أهمية ما تفعله إدارة جو بايدن، على صعيد السياستين الداخلية والخارجية، لا تأتي من كونها استعادةً للتقليد «الديمقراطي الليبرالي» الذي تعثَّر مع الترامبية، بل من المكانة التي تحتلّها في الصراع على وجهة الرأسمالية الأميركية، وما إذا كانت ستستمر بالانكفاء والانعزال، كما ترغب الترامبية، أم ستعاود الحضور في المشهد الدولي، على خلفية الصراع مع الصين، على الاستفادة القصوى من ثمار العولمة. الشهران الأوّلان من ولاية بايدن شهدا، ولأوّل مرة منذ عقود تقريباً، التوقيع على عشرات المراسيم التنفيذية، بهدف ليس فقط بلورة سياسة الإدارة على الصعيدَين الداخلي والخارجي، بل أيضاً الانتهاء سريعاً من إرث الترامبية، عبر تقويض شرعيتها مؤسّساتياً، على الرغم من تواضع نفوذها هناك، قياساً بحضورها الكبير داخل المجتمع، وخصوصاً خارج العاصمة واشنطن. تزويد الإدارة بأدوات تنفيذية جديدة تتبنّى التقليد الليبرالي القديم للمؤسّسة، سيساعد على الأرجح في تسهيل مهمّة الكوادر الرئيسية داخلها (البنتاغون والخارجية والخزانة ومجلس الأمن القومي)، للتخلّص سريعاً من الكوابح التي تمثّلها الترامبية السياسية، على اعتبار أن هذه الأخيرة ستستمرّ في الحضور، اجتماعياً واقتصادياً، ولكن بقدرة على التعطيل، لا تتجاوز حدود الاشتباك السياسي، داخل المؤسّسات المنتخبة وخارجها.
أوجينيا لولي (اليونان)

فلسفة اختيار الكوادر
المؤشّرات الأولى ظهرت، حتى قبل البدء في توقيع المراسيم التنفيذية، وتحديداً مع الإعلان عن الترشيحات الخاصّة بالمناصب الرئيسية في الإدارة. في الشكل، بدا أنّ الوجهة ستكون لإنصاف الأقلّيات الاجتماعية، عبر جعل تمثيلها السياسي، داخل الإدارة، وليس فقط في مجلسَي الشيوخ والنواب، متناسباً مع حجم مساهمتها، ولو الشكلية، في العملية السياسية في العقود الأخيرة. إيكال قيادة البنتاغون لضابط متقاعد، متحدِّر من الأقليات الاجتماعية التي واجهت صعوبات شديدة مع إدارة ترامب، يعكس اهتمام الإدارة الجديدة باضطلاع هؤلاء بدور كبير في المرحلة المقبلة (لويد أوستين كوزير للدفاع وكاميلا هاريس كنائبة للرئيس)، تماشياً مع فلسفتها التي تقوم على نقض كلّ ما كانت تمثّله الترامبية داخل المجتمع، وهو ما لم يتحقّق من دون بروز نخبة جديدة، يكون هؤلاء في صلبها، كتعبير عن عمق التغيير المراد تحقيقه. في السياق نفسه، يَبرُز اختيار «متحوِّلة جنسياً» لمنصب مساعدة وزير الصحة، ولأوّل مرة في تاريخ الإدارات الأميركية المتعاقبة، كخيار متناسب مع القطيعة الديمقراطية المراد إحداثها، ليس فقط مع الترامبية السياسية، بل أيضاً مع حواضنها الاجتماعية الأكثر تشدُّداً، على اعتبار أنّ هؤلاء يصدرون عن بيئات يمينية ومحافظة، لا تعترف بالميول الجنسية، المثلية أو العابرة للجنس. الدفع بهذا الخيار قُدُماً، يعني أن القطيعة المراد إحداثها، لن تقتصر على السياسة، أو حتى على الاقتصاد، بل ستتجاوزهما إلى المجتمع نفسه، والذي يشهد حالة غليان، ليس فقط بسبب الانقسام على الخيارات الثقافية بين الديمقراطيين والجمهوريين، بل لأنّ الميول الثقافية لكلا المعسكرين باتت تتدخّل في السياسة أيضاً. حيث نشهد ولادة معادِل سياسي للخيارات الثقافية التي باتت تعبِّر في هذه المرحلة عن العرق والانتماء الثقافي، أكثر من تعبيرها عن الطبقة أو الموقع الطبقي داخل العملية الاقتصادية. الاختيارات الأخرى للإدارة، في الخارجية والخزانة، تبدو أقلَّ إثارةً للانقسامات الاجتماعية، ولكنها أكثر فاعلية، لجهة بلورة الخيارات السياسية والاقتصادية، وخصوصاً في ظلّ الأزمة الاقتصادية التي تسبَّب بها الوباء، والتي بدا الحضور الجيوسياسي للولايات المتحدة فيها باهتاً قياساً إلى خصوم، مثل روسيا والصين.
اختيار بلينكن ليس عودةً إلى السياسة الخارجية في عهد أوباما، فالمعادلة الأميركية لم تعد نفسها بعد الترامبية


خيارات السياسة الخارجية
اختيار أنتوني بلينكن لوزارة الخارجية لا يمثّل، بالمعنى الحرفي، عودةً إلى السياسة الخارجية التي كانت متّبعة في عهد باراك أوباما، ليس لأنّ موازين القوى الدولية قد تغيّرت، منذ ذلك الحين، بل لأنّ المساهمة الأميركية لم تعد هي نفسها مع الترامبية. قبل ترامب، لم تكن المواجهة مع الصين قد وصلت إلى هذا الحدّ، وحتى لو أرادت إدارة بايدن العودة إلى سياسة أكثر اتّساقاً واعتدالاً في المواجهة، فستكون مُجبرة على أخذ المنجزات التي تحقّقت في الحرب التجارية مع الصين بعين الاعتبار. وهذا إنجاز في الاقتصاد أكثر منه في السياسة، لأنّ الميزان التجاري بين البلدين لم يسجِّل عجزاً أقلّ بالنسبة إلى الولايات المتحدة من ذاك الذي حقّقه في أواخر عهد ترامب، وإن لم يتحوّل إلى فائض حينها بسبب الميزة التنافسية الطاغية للمنتجات الصينية على مستوى العالم. المحافظة على هذا المستوى من التنافسية سيتطلّب، من وجهة النظر الأميركية، الاستمرار في ممارسة ضغوط على الصين في ملفّات تُعتبر أساسية بالنسبة إلى أمنها القومي، مثل تايوان وشينغجيانغ وهونغ كونغ و...إلخ. وهو ما ستفعله الإدارة على الأرجح، في ظلّ قيادة بلينكن للسياسة الخارجية، ولكن ليس بالتشددّ ذاته الذي قاد في حالة مايك بومبيو، ومن ورائه ترامب، إلى جعل المواجهة سياسياً تنحصر بالخلاف مع قيادة الحزب الشيوعي للصين، إلى درجة بدت معها أحياناً أكثر شراسة من تلك التي كانت قائمة مع الاتحاد السوفياتي السابق. المنهج الحالي والذي بدأ يتبلور تدريجياً سينقلب على هذه الممارسة الأيديولوجية المباشرة، في مسعىً لإعادة الاعتبار إلى الذرائع الليبرالية التي كانت تقف تاريخياً وراء التدخّلات الجيوسياسية ضدّ الخصوم والتي وضعت الولايات المتحدة على حدة، بين الإمبرياليات جميعها، بوصفها الطرف الإمبريالي الأكثر تدخلاً لمصلحة الشعوب في العالم. كلّ ذلك، لكي لا يبدو أنّ ما يحرّكها هو مصلحتها المباشرة فحسب، خصوصاً التجارية منها، كما بدا مع ترامب. إذ لا شيء يضرّ بنفوذ الولايات المتحدة، ويقود إلى تآكله، جيوسياسياً وعسكرياً على مستوى العالم، أكثر من حرمانه من ذريعة «التدخل الإنساني»، وإظهاره كما هو، أي كحضور إمبريالي محض، وليس فقط بالنسبة إلى الخصوم بل إلى الحلفاء كذلك، وهو ما تعبّر عنه الأزمة الحالية مع السعودية. دور بلينكن هنا هو استعادة هذا الوجه الذي فقدته الولايات المتحدة مع ترامب، لتعزيز حضورها على المسارح الجيوسياسية المختلفة، وخصوصاً مع التحدّيات الحالية التي لم تكن بهذا الحضور في حقبة أوباما، لجهة بروز الدورين الصيني والروسي. إذ لم تكن المواجهة حينها تقتضي في ظلّ بداية صعودهما استخدام هذا المزيج من أدوات القوّة والاحتواء، وكانت التعقيدات في السياسة الدولية التي أفضت إلى انتخاب ترامب، وشروعه في سياسة المواجهة القصوى مع الصين، غير مطروحة، حتى «كأفق مستقبلي» للعلاقات الدولية. مع بايدن، وبوجود بلينكن في الخارجية، ستكون سياسة الاحتواء هي القاعدة، حتى مع روسيا التي تشوب العلاقة الأميركية معها تعقيدات كثيرة أكثر من تلك التي مع الصين. وهو ما يبدو متاحاً أكثر بعد حصد نتائج المواجهة الترامبية مع بكين، لأنّ المجابهة هنا ستكون متركّزة في الجغرافيا السياسية لا في الاقتصاد، ومع خصوم يَسهُل، من وجهة النظر الأميركية، التعامل معهم، ليس لأنهم أقلُّ قوة منها بل لأنّ اقتصادهم لا يمثّل الكثير على مستوى الناتج الإجمالي العالمي، وبالتالي ستكون الكلفة في السياسة أكثر منها في الاقتصاد، كما هي الحال مع الحرب التجارية ضدّ الصين.

جهود إنقاذ الاقتصاد
يبقى أنّ التحدّي الأكبر أمام إدارة بايدن هو في محاولة تجاوز الأزمة الاقتصادية التي تسبَّبَ بها الوباء، والتي انعكست على الوضع الاقتصادي الأميركي أكثر من سواه، ليس فقط بسبب تسجيل البلاد العدد الأكبر من الوفيات والإصابات على مستوى العالم، بل لأنّ ذلك تسبَّب في شلل قطاعات إنتاجية أساسية داخل الاقتصاد الأميركي، مع كلّ تبعات ذلك على الوظائف ونسب البطالة ونموّ الاقتصاد عموماً. وقد أتى اختيار جانيت يلين الرئيسة السابقة لمجلس الاحتياطي الفيدرالي ليعكس وجهة محدّدة في مقاربة بايدن للأزمة الاقتصادية. إذ تُعتَبر يلين من المؤيدين بشدّة لسياسات التحفيز التي يدعو إليها الرجل، للحفاظ على هيكل عملية الإنتاج، وهي مثلَه تؤيّد، بالإضافة إلى ذلك، رفع الحدّ الأدنى للأجور الذي يعتبر مطلباً أساسياً لليسار في الولايات المتحدة، نظراً لما يمّثله اعتماده من مكاسب للطبقة العاملة في ظلّ عمليات الصرف الجماعي وفقدان الوظائف التي تتعرّض لها بسبب الأزمة الاقتصادية. ويمكن اعتبارها أيضاً من المتشدِّدين في خفض أسعار الفائدة، ليس فقط حالياً، بل منذ كانت على رأس الاحتياطي الفيدرالي، ما يضعها في مواجهة مستمرّة مع المشرّعين الجمهوريين الذين يعتبرون هذه السياسات مضرّة بالأعمال على المدى البعيد. ويُرجَّح كذلك أن تكون مناصِرة لفرض ضرائب تصاعدية، بعد عودة الاقتصاد إلى العمل، مع استعادة الأجزاء من الناتج المحلي الإجمالي التي فُقدت بسبب إجراءات الإقفال. وهذا أيضاً تناقض إضافي، يُضاف إلى جملة التناقضات الحاصلة مع الجمهوريين، إذ تُعتبر سياسة الضرائب التصاعدية مناقِضة للوجهة الاقتصادية التي يتبنّاها هؤلاء، والتي وصلت إلى ذروتها، مع إقرار الخفض التاريخي على ضرائب الشركات في عهد ترامب، وهو ما يعتبره الجمهوريون الإنجاز الأهمّ لهم على الصعيد الاقتصادي. كلّ رصيد ترامب في الاقتصاد اعتمد على هذا المشروع، بما في ذلك خلق الوظائف واستعادة الصناعات والرساميل التي هاجرت إلى الصين والمكسيك، لتفادي الضرائب والرسوم المرتفعة على أعمالها. وهو نقاش مطروح في الولايات المتحدة، حيث يعتبر الجمهوريون خلق فرص العمل أهمّ بكثير من توزيع الثروة، لأنه يخلق هياكل إنتاج جديدة، وبالتالي يدرّ المزيد من الثروة، بدلاً من سياسة الاكتفاء بتوسيع قنوات التوزيع التي تقوم عليها الضرائب التصاعدية. كلّ ذلك، يجعل من وجود يلين على رأس وزارة الخزانة مدخلاً لمعاودة النظر في الوجهات الاقتصادية التي كانت معتمَدة سابقاً، والتي ستتّكل عليها الإدارة، حتى في ظلّ الخلاف اقتصادياً مع الجمهوريين، للدفع بسياستها الخاصّة بالتحفيز قدماً، أمَلاً في إنقاذ الاقتصاد الأميركي الذي أتت تداعيات الجائحة على أجزاء كبيرة منه.
*كاتب سوري