كلّ هؤلاء الناس حولي نزلاء مثلي في هذا المعتقل الكبير، يشاركونني رائحته العفنة وظلامه المقيم، يتحسّسون رقابهم وأتحسّس رقبتي بانتظار أن يختار الحزب القاتل من بيننا ضحيَّته الجديدة.صحيحٌ أنَّ شمس شباط ساحرةٌ اليوم، وأنَّ الابتسامات على الوجوه هنا في الجنوب عريضة رغم كلّ شيء. ولكنَّك ستفهمني دون شك وأنت العارف بفنون المجاز. نحن محرومون من التعبير عن آرائنا يا أخي! ألا يكفيك ذلك للتضامن معنا؟ والناس الذين أخبرتك عنهم ينقسمون إلى معسكرَين: إمَّا مشاريع شهداء لحريَّة الرأي (من يمتلك منهم مكتبة في منزله) وإمّا بسطاء لحس الحزب الشمولي عقولهم بشعاراته الرنّانة عن فلسطين أو برايته المذهبيّة (هؤلاء لا يمتلكون في منازلهم مكتبات).
وقد التقطتُ لنفسي، قبل أن أخطّ لك هذه الرسالة، صورة «سيلفي» أمام مكتبتي بوضعيّة تسمح للرائي بالاستنتاج أنَّني مفكّر لا يُشَقّ له غبار. من يدري؟ لعلّها الرسالة الأخيرة قبل أن يحضر «كاتم الصوت»!

عزيزي الكاتب والمثقف العربي،
تحيَّة طيّبة، وبعد...
أعذرني إن قلت لك إنّ المشهد أعلاه من نسج الخيال. سامحني إذ لم أستطع الاستمرار في الكذبة أكثر. كنتُ أحبّ ألا أزعزع الأكاذيب التي احترفوا ضخَّها في الفضاء العربي على مدار العقدَين الأخيرَين حتى تكاثفت وتحوّلت إلى جدار صلب من «الحقائق» و»المسلَّمات» بعدما حجبوا القنوات المناوئة عن الأقمار الصناعيَّة و»كتموا» كلّ صوت افتراضي مخالِف بحجّة محاربة «التشجيع على العنف والقتل ونشر الفكر المتطرّف!».
أعرف أنَّ هذا كلّه ليس جديداً، فقد فعلوه من قبل مع عبد الناصر، ويفعلونه اليوم مع «حماس»، وسيفعلونه مع كلّ من يرفع صوته ورأسه في وجه الدولة المارقة راعية الإرهاب الحقيقي ومن التحق بمشروعها من أبناء جلدتنا. ولكنّ الشراسة الزائدة في استخدام هذا السلاح في وجه حزب الله تكمن في تيقّنهم أنَّه (ومَن خلفه ومعه وحوله) يحمل نهاية مشروعهم وزوال دولتهم كما يقول العقل والمنطق التحليلي لا النبوءة هذه المرّة، وفي أنّ كلّ محاولات القضاء عليه عسكريّاً وأمنيّاً فشلت فشلاً ذريعاً، بل أدَّت إلى نتائج عكسيَّة، فلم يبقَ إلّا محاولة ذبح الحزب بحراب أبناء عمومته. وما السبيل إلى ذلك؟ الفتنة والتحريض. فإن لم تتوفّر عناصر هذه الفتنة؟ لا بأس باختلاقها. كيف؟ للحزب منطلقات دينيَّة غير خافية لم تتعارض يوماً مع مشروعه الوطني والإنساني، ولطالما شكّل عنصراً من عناصر القوّة استحضار مقاتليه سيرة أهل البيت (ع) مع ما يوفّره الانتماء إليهم وتحمله سيرتهم من زخم روحي، ولا سيّما المتعلّق منها بحادثة كربلاء، فضلاً عن استلهام أخلاقهم وتمثّلها في كلّ مناحي الحياة، وخصوصاً في التعامل مع الآخر الذي هو «إمّا أخ في الدين أو نظير في الخلق». لا بدّ إذاً من تحويل عنصر القوّة هذا إلى عامل إرباك لتحقيق هدَفَين من تسديدة واحدة ونقل الحزب من موقع الهجوم إلى موقع الدفاع.
هؤلاء يا عزيزي لم يؤمنوا يوماً بفلسطين وأحقّية نضالها وعدالة قضيّتها كما آمنتَ صادقاً، بل كانوا يضمرون خلاف ما يعلنون متحيّنين الفرصة، حتى إذا جاءتهم - أو ظنّوا أنّها جاءتهم - انتقلوا إلى اللعب في مساحة أوسع لم يحلموا بها يوماً، محاوِلين سَوق الأمة خلفهم إلى حظيرة التطبيع، متذرّعين - في جملة ما تذرّعوا به من أسباب واهية - بأنَّ الحزب الحامل لواء هذه القضيَّة انقلب على نفسه وتحوَّل من مقاوم شريف إلى قايين يتسلّى بقتل إخوته.
وفي الواقع، فإنَّ فعلَه المقاوم نفسه لم يسلم يوماً من محاولات شيطنتهم، هم الذين صوّبوا على أعظم انتصار عربي في تاريخ الصراع مع إسرائيل، وهو تحرير الجنوب والبقاع الغربي عام 2000، بالزعم أنَّه لم يكن إلّا حصيلة لصفقة واتفاق أبرمه الحزب من تحت الطاولة مع عدوِّه وعدوّ الأمَّة اللدود! ثمّ كرّسوا كلّ طاقاتهم وجهودهم لإقناعك بمشاركتهم السخرية من انتصار تموز 2006 الذي لم يكن إلّا «إلهياً» بجهد بشري مخلص أخذ بالأسباب الموضوعيّة للنصر، وأصرّوا على كونه هزيمة رغم أنف الإسرائيلي نفسه وأنف لجنة «فينوغراد» لتقصّي الحقائق، متّكئين بشكل مبتذل على عبارة «لو كنت أعلم»، التي قالها الأمين العام للحزب في مقابلة تلفزيونيَّة بعد اقتطاعها وعزلها عن سياقها بطريقة لا تشي إلّا بدناءة نيَّات أصحابها ووضاعة أدواتهم!
هذه كانت معارك ببوصلة واضحة لا لبس فيها ولا سلاحاً يمكن الزعم بأنَّه موجَّه إلى الداخل. فأين كانوا؟ حتماً لم يكونوا حيث كنت أنت!
أعلم أنّ مقالة واحدة لا يمكن لها أن تُقارع أساطيل المعلومات الزائفة بين يديك ولكنّ الانتصار للحقيقة يقتضي أن نقول هذا بصوت عالٍ


ثمَّ ماذا؟ لكي تكون أنت حيث هم، أوهموك أنَّ التحرّك الموضعي المدروس الذي نفَّذته المقاومة في 7 أيار 2008 مضطرّةً للدفاع عن سلاحها الذي تدافع به عن لبنان، ليس إلا عمليَّة عسكريّة للقضاء على حركة 14 آذار السلميّة رغم غياب أيّ رابط حقيقي بين الاثنين، وتجاهلوا اعتراف وليد جنبلاط غير مرّة (وهو عرَّاب قرار الحكومة البتراء في 5 أيار بقطع شبكة اتصالات المقاومة التي كانت من أبرز أسباب انتصار تموز) أنَّه أخطأ خطأً استراتيجيّاً بالدفع نحو هذه القرارات استجابة لطلب أميركي وآخرها مقابلة عرضتها قناة الجديد قبل أشهر، وقال فيها بالحرف: «افتعلت 7 أيار وأخطأت بالحسابات... أخطأت بالحسابات نعم، لأنّي تحمّست... حمّسوني وتحمّست». الخبر المحرَّف يُنشر ويعمَّم إذاً، أمّا التصريح الذي من شأنه توضيح الحيثيات فيُحجَب ويُعتّم عليه، ولا غرابة - والحال هذا - أن يبقى الخبر متداولاً على حالته الأولى بعد حصول التوضيح! يحدث مثل ذلك كلّ يوم. كلّ خبر عن إشكال فردي أو جريمة قتل أو انتحار في مناطق حزب الله هو مصداق من مصاديق الإجرام المنسوب للحزب يصل إليك بعدما تتناقله وتعمّمه محرّفاً منظومة إعلاميَّة هائلة القدرات قوامها عشرات القنوات والمواقع والناشطين والمغرّدين، حتى إذا عادت التحقيقات فأظهرت خلاف ذلك بعد مرور ساعات أو أيّام ابتلع الجميع ألسنتهم ووقر في ذهنك الخبر الأوّل الملفّق! هل أتاك حديث جريمة الاغتيال «السياسي» لأسباب «عائليَّة» للمعارض السوري محمد ضرار جمّو على يد زوجته وابنته في بلدة الصرفند الجنوبيّة عام 2013؟
وقبل هذا كان «حزب الله قد قتل رفيق الحريري» عام 2005، ولا بأس بإخفاء كلّ حديث عن فضائح لجنة التحقيق الدولية التي فاقت الخيال ونديَ لها الجبين وقد أخذت مسار التحقيق في واحدة من أعظم جرائم العصر الحديث في منحى هزليّ يتغيّر معه المتهم كلّ يوم بحسب الأجندة السياسيّة، ثمَّ تركّب له مضبطة اتهام على قياسه، بحيث لا يمكن لأيّ عاقل إلّا أن يشكّك في هذا المسار. قبل أن تلحق بهذه الجريمة سلّة كاملة من جرائم الاغتيال السياسي التي حصلت في لبنان في السنوات التي تلت اغتيال الحريري.
ومن أسباب تدخّل حزب الله في سوريا لم ينتقوا لك سوى ما يناسب سرديّتهم ولو كان ملفّقاً ومختلقاً: حزب الله «الشيعي» تدخّل لنصرة النظام «العلوي» لأسباب مذهبيّة. أمّا قرى منطقة الهرمل، خزّان شهداء المقاومة وجرحاها في زمن الاحتلال، والتي كانت تحت نقمة التكفيريين وفي مرمى صواريخهم وسيّاراتهم المفخّخة كلّ يوم، وكانت امتداداً طبيعيّاً لطموحهم الاحتلالي الذي التهم نصف مساحتَي العراق وسوريا في وقت قياسي، فلا مكان لها في هذه السرديّة المبتورة والمشوّهة (أنصحكَ هنا بقراءة كتاب محمد محسن «وهم الحدود» الصادر عن «دار الآداب» وهو محاولة حياديّة لسرد الأحداث في إطار توثيقي قد لا يتطابق مع خطاب حزب الله، ولكنّه ينسف حتماً السرديَّة المزيّفة التي روَّجت لها «العربيّة» و»الجزيرة» وأخواتهما).
أمَّا عن سلوك الحزب في سوريا فحدّث ولا حرج: عبارة «حزب الله يذبح النساء والأطفال في سوريا» كادت أن تصبح شعاراً يبرّر كل شيء من دون حاجة إلى مستند أو دليل واحد يوثق هذه الانتهاكات المفترضة. وفي ظلّ عجز حزب الله عن تظهير الصورة الحقيقيَّة لمقاتليه وسط الحصار الإعلامي المطبق عليه (لا بأس بالاستئناس بالمقطع العفوي للشهيد مهدي ياغي للتعرّف أكثر إلى هؤلاء) ستجد من يصنّفهم في أحسن الأحوال نظراء لأبي صقّار (المعارض السوري المعتدل خالد الحمد الذي اقتلع قلب جندي سوري والتهمه أمام الكاميرا عام 2013)، هذا إن لم يرَ في أبي صقّار نموذجاً أرقى بوصفه رمزاً للحريّة والثورة على الطغيان!
حسناً، الأمثلة على التشويه والتزييف بغرض التوهين والتسقيط كثيرة لا تتّسع لها مقالة صحافيّة، فملء الجيوب من الكتابة صنعة قديمة لا تنفكّ تجدّد نفسها، والمال وفيرٌ، والنفط لم ينضب بعد... ولكنّك قد تكون عنيداً في مشاكسة السرديّة الوهابيّة مصرّاً على أنّك ككاتبٍ حرّ لا تزال تجد نفسك أقرب إلى المؤمنين بفلسطين والمقاتلين فعلاً لأجل الحرّية، وحتى إن صدّقت واقتنعت بعد كلّ ذلك المجهود الجبّار بارتكاب المقاومة «بعض الأخطاء الصغيرة»، فإنّك لا تجد نفسك إلّا في خندق فلسطين بالتزامن مع انزلاق بعض الأنظمة العربيّة إلى التطبيع العلني بأوامر أميركيّة - إسرائيليّة بعد عقود من الانبطاح السري.
هنا، إن كنت مغربيّاً مثلاً، فسيحوّرون لك انتقاد الأمين العام لحزب المقاومة للنظام المغربي، الذي خضع للإملاءات على خلفيّة وعود تتعلّق بالصحراء الغربيّة ولحزب «العدالة والتنمية» على حدّ سواء، فينقلونه إليك بعنوان فضفاض من قبيل «نصرالله يهاجم المغرب» لعلّ حميَّتك القطريّة تتحرَّك قليلاً في زمن الشعارات الشوفينيّة: «المغرب أوّلاً» و»الأردن أولاً» وغيرهما، فأنت تحبّ بلادك كما ينبغي لكلّ كاتب أن يحبّ بلده. ولكنّهم ينسون أنَّهم حاولوا من قبل النفخ في هذه القربة عبر الترويج لتدريب حزب الله عناصر من جبهة «البوليساريو» المعارضة على الأراضي الجزائريّة مستندين إلى قائمة تضمّ أسماء عناصر في الحزب زوّدت بها الاستخبارات الإسرائيليّة النظام المغربي لتدعيم اتهامه بها. لا جديد، فقد هاجم الرجل من قبل، ومن دون أن يعلم أيضاً، مصر والأردن وتونس والجزائر وغيرها (وإن كنت لن تعثر على مادّة بصريّة واحدة توثّق هذه الهجمات المزعومة إلّا في حالة السعوديّة والإمارات حين أعلنتا الحرب على الشعب اليمني، والبحرين حين أجرم نظامها بحقّ شعبها الأعزل).
أعلم أنّ مقالة واحدة لا يمكن لها أن تُقارع أساطيل المعلومات الزائفة بين يديك، ولكن الانتصار للحقيقة يقتضي أن نقول هذا بصوت عالٍ، نحن الذين نقيم هنا بين فكَّي «الوحش»، وأن ندعوك إلى زيارة مناطقنا للتعرّف إلى هذا الوحش عن قرب، لعلّك تقع مثلنا في حبّه إن تأكَّدت بعد المعاينة أنه ما زال كما عهدته، مختلفاً عن الآخرين كلّهم، وصورته ما زالت مطابقة لانطباعك الأوّل عنه، وأنّ ما وصلك لم يكن إلّا نسخاً معدَّلة بالفوتوشوب عنها.
الحزب الذي قدّم كلّ ما يستطيعه لحمايتنا يطمئننا وجوده ولا يخيفنا. هذا كلام يضرّ بمثقّف كان يفترض - وفقاً لمعايير الثقافة اليوم - أن يدبّج المقالات والقصائد في هجاء الأنظمة والأحزاب على اختلافها، إلّا تلك المطبّعة منها، ولكن الصدق أَوْلى، وهو منجاة.
حزب الله الذي لم يبخل بدماء قادته وأبناء قادته في سبيل حماية البلد وأهله فجعلوه قاتلاً! ونأى بنفسه عن أوحال الحرب الأهليَّة فاتّفق المتحاربون على رجمه بعدما خلعوا بزاتهم المرقّطة! وزهد في كعكة الحكم فجعلوه الفاسد الأوّل! هذا الحزب لم يقتل يوماً مخالفاً في الرأي، ومن يزعم خلاف ذلك لزيادة نصيبه من الشهرة أو حصّته من أموال المشغّلين مطمئن في قرارة نفسه لثقته من كذب ادّعائه (ولكنّه لن يطلب من الحزب حمايةً تنجيه من تعديل في أجندة المشغّل الذي قد يقرّر في لحظةٍ ما أنَّ الاستثمار في موته يعود بمنفعة أكبر، والحزب ليس قادراً بطبيعة الحال على توفير حماية شخصية لملايين الأشخاص ممّن يقيمون في مناطق تواجده). ولو كان الحزب قاتلاً بالفعل لما وُجِدَت حاجة لتحويل منشورات عتب فايسبوكيَّة على حليفٍ للمقاومة بدَّل موقفه أخيراً، أو على شاعر اختار الارتماء في أحضان الإمارات في الوقت الذي يتنادى فيه المثقّفون في المشرق والمغرب لمقاطعتها وتوقيع العرائض ضدّ خطوتها التطبيعيَّة، إلى قضيَّة رأي عام وإرهاب فكري!
في بيئة الحزب «المقاوم»، من يُجاهر ويتباهى بعمالته في بثٍّ مباشر فلا يمسّه سوء (الحزب لا يضيع وقته بالترّهات المعدّة للاستهلاك الإعلامي، وإذا حدث ووقع في قبضته متورّط بحالة تعامل حقيقي مع العدو يسلّمه إلى أجهزة الدولة، وبالحديث عن هذه الأجهزة يمكنك سؤالها عن مدى حريتها في ممارسة دورها كاملاً في المناطق المحسوبة على الحزب مقارنة بمحميّات الأحزاب والطوائف المنتشرة على كامل التراب الوطني)، وفي بيئة الحزب «الإسلامي» من يجاهر بإلحاده فلا يُلام (ومن المفارقات أنَّ شاعراً ملحداً من أشدّ المدافعين عن المقاومة دخل السجن بقصيدة اعتُبِرت مسيئة لشخصيَّة دينيَّة فأُلصِق فعله هذا بالحزب أيضاً - هل سمعت بقصة «جحا وابنه والحمار» والاحتمالات اللانهائيَّة للإدانة أو الانتقاد؟). ولكن، دعني أعترف لك، أخيراً، بسرٍّ صغير، للحزب سطوة لا ترحم على المقيمين في مناطق نفوذه وأسره لا فكاك منه: سطوة وجوه أبنائه البشوشة دوماً، وأسر سلوكهم الحسن.
* كاتب لبناني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا