجري المفاضلة بينهما على أساس «الهوية». يندر أن تجد يساراً يفعل ذلك، وإذا وجدته فتأكّد أنّه يشتغل لدى اليمين ويخدّم على رأسمالييه.
* كاتب سوري