عمر آدم اليوم هو ٢٧ عاماً، وهو يعاني من أشدّ أنواع النقد والتنمّر بسبب صوته الضعيف وغير الطبيعي طيلة حياته، إذ لاحظ ذووه أنه لم يبدُ على صوته أي خشونة أو تغيير عند البلوغ، فهو يواجه نوعاً من الضمور في نموّ الصوت، بل تراجع صوته ليصبح خافتاً. وكان آدم الطفل أكثر انعزالاً وانطوائية بسبب الإحراج والتنمر والشعور بالدونية. فبدأت رحلة علاجية طبّية طويلة كانت بدون جدوى، ولم يتمكّن آدم وأهله من معرفة سبب اختلاف صوته ومعالجته، إلى أن تبيّن بعد معاناة أن المشكلة نفسيّة المنشأ!يقول سيغموند فرويد، مؤسس مدرسة التحليل النفسي: «العارض هو هدنة للقوى المتصارعة داخل النفس».
يعاني العديد من الأشخاص في حياتهم اليومية من أعراضٍ جسديّةٍ غامضةٍ، لم يتمكّن الطبّ من تشخيص أسبابٍ جسمانية مقنعة تفسّر بما فيه الكفاية حدّتها وتكرارها كمقدمة لتقديم العلاج المناسب، غير أن العلماء أكدوا أن ضحالة النضج العاطفي والكبت الشديد والخوف من المسؤولية من شأنها أن تقود صاحبها إلى مرض نفسي جسدي.
المرض النفسي الجسدي (Psychosomatic Disorder) هو اللغز الذي يصعب كشفه، حيث ينبثق من كلمة Psyche أي النفس وSomatic أي الجسد. هو مرض أو مجموعة من الأمراض النفسيّة المنشأ ولكن أهم ميزاتها ظهور عارض أو عدّة أعراض جسديّة غير واضحة، مصحوبة بمعاناة كبيرة وإعاقات وظيفيّة في الحياة اليومية قد تكون ثابتة أو ظرفيّة، إذ يصعب على الأطباء كشف سببها من خلال الفحص السريري أو الفحوصات المخبريّة والأشعة و... إلخ، فتؤدي معالجتها بالأدوية حتماً إلى الفشل. وغالباً ما يتلقّى المرضى تشخيصات متعددة لحالاتهم من أطباء من مختلف الاختصاصات (الأعصاب، العظام، و...) والتي لا تُقدّم تفسيرات واضحة للأعراض، ممّا يزيد من حالة الاضطراب والقلق.
وتعتبر الاضطرابات جسدية الشكل، إلى جانب كل من اضطرابي الاكتئاب والقلق، من بين الأمراض النفسية الأكثر شيوعاً في العالم، إذ يعاني نحو ١٢ من أصل ١٠٠ شخص من اضطرابات نفسية جسدية، وتبلغ نسبة النساء المصابات ضعف نسبة الرجال.
وتشير دراسات لمايكل هالبرستام، أستاذ الأعصاب في جامعة ليفربول - إنكلترا، إلى وجود علاقة حتمية ذات دلالات إحصائية بين الانفعالات والعوامل النفسية وبين معظم أمراض الجسم مثل ضغط الدم، درجة الحرارة، قرحة المعدة وحتى السّمنة.

تعدّدت الأسباب
لا يوجد سببٌ واحدٌ معيّنٌ لظهور هذا النمط من الاضطرابات، فهذه الحالة تنتج غالباً من تفاعل بين عوامل مختلفة قد يدوم تأثيرها عدة سنوات وتشمل عوامل بيولوجية/جينية، تجارب سابقة مع المرض، إجهاداً نفسياً استثنائياً (كالانفصال، البطالة، فقدان شخص عزيز، خلافات اجتماعية، مشاكل في العمل، تغيّرات في الظروف المعيشية، تغيير مكان السكن، ولادة طفل جديد..)، أو حادثة مزعجة/مؤلمة يتكرر أثرها من حين إلى آخر.
في العموم، للجسد لغته الخاصة. ثمة أشكال مختلفة للاضطرابات النفسية الجسدية، إذ أن هناك مثلاً بعض المرضى الذين يعانون من أعراض جسمانية مجهولة السبب، فيشتكون من آلام واضطرابات في الجهاز الهضمي (إمساك، إسهال..) نتيجة حدث معين، ومنها على سبيل المثال وجود علاقة وثيقة بين الاضطرابات النفسية كالاكتئاب (Depression) والقلق (Anxiety)، وبين ظهور متلازمة القولون العصبي (Irritable Bowel Syndrome - IBS)، إذ لا يخفى أن هناك علاقة وثيقة بين إفراز أحماض المعدة والببسين (Pepsin) وبين حالات التوتر والإجهاد الحاد. يقول الدكتور دولف أن التوتر الانفعالي قد يولد تآكلاً في جدران المعدة وخلاياها وكذلك خللاً في تفاعلاتها الكيميائية. وأثبت كونيكس، وهو من أشهر الباحثين في علاقة العوامل النفسية واضطرابات الجهاز الهرموني، تحديداً الغدة الدرقية وزيادة إفرازاتها، أن هناك علاقة بين اضطراب إفراز هذه الغدة وبين العوامل النفسية التي تنتاب الفرد.
ثمة أمثلة كثيرة عن العوارض الناتجة من هذه الاضطرابات، منها الربو (Asthma) وضيق التنفس الذي هو من أول وأهم عوارض القلق! إضافة إلى الحساسية الجلدية، إذ أثبتت دراسة أجريت عام ١١٠٠ علاقة مرض الصدفية الجلدي (Psoriasis) بالصحة النفسية، فالشيء الذي لا يُقال باللغة والكلمات، يُكتب على الجلد.. يلاحَظ أيضاً إلى جانب هذه الحالات تساقط الشعر، آلام الرأس الحادة (كالشقيقة والصداع النصفي) وآلام العنق والظهر، تغيير في الأوتار الصوتية، التعرّق المفرط، عدم التوازن في ضربات القلب وارتفاع ضغط الدم، التبول اللاإرادي، الشلل وحتى العقم!
بالعودة إلى آدم، زار وأهله العديد من الأطباء المتخصصين بحالته للبحث عن السبب، آملين إيجاد الحلّ. منهم من رجّح أن تكون التهابات في الأوتار الصوتيّة، ومنهم من قال إن الحبال الصوتيّة معقّدة، آخرون طلبوا عمليّة جراحية معقّدة، والبعض الآخر استسلم بالقول إنها حالة استثنائية بامتياز... إلى أن زار الطبيب الأخير حيث كانت الصدمة. «آدم سليمٌ، لا يعاني من أي مشكلة في الحنجرة أو الأوتار الصوتيّة وما هنالك.. السبب أعمق من ذلك».
استمر على هذه الحالة حتى أصبح راشداً. وفي يومٍ من الأيام، عاد صوته فجأة ليصبح أكثر خشونةً وتماسكاً! سيطر عليه الاستغراب والشكّ وعاود المحاولة لكشف هذا اللغز من جديد. في تلك الفترة كان قد غيّر مكان سكنه الذي يقطنه منذ الصغر، ولحسنِ حظه أخذ بنصيحة أحد الأصدقاء بزيارة طبيبٍ نفسي! وهنا كانت المفاجأة الكبرى.. مشكلة صوته هي مشكلة نفسية وليست جسدية على الإطلاق! من خلال خضوعه لعدّة جلسات من التحليل النفسي، عاد إلى الماضي بالتفصيل الممل.. ليصل إلى نتيجة مفادها أن السبب في صوته الخافت وعدم قدرته على الكلام بشكلٍ سليمٍ طيلة هذه الفترة، قد يعود لتعرضه للاغتصاب مرتين في طفولته (من قبل أحد الأقارب المجاورين لمنزله)! فكان صوته مفتاحه الوحيد آنذاك للتعبير وكشف المستور والحقيقة، لكن التهديدات التي كان يتلقاها، كانت كفيلة بخلق التوتر والقلق الدائم لديه، فعاش الطفل في حالة نكران وضياع وتخبّط مع الذات «هل أتجرأ وأتكلم؟ أم أكتم السرّ والفضيحة؟»، فدفع بصوته ثمن صمته وقوقعته. بعدها، اكتشف أن سبب عودة صوته إلى حالته الطبيعية، هو تغيير مكان سكنه بالإضافة إلى موت مغتصبيه! ذهبوا، وأخذوا بموتهم قلقه وتفككت اليد التي كانت تحاصره وتمنعه من البوح والكلام.. فتحرّر!
في حادثة أخرى مماثلة، غزل ابنة الـ 4 سنوات، لم تستطِع النهوض من فراشها ذات يوم. وبعد دخولها المستشفى والقيام بجميع التحاليل والاختبارات، تبيّن أن ليس هناك سبب عضوي خلف هذا الشلل المفاجئ. بل إنها فقط تحاول التعبير عن حزنها وقلقها لانفصال والدَيها! إذاً سبب شللها قد يكون ناجماً عن غياب والدتها. فعندما أتت الأم إلى المستشفى، نهضت غزل وتفككت من أسرها كأن شيئاً لم يكن.

الحلول المناسبة
منطقياً، يعتبر الطبيب المختص في مثل هذه الحالة (جهاز هضمي، تنفسي، عصبي، جلدي، مسالك بولية...) هو من ينبغي اللجوء إليه في حالة ظهور أعراض جسدية مفاجئة لا سبب واضحاً لها، فيقوم أولاً بفحص المريض بدقّة ومناقشة التشخيصات والاحتمالات الواردة. في حال لم يستجِب المريض للعلاج، أي إن لم يكن المريض مصاباً بمرض جسدي عضوي، يمكنه أن يبادر إلى مقابلة تشخيصية مع معالج نفسي، الذي بدوره سيقوم بمساعدته من خلال الدخول في تفاصيل حياته في الماضي والحاضر، فيكتشف ذاته أكثر، ويتحرّر من قيوده والصدمات المتراكمة وأفكاره المدفونة في اللاوعي.

العلاج النفسي الجسدي
لقد أدى التطور الذي حققه الطب النفسي الجسدي (Psychosomatic Medicine)، الذي يساعد في فهم مركّبات نشوء وتطور العديد من الأمراض، إلى تطوير رؤية علاجية متعددة الأبعاد. إذ أكدت الدراسات العلميّة أن العلاج النفسي فعّال في معالجة الاضطرابات النفسية الجسدية، حيث إنه يساعد المريض على فهم سبب أعراضه وتعلّم كيفية التعامل معها، وبالتالي ممارسة حياته اليوميّة بشكلٍ أفضل. وتجدر الإشارة إلى أن أول ظهور فعلي للعلاج النفسي كعلم قائم بذاته كان في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين على يد فرويد الذي تنبّه إلى أن الاضطرابات النفسية يمكن أن تكون راجعة لصراعات داخلية لاشعورية. يشمل هذا التوجّه - العلاج بالأدوية المضادة للقلق والاكتئاب (Antipsychotics- Antidepressants..) - العلاج النفسي التحليلي (Psychoanalytic Psychotherapy) الذي يعتمد على جلسات معمّقة ومكثّفة بين المريض والمُعالِج بهدف نقل الأفكار والمشاعر المدفونة في اللاوعي إلى العقل الواعي، ما يسمح باستحضار التجارب والعواطف المكبوتة (غالباً منذ الطفولة) ودراستها، في سياق عملية علاجية تعاونية تسلط الضوء على كيفية تأثير هذه الذكريات المكبوتة على سلوك المريض وعلاقاته، وذلك من خلال عمليّة تُدعى التداعي الحرّ، تحليل الأحلام وأخرى تحليل الانتقال.

أن يأتي الحل متأخراً أفضل من أن لا يأتي أبداً. هل شعرت يوماً بألمٍ أو عارضٍ غريب مفاجئ لم تدرك سببه؟ هل تكرر هذا العارض في فترة زمنية معينة وعجزت عن اكتشاف سببه والشفاء منه؟ هل وضعت احتمال وجود مشكلة أكبر وأعمق من مجرد ألمٍ سيزول مع الوقت؟
العلاج النفسي سرٌّ أساسي في حياة كل شخصٍ، محظوظٌ من يدرك أهميته ومدى تأثيره على مسار حياته وبنيتها. فالجسد يعبّر عن نفسه، بنفسه.. وثمة أكثر من عارض من الممكن أن يترجم عليه، فيكون له سببٌ مدفونٌ، يمكنك اكتشافه ولو بعد حينٍ.


*باحثة في علم النفس العيادي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا