استعاد أنيس النقاش، ذاك البيروتي الأُممي، بوفاته صورة أهل بيروت الأصيلة، بيروت العربية ذات العمق الشامي شرق البحر المتوسط، التي تحتضن المجاهدين والمناضلين في وجه الاستعمار، حتى حمل هَمّ فلسطين في ظروفٍ ليست بالهيّنة، في ظل وجود أجهزة مخابرات دولية إضافةً إلى أجهزة قمع محلية، والتي تبين في ما بعد أنها على تواصل مع المستعمرين وعلى تنسيق مع العدو الإسرائيلي بطرق مختلفة... تحصي الأنفاس وتمسك بخناق لبنان الذي يعمل مُصنِّعوه آنذاك لإبعاده عن محيطه الأصيل.تلك هي حال بيروت التي تحمل بين أحضانها الجيل المناضل الذي كان يحمل فلسطين في القلوب والعقول وفوهة بندقية.
ذاك الجيل الذي كان يفهم فلسطين أنها جزءٌ من الوطن العربي والأمة الإسلامية، وأن كل عربي ومسلم معنيٌّ بفلسطين.
لذلك، وفي بدايات نشاط أنيس النقاش في الجنوب اللبناني، من كفرشوبا إلى بنت جبيل وسائر المَحاور، كُنتَ وبدون غرابةٍ ترى المجاهدين المتقاطرين من الجزائر وتونس والصومال وباكستان واليمن، فضلاً عن العراقيين والسودانيين والإيرانيين وغيرهم من بلاد المسلمين، وقد شاهدنا هؤلاء وعايشناهم، ويجب علينا أن لا ننسى شهداءهم الكثر.
كانت فلسطين آنذاك وشعبها هما الميزان والضمير والمقياس في الحب والبغض وفي الولاء والبراء وهي الفاصل بين الإخلاص والخيانة.
آنذاك، لم يكن غريباً أن يتحدث الإنسان بالمباشر ومن دون قفازات، فكان يقول كلمة الحق على صفائها وتفاصيلها من دون "رتوش" ولا تَصنُّع، ولم يكن من الموضة "ثوريوُ الثقافة" والمؤتمرات والتنظير «المودرن»، الذين لعبوا في السنوات الأخيرة التي نعيشها، قَلَقاً وخوفاً من الانحراف، تحت عناوين ظاهرها شيء وباطنها شيء آخر!
وكأنَّ بعضهم بعد مرور هذه العقود أصبح يريد ثورةً مخمليَّة «كلاس» من دون تكاليف!
وتكفي نظرةٌ اليوم إلى بعض مَن سُمِّي في السبعينيات اليسار، على أصنافهم، لِنُصْدم بما يقولون وأين يتَسكَّعون وكيف يتَّهمون أصحاب الآراء الصريحة والواضحة والصادقة بأنهم أصحاب «لغةٍ خشبية» أو بعيدة عن الواقع أو لم تَهضم المُتغيرات، فَيُحدِّثونك بكل "ثورية" عن قبول "الدولتين" وضرورة السلام!
وكأنَّ مَن احتل غرفةً من بيتي جزاؤه "الواقعي" أن أُطوِّب له نصف عقاري وحبَّة مسك، وأطلب منه السماح!
أمس عند تشييعه، كان أنيس النقاش ساحراً كعادته عندما يتكلم ويشرح وينفعل ويُنظِّر، لكنه اليوم كان ساحراً بصمته العميق، لأنه استطاع أن ينبش تاريخنا الذي عمل الكثيرون على سَتره بركامٍ من الأضاليل والتشويهات، فانبعثَ الجيل الذي كان هو أحد نماذجه مُعطَّراً بروائح الياسمين والورد وزهر الليمون وفقش أمواج البحر في عين المريسة وترابية أماكن وأمزجة أهل البسطة والمصيطبة والظريف، ليقول لنا إن بيروت سوف تبقى على عهدها ونقائها وصفائها وعروبتها على طريق فلسطين، مهما عبثَ العابثون وشوَّه المُشوِّهون.

*كاتب وعالم دين.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا