سنحاول عبر المثال الآتي أن نبيّن المقصد من مقولة أنّ «الصّين مختلفة»، وأنّ النماذج الجاهزة والتنميطات التقليدية لا تنطبق دوماً عليها - أو على أيّ مكان آخر. النماذج والنظرية قد تتحول بسهولة إلى سجن فكري وأيديولوجي، بمعنى أنّي لا أحتاج لأن أعرف عن الصّين، كتجربة اجتماعية وتاريخ «حقيقي»، بل عليّ أن أعرف عن النظريّة والنماذج، وحين أتمكن من وضع الصّين في فئةٍ أو تصنيف ضمنها، أكون قد فهمت كلّ ما أحتاج لفهمه.في بحثٍ عن استخدام الأرض في الصّين*، يشرح شاوهوا جان أنّ الصّين تقف اليوم أمام مفترق طرقٍ «تاريخي». على الرغم من عملية التمدين الكبيرة وانتقال مئات الملايين من الرّيف إلى المدن، لا يزال الرّيف الصّيني يضمّ أكثر من 45% من اليد العاملة في البلد. وأكثر هؤلاء يعملون في القطاع الزراعي في حيازاتٍ عائلية صغيرة يملكون حق التصرّف بها وبإنتاجها. هذه نسبة مرتفعة جدّاً بالنسبة إلى بلد «صناعي» (في كوريا أو اليابان أو تايوان، وصلت نسبة سكّان الريف إلى أقل من عشرين في المئة من مجمل السكان مع تحوّل هذه البلدان إلى دول صناعية تعتمد على التصدير).
ملصق يمجّد «الثورة الثقافية» في الصين أواسط الستينيات.

في هذه «المرحلة» من التنمية، أنت لديك أكثر من طريق سلكه من سبقك. الخيار المحافظ هو أن تترك الحال كما هو عليه، فيستوعب الريف كتلةً كبيرة من اليد العاملة في القطاع الزراعي التقليدي، ولا تضطر لخلق ملايين الوظائف الصناعية لاستيعاب هؤلاء. ولكن الريف هنا سيكون أقلّ إنتاجيةً من المدن، وهذا التناقض سيتّسع كلما تقدّمت حالة التصنيع في المدن الصّينية حتّى نصبح في بلدين مختلفين؛ وهذا - لأسباب داخلية وسياسية - غير ممكن في الصّين. على الجانب الآخر، هناك «الطريق الآسيوي»، ومختصره أن تعطي هذه الأراضي الزراعية إلى شركات رأسمالية كبيرة، تستثمر في المكننة ولا توظّف الكثير من العمّال؛ وتشجّع هذه العائلات الريفية على الانتقال إلى المدن والعمل في القطاع الصناعي والتّصديري. هنا، سيصبح لديك عجزٌ غذائي (فمئات الملايين من المنتجين أصبحوا مستهلكين للغذاء)، ولكنها ليست مشكلة، يشرح جان، لأنّ قيمة عمل هؤلاء في الصناعة أكبر بكثير من قيمة المنتج الزراعي، وفي وسعك ببساطة أن تستورد الغذاء بجزءٍ من قيمة عملهم. هذا ما حصل في كوريا وتايوان واليابان، حيث هبط الاكتفاء الغذائي، مع التصنيع، من حالة اكتفاءٍ أو فائض إلى ما دون الـ60 في المئة، وأصبحت هذه الدول تستورد كميات كبيرة من الغذاء والحبوب. ولكنّ هذا الطريق، هو الآخر، ليس متاحاً للصين. لا لصعوبة المهمّة، ولكن لأنها «مستحيلة». يكتب شاوهوا جان أنّ الصّين، كبلد، تصدّر أكثر بكثير من كوريا أو تايوان، ولكن المواطن الكوري والتايواني والياباني يصدّر أكثر بكثير من المواطن الصّيني كمعدّل - 6 إلى 8 ثمانية أضعاف. بمعنى آخر، حتى توظّف الصّين مئات الملايين من المزارعين في الصناعة والخدمات، وتصبح لديها بنية اجتماعية شبيهة بتلك التي في المجتمعات الصناعية المتقدّمة، فهي تحتاج لأن تنتج وتصدّر ستّة أضعاف المقدار الحالي، والعالم ببساطة لا يتّسع لكلّ هذا الإنتاج. في الوقت نفسه، لا يزال معدّل الاكتفاء الذاتي الزراعي في الصّين قريباً من الـ90 في المئة، وإن انخفض - ولو بعشرة في المئة - فإن أسواق الغذاء والزراعة في العالم كلّه سوف تنفجر، وقد تحصل مجاعات، وسنحتاج إلى برازيل وكندا أخرى فقط لكي نلبّي هذا الطلب المستجدّ.
العبرة هنا ليست فقط في أنّ الصّين لا يسعها تقليد حلولٍ ونماذج سابقة، سواء تلك المستقاة من الدّول التي أتمّت عملية التصنيع باكراً أو تلك التي نجحت في التنمية خلال القرن العشرين، وأنّ عليها اجتراح مفهومٍ خاص عن العلاقة بين المدينة والزراعة وعن التنمية الريفيّة ومعناها السياسي. هذه «المعضلة» تُظهر أيضاً كيف أنّ كلّ قرارٍ تتّخذه الصّين ويوجّهها في طريقٍ محدّد يؤثّر، بالضرورة، على حال الكوكب بأكمله وعلى شكل الرأسمالية نفسها. في كتابٍ جديدٍ له عن الصّين («طريق الصّين إلى التنمية: في معاكسة الليبرالية»، دار سبرينغر)، يتكلّم علي القادري أيضاً عن هذه الديناميّة، ليقول بأنّ الفصل بين «الوطني» و«الأممي» مستحيلٌ في حالة الصّين، فكلّ فعلٍ - وإن كان دافعه «قومياً» - ستكون له مفاعيل كونيّة تمتدّ وتتشعّب، وأنّ هذا هو المفتاح لفهم ما يجري اليوم بين الصّين وأميركا.

مرافعة الدّفاع
تنتشر في بلادنا، إجمالاً، ثلاث نسخٍ من الخطاب السياسي الذي يعادي الصّين. أوّلاً، هناك حجّة أن الصّين نظامٌ شيوعيّ، غير ديمقراطي، لا يحترم الحقوق الفردية ويقمع الحركات الديمقراطية في الداخل وفي هونغ كونغ، وأنّ مجرّد صعود الصّين على حساب الغرب، كقوّة ونموذج، سيمثّل هزيمةً للديمقراطية وحريّات الشعوب؛ فالوقوف ضدّ الصّين، إذاً، هو موقفٌ ديمقراطيّ. توجد أيضاً، بالتوازي، فكرة أنّ النظام الصّيني ملحدٌ يعادي الإسلام، وهو يضطهد المسلمين الإيغور في شينجيانغ ويحتلّ أرضهم ويمارس فيها الإحلال الديمغرافي؛ فالوقوف ضدّ الصّين، إذاً، هو موقفٌ اسلاميّ. تجد، أخيراً، من يشير إلى أنّ الصّين الحاليّة هي نظامٌ رأسماليّ لا يختلف عن القوى الغربية التي تنافسها، وأنّ صعودها لن يعني سوى خلق قوّةٍ إمبريالية جديدة، تجاور أميركا أو تأخذ مكانها وتسلّط على العالم الممارسات ذاتها؛ فالوقوف ضدّ الصّين هنا هو من منطلق يساري واشتراكي.
حجّة علي القادري، باختصار، هي أنّ هذه العوامل لا علاقة لها بالصراع الذي يحتدم بين بيجينغ والحلف الغربي، ولا حتّى التنافس التجاري. المسألة هي أنّ استمرار نمط التنمية الصّيني في حدّ ذاته، وتدوير أكثر القيمة داخل الصّين ورفض اعتناق النيوليبراليّة، هو كفيلٌ بتغيير قانون القيمة في العالم وتجفيف «الرّيع الإمبريالي». ستزداد استقلالية دول العالم الثالث وستقلّ فرص الإمبرياليّة في «المراكمة عبر الهدر» والتدمير. هذا هو السبب الوحيد للهجمة الغربيّة والهدف هنا واضح، يقول القادري: إمّا أن ترضخ الصّين وتنتظم في نمطٍ نيوليبرالي يسمح باستنزاف الفائض وإخراجه منها أو ــ وهو ما يرجّحه ــ أن تُعزل ويتمّ ضربها وإزهاق قدراتها على طريقة دول الاتحاد السوفياتي السابق - وعملية التدمير هذه ستمثّل، في ذاتها، فرصةً هائلة لتراكم الريع في المركز الغربي.
الموضوع الأساس هنا هو النيوليبرالية، والنيوليبراليّة تمثّل عند القادري التمظهر الحالي لرأس المالي على شكل خطاب وأيديولوجيا. إن كانت الرأسمالية في جانبٍ منها هي عملية استهلاكٍ للبشر والطبيعة، فالنيوليبرالية هي تكثيفٌ وتسريعٌ لهذه العمليّة. يحكم القادري بأنّ اعتبار الصّين «نيوليبرالية» هو مزحةٌ بأيّ مقياس. هذا ليس فقط بسبب عوامل اقتصاديّة، مثل أنّ الدولة تتحكّم بحركة رؤوس الأموال، وتمتلك الأرض (والعقار، وتحويل الأرض إلى سلعة، هو أساس الرأسمالية الحديثة)، أو لأنّ 70% من العمّال الصينيين لا يعملون في مؤسسات «رأسمالية» (هم إمّا يمتلكون إنتاجهم أو يعملون في هيئات ومؤسسات عامّة)، بل قبل ذلك كلّه لأنّ قيادة الحزب الشيوعي في الصّين، حتّى حين قدّمت تنازلات «عمليّة» وإصلاحات سوقيّة، فهي لم تغيّر خطّها النّظري أو تحرفه، بل حافظت على «القلب» العقائدي كما كان (على عكس حالة السوفيات وخروتشوف، يلاحظ القادري). ولكنّ الدّليل ليس في النظريّة والتنظير، بل في الواقع والتّاريخ ومصير مليارات البشر. الصّين ليست الدولة الوحيدة التي سجّلت نموّاً في العقود الماضية، ولكن النتائج كانت، في الصّين، مختلفةً تماماً عن دول «النمط النيوليبرالي». يذكر القادري مثالاً أنّه بين عام 2008 و2019 فحسب، ارتفع معدّل دخل العامل الصيني ثلاثة أضعاف (أي أنّ نمط حياتهم اليوم، ومعيشتهم واستهلاكهم، يختلف جذرياً عن حالهم قبل سنوات قليلة). الهند أيضاً سجّلت أرقام نموّ عالية جدّاً، ولأعوامٍ طويلة، وبعد هذا كلّه لا يزال أكثر الريف الهندي اليوم يحصل على سعرات حرارية أقل من دول أفريقيا جنوب الصحراء. النيوليبرالية، كأيديولوجيا وسياسات، تضمن أن يحصل النموّ عبر الاستنزاف، وهذا حال أكثر دول الجنوب، حتّى وهي «تنمو»: إمّا عبر بيع المواد الأولية وتدمير الطبيعة، أو تصدير العمّال والمهاجرين، أو الاستدانة وبيع الأصول. الاستدانة، مثلاً، هي وسيلة ممتازة لهذا «النموذج» من النموّ: تحكم نخبةٌ كومبرادورية وتستدين على حساب الأجيال القادمة، وتحقق أرقام نموّ لسنوات وتصنع ثروات، ثمّ يدفع الفقراء ثمن ذلك مرّتين: مرّةً لأنهم سيحملون العبء الأكبر من دفع الدّيون عبر الضرائب، ولأنّ العجز المالي الذي تسبّبه الديون سيكون حجّة لسياسات التقشّف ووقف الاستثمار في الشّعب. سياسات التقشّف وانعدام الاستثمار في القدرات الإنتاجية للمجتمع هي، في ذاتها، أشكالٌ للهدر والإزهاق (هم سيعيشون أقلّ، ويموتون «بسهولة»، ويضيع إنتاجٌ وإبداعٌ محتمل لن يتحقّق). وحين يقع النظام، أخيراً، في أزمة وانهيار، ننتقل إلى النّمط الثاني لـ«التراكم الإمبريالي»، أي التراكم عبر التدمير والحرب وإزهاق القيمة والأرواح، ولكن بوتيرةٍ سريعةٍ هذه المرّة.
الأيديولوجيا النيوليبرالية هي الواجهة البراقة لمجتمع يتم استنزافه عبر الهدر، وفئاتٌ تثرى وتكسب على حساب الأذى والتخريب الذي يلحق بالغالبية


النمط الصيني، في المقابل، انتشل منذ الثورة أكثر من مليار إنسان من حالة الفقر والجهل والاستباحة الخارجيّة، وحوّل فائض القيمة إلى استثمارٍ في المجتمع وقاعدته الإنتاجية، وهو اليوم يحاول إصلاح الضّرر الذي ألحقه التصنيع بالطبيعة والبيئة، بدلاً من اعتماد سياساتٍ ربحيّة لا يحكمها غير السّوق. ويرى القادري أن سياسات الصّين تجاه العالم الثالث تساهم، باطراد، في مزيدٍ من الاستقلالية لهذه الدّول، وحماية لها من التدخّل الغربي. دور الصّين كان أساسياً في منع سقوط دولٍ مثل كوبا وإيران وفنزويلا وكوريا الشمالية، وإلحاقها بدورة التدمير، ولكن الصّين أيضاً تقوم عبر مبادرات مثل «الحزام والطريق» بتدوير قسمٍ من الدولارات التي تملكها (وشراء الدولارات والدين الأميركي هو بمثابة «جزيةٍ» تدفعها الدول للإمبراطورية) على شكل استثمارات وبنى تحتية لدول الجنوب. العديد من البلدان، مثل إثيوبيا وباكستان ودول شرق آسيا الفقيرة، تمكّنت من اعتماد سياسات وخططٍ تنموية كانت، ببساطة، مستحيلة ولا يمكن تصوّرها لولا التمويل والمساعدة الصينية. واليوم في ظلّ الوباء، وهو محكّ حقيقي للأولويات، تقول التقارير (والمصدر هنا «واشنطن بوست» الأميركية) إن الدول المنتجة للقاحات في أوروبا وأميركا تتّخذ سياساتٍ بتوفير المناعة لشعبها بنسبة 70% قبل تصدير الجرعات إلى الخارج، بينما الصّين ــ التي كان لها السّبق في البدء بالتلقيح ــ ستؤجّل وصول شعبها لهذه الدرجة من المناعة حتى أواخر العام، والسّبب هو أنها قد أرسلت ملايين الجرعات، وتعهّدت بإرسال مئات الملايين غيرها، إلى دول الجنوب.
الفكرة هنا ليست أنّ الحزب الشيوعي الصّيني فيه «جوهر اشتراكي» ينحو دوماً ضدّ الرأسماليّة، أو أنّه انعكاسٌ وتمثّل مؤسسي لـ«الطبقة العاملة»؛ الحزب الشيوعي تتخلّله مصالح وتيارات متنوّعة، وقراراته تشكّلت دائماً بحسب السياق التاريخي ومتغيّراته، وأكثر ما يدفعه اليوم إلى معاندة الطريق النيوليبرالي، يحاجج القادري، هو هذه المواجهة التي اشتعلت مع الغرب. العاصفة القادمة، ورهاناتها الجسيمة، تجعل تأمين مصالح الأكثرية الصينية أولويّةً لا يمكن تجاهلها، والحفاظ على دعم الفلّاحين (الفئة الأهم للحزب) مسألة استراتيجية، فتوفير الأمن المادّي والاجتماعي للطبقة العاملة قد أصبح هنا من «ضرورات الحرب» (في حين أنّ علاقة تصالحية وتحالفية مع النظام الدولي تشجّع الأنظمة على فرض سياسات رجعية على شعبها).
يعتبر الكاتب أن الغرب، في حماسه لإسقاط القوة السوفياتية، قد ارتكب ما يشبه «الخطأ التاريخي» حين سمح للصين بالتبادل والاندماج مع الاحتفاظ بسيادتها. وهو اليوم يحاول تدارك هذا الخطأ. بطبيعة الحال، ستعتمد الصّين نظاماً سعريّاً حين تندمج في الاقتصاد العالمي؛ اعتبارها «رأسمالية» من هذا الباب، عند القادري، هو مجرّد تكرارٍ لحجّة اليسار الغربي الذي، كلّما خرجت حركة تحاول أن تحوز استقلالية عن الغرب في العالم الثالث، تصمها بأنها لا تستحق الدّعم لأنها «مجرّد رأسمالية دولة»، ولم تبنِ المجتمع الشيوعي في خطوةٍ واحدة. ولكنّ من يوازي بين «الرأسمالية الصينية» و«الرأسمالية الأميركية» هو، قبل أيّ شيءٍ آخر، لا يفهم قانون القيمة وطبيعة «التراكم الإمبريالي». سنشرح هذه الفكرة في القسم الأخير ولكنّ المغزى هو أنّك لا يمكن أن تفهم الاقتصاد العالمي عبر العرض والطّلب وحركة الدولارات وحدها، مقابل التراكم الذي يحصل عبر الإنتاج، هناك التراكم الذي يحصل عبر الهدر والتّدمير، وهذا أهمّ وأرباحه أكبر وهو مكمّلٌ للأوّل.
لهذا السّبب لا يمكنك أن تفصل «صادرات» أميركا وصناعاتها عن حروبها حول العالم، ولا يمكنك فصل نظام الدولار وهيمنته، أو الامتيازات التكنولوجية الغربية، عن ما يسميه أنور عبد الملك «فائض القيمة التاريخي» (الذي تأسس عبر العنف في القرون الماضية، ويستمرّ اليوم عبر الحروب والسيطرة، وهو لا يزال يؤمّن ريعاً وامتيازات مستمرّة). أن تنظر للاقتصاد على مستوى الأرقام فحسب، وعبر النظرية الاقتصادية السائدة، هو عند القادري هرطقة، أو نوعٌ من «تصنيمٍ» للأرقام يعزلها عن تاريخها الحقيقي: «الاقتصاديّات هي العامل المحدّد في المقام الأخير، ولكن السيطرة الاجتماعيّة هي العامل المحدّد للاقتصاديّات». هذه النظرة التبسيطية هي ما يجعل البعض ينظر إلى «الرأسمالية الأميركية»، بشروطها وحروبها والتراكم عبر التدمير المستمرّ، على أنها و«الرأسمالية الصينية» شيءٌ واحد ومن الطبيعة ذاتها. من هنا أيضاً نفهم أنّ الصراع على السّيادة والاستقلال ليس صراعاً «رمزياً» أو شعاراتيّاً، أو حتى لأهداف التمثيل («أن نحكم أنفسنا بأنفسنا»، إلخ)، بل هو أساساً صراعٌ على الموارد وتوزّعها وعلى التصرّف بفائض القيمة الذي يمثّله هذا البلد وطبيعته وأرواح أبنائه. هذا من الأسباب التي تجعل أميركا تصرّ على ضرب أيّ تجربةٍ استقلالية وتدفيع أهلها ثمناً باهظاً، ومحاصرتها ومنعها من التنمية قدر الإمكان، وذلك لكي لا يحصل الناس هناك على «عوائد السيادة»، بل يعيشون الفقر والأزمات وتصبح فكرة الاستقلال والصراع من أجله، في عقول الكثيرين، عبارة عن عبءٍ وقلّة حكمةٍ وانتحار. قد تعجز «الدولة الوطنية» عن أداء مهامها في حفظ الثروة واستثمارها في الشّعب وتطويره، كما حصل في الصّين، وقد تصبح فاشلةً أو ناهبةً أو عبئاً، ولكنّ المهم هنا هو الاستنتاج الذي نخرج به من هذه التجارب: هل هو في التخلّي عن السيادة، والمراهنة على «الفهلوة» و«التفاوض»، على أمل أن تقع المصائب على غيرنا؟ وأن نحظى نحن بمصير الاستنزاف البطيء وليس الانهيار أو الحرب المدمّرة؟

هامش وخاتمة: عن «الهدر» كقيمة
مفهوم الهدر والإزهاق (waste) مركزيّ في كتابات علي القادري. وهو يبدأ نقده للماركسيين الغربيين من أنهم يحصرون مفهوم القيمة في نموذج «العمال على خط الإنتاج في المصنع»، كما في بريطانيا في أواخر القرن التاسع عشر، ولا يأخذون في عين الاعتبار دور الهدر والتدمير وإنهاء الحياة البشرية بشكلٍ مبكر في تشكيل القيمة وتوجيه الريع على مستوى العالم. حتّى حين يحلّل هؤلاء الحروب الإمبريالية فهم يتتبعون أثرها فقط عبر الإنفاق العسكري وأرباح شركات السّلاح والصفقات التجارية إلخ، أي عبر «حساب الدولارات» الشكلي، ولكنهم لا يأخذون في الاعتبار أنّ التدمير هو في ذاته «إنتاج»، وعوائده تفوق أرباح صفقات السلاح بكثير.
ولكن هذا المفهوم، على أهميته لفهم القادري، نظريٌّ ومعقّد لدرجةٍ ليست قليلة، وأسلوب القادري لا يساعد (التقيت بالقادري مرّةً في بيروت وطلبت منه أن يشرح لي بعض النقاط التي وجدتها غامضة عن العلاقة بين قتل البشر وارتفاع مستوى الأرباح في مكانٍ آخر، فتكلّم لعشر دقائق بلا توقّف وهززت برأسي أنّي فهمت، ولكنّي لم أفهم). ولكن هذه النقطة مهمة لا لفهم الصين أو الإمبريالية أو العلاقات الدولية، بل لأنها تنطبق على مستوياتٍ مختلفة في الحياة، وتوسّع فهمنا لأمور مثل «الفساد» و«الاستغلال». سآخذ المثال إلى مكانٍ آخر: حين نتكلّم عن صحافي فاسد أو قاضٍ أو موظّف أو أمني «فاسد»، يفعل أيّ شيءٍ لأجل المال وقد راكم الكثير من الأصول من خارج راتبه، وتملّك منزلاً فخماً وسيارةً فارهة إلخ. كيف نضع «رقماً» على هذا «الفساد»، وهل هذا الرقم يعبّر عنه؟ سيقوم الكثيرون باحتساب القيمة المادية لهذه الرشاوى والصفقات، الفيلا والسيارة والرصيد في البنك، والمجموع سيمثّل مقدار «الجناية». ولكنّ هذا حسابٌ قاصر، الفساد هنا يحوي دائماً على «أذى» وتدمير: هناك أناسٌ دخلوا السّجن بسببك، توجد عائلات تدمّرت، شركات أفلست، إلخ. قيمة هذا «الأذى» تفوق دوماً، بكثير، القيمة «الدولارية» للفساد. وهي ليست «عارضاً جانبياً» بل مكوّنه الأساسي، الأذى والهدر هنا هو «إنتاج»، وأنت تتلقّى جزءاً من فائضه (عبر أن تجعل العالم مكاناً أسوأ). لهذا السبب يُقال دوماً إنك حين تشترك في فسادٍ أو تتسامح معه، فإنّك ترتكب آثاماً لا تعرف أنت نفسك منتهاها.
مثالٌ مختلف: لدي زملاء من جيلي في لبنان، درسوا الهندسة في أفضل جامعاته (وأغلاها ثمناً)، والهندسة هنا هي من الاختصاصات القليلة التي تعطيك مهارات حقيقية. وهم عملوا في أكبر شركات البلد، وقضوا حياتهم في «الإنتاج» على مستوى عالٍ، يصمّمون مولات في دبي ومباني فخمة في بيروت؛ أمور حقيقية ولها «قيمة». وبعد عمل عشرة أو خمسة عشر عاماً على مستوى عالٍ، يقلّ دخلهم كلّهم تقريباً - قبل «الأزمة» - عن الألفي دولار شهرياً (أي أنّك ستعيش جيّداً في بيروت فقط إن تزوّجت زميلك في الدّفعة). في الوقت ذاته، يعمل لبنانيّ بلا تعليمٍ حقيقي أو تدريبٍ حقيقي أو مهارات حقيقية في الإعلام الخليجي، فيحصل على أضعاف دخلهم ويعيش حياةً لا يحلمون بها («المهارات» هنا هي بالمعنى الرأسمالي التبادلي، وليس بمعنى تقييمك لنفسك وقدراتك). هل هذا يعني أنّه «ينتج» أكثر من المهندسين؟ أو أنّ المسألة هي في الحظّ و«الفهلوة»، ودخلك هو انعكاسٌ لجدارةٍ ما فيك ومهارةٍ في أكل الكتف؟ (تقول الكاتبة الأميركية آنا وينر في مذكراتها عن العمل في «وادي السيليكون» إن مفهوم «الجدارة» بين هؤلاء المحظيين - وهو الموازي لـ«الشطارة» في بلادنا، هو عبارةٌ عن «أيديولوجيا بديلة» لأناسٍ تمكّنوا، بشكلٍ ما، من النجاة والازدهار فيما هم البؤس والفقر يتمدّد حولهم، وهم لا يملكون تفسيراً بنيوياً لهذه الحالة). الدّور الذي تلعبه هنا لصالح الخليج أو الغرب ليس في بذل «إنتاجك» و«قوة عملك»، بل في الوجه الآخر لما تساهم به: حروب تجول المنطقة، إهدار ثرواتٍ وإزهاق أرواح، وملايين العمّال الذين يُستهلكون تحت الشمس - وهذه ليست إنتاجاً، ولكنّ عوائدها أكبر بكثير من رسم المخططات الهندسية. عند علي القادري، فإنّ الأيديولوجيا النيوليبرالية تتمثّل في المجتمع عبر طبقاتٍ وعادات وأسلوب حياة، لا كأيديولوجيا وسياسة فحسب: أن تستمدّ مكانتك كفردٍ «ناجح» وتميّزك عبر الاستهلاك والسّلع، فكرة الكسب من غير تعب والمال السريع، تقليد حياة الأثرياء والهوس بالارتقاء إليهم. هذه كلّها ليست إلّا الواجهة البرّاقة لمجتمعٍ يتمّ استنزافه عبر الهدر، وفئاتٌ تثرى وتكسب على حساب الأذى والتخريب الذي يلحق بالغالبية.
بالمعنى نفسه، ولكن معكوساً، فإنّ التضحية وبذل النفس ليست دوماً «خسارةً» وموتاً يذهب هباءً وسدىً. من الزاوية الفردانية الرأسمالية، فإن التضحية هي كذلك ومن غير المنطقي أن تمارسها بإرادتك، بل هي الدرجة القصوى من انعدام العقلانيّة، ينساق خلفها من تخدعه العواطف والأغاني، أو يسيّره حماسٌ عقائدي أو غيبيّ، أو وعدٌ بمكافأةٍ في عالمٍ آخر. ولكن الحقيقة هي أنّه، مثلما تتحوّل الأرواح التي تزهقها الحروب الإمبريالية إلى فوائض وريع في خزانات الأثرياء، فإنّ الرخاء النسبي والأمن الذي وصل إليه أكثر من مليار صيني اليوم هما مجبولان بتضحيات عشرات الملايين من الصينيين، من أولئك الذين سقطوا في حروب التحرير وصولاً إلى الجيل الذي أفنى حياته وهو يبني السكك والسدود. المعنى الحقيقي للتجربة الصينيّة، كما أراه، يتجلّى في أمور بسيطة، كأن تراقب قلب أيّ مدينة صينيّة اليوم في ساعةٍ من ساعات النّهار، فتجد مركزاً حضرياً لا يقلّ عن أي مكانٍ في العالم، وفي الساحات يعبر أطفالٌ يحملون حقائب المدرسة ويلبسون ثياباً لائقة، وموظّفون يسيرون إلى مكاتبهم في الأبنية الزجاجيّة الجديدة، وهؤلاء كلّهم أحفاد فلّاحين كانوا منذورين لحياةٍ من الشقاء والذلّ والموت المبكر. الصراع العالمي اليوم لن يقرّر مصير خُمس البشريّة هذا فحسب، بل قد يحدّد مستقبل الجميع.

شاوهوا جان، «مسألة الأراضي في الصين في القرن الحادي والعشرين»، نيو ليفت ريفيو، العدد 122، آذار/ نيسان 2020