لا يزال الحديثُ هنا عن سيرة أمين الجميّل الذاتيّة والتي صدرت حديثاً بعنوان «الرئاسة المُقاوِمة: مذكّرات». ويتحدّث الجميّل عن حرب الجبل كأنها كانت مؤامرة خارجيّة ضدّه، وليست مؤامرة من رفاقه في السلاح في القوّات اللبنانيّة ضد أهل الجبل أنفسهم (إن مسؤوليّة «القوات» عن حرب الجبل لا يمكن إنكارها، لكنّ ذلك لا يسوّغ أبداً الجرائم الطائفيّة التي ارتكبتها ميليشيا جنبلاط ضد أبرياء مسيحيّين في الجبل). ويعترض الجميّل على وصل الجبل بالضاحية كأن على خصومه التمنّع عن الاتحاد ضد خصمهم المشترك. والجيش، يا أمين، لم ينشقّ بسبب مؤامرة جهنميّة خارجيّة بل بسبب احتجاج أعضاء في المؤسّسة العسكريّة ضد القيادة الطائفيّة الفئويّة الانعزاليّة. تريد من أفراد الجيش ألا يعترضوا على قراراتك في إقحام الجيش في معاركك ضد معارضين لحكمك الحزبي؟ ويعترض الجميّل على تلقّي خصومه مساعدات من الخارج (أي النظام السوري أو المنظمات الفلسطينيّة التي عانت من جرائم الكتائب ومن حكمها). لكن: ألم يعتمد حكم الكتائب، حتى قبل وصوله إلى السلطة، على الدعم الإسرائيلي والخليجي والغربي الخارجي؟ أم أن جهة واحدة في الحرب الأهليّة يحقّ لها الاستعانة بالخارج؟ هذه لا تختلف عن الواقع اللبناني الحالي: المتحالفون مع التحالف الخليجي-الغربي-الإسرائيلي هم الذين يطالبون بالحياد وبوقف التدخّل الخارجي. لا، باتت المطالبة بالتدخل الخارجي أظرف على لسان البطريرك الماروني: هناك اليوم مناشدة لتدخّل خارجي (حتماً يعنون تدخلاً خليجيّاً وغربيّاً) وذلك من أجل تحقيق الحياد والسيادة في لبنان (أطلق موقع «ميغافون» الثاو ثاوي على حملة البطريرك ضد حزب الله وصف «السياديّة»، أي إن طرفاً لبنانياً (ذا غالبيّة طائفيّة) يلخّص السيادة، فيما الطرف الآخر (ذو الغالبيّة الطائفيّة المختلفة) يتناقض مع السيادة، فلا يبقى من حلّ إلا طرد طائفة من اللبنانيين كي تتحقّق السيادة بمقياس «ميغافون» والبطريرك.ويستشهد الجميّل كعادته بمدوّناته الخاصّة (المكتوبة بفرنسيّة مترجمة إلى العربيّة وهي تحمل لغة إنشائيّة تلاميذ المدرسة الابتدائيّة). ويتفهّم الجميل معاناة رونالد ريغان في عام ١٩٨٤، إذ إنه كان عرضة لضغوطات من الحزب الديمقراطي، حسب قوله (ص. ٢٠٩). ينسى أن ريغان هذا كان من أكثر الرؤساء شعبيّة في تاريخ أميركا الحديث، وأن انصرافه عن الشأن اللبناني في ولايته الثانية كان بسبب فقدان أمل إدارته بقدرة الجميّل على الإمساك بالوضع الداخلي، بالإضافة إلى استخلاص درس من مقاومة قسم من اللبنانيّين، وبشراسة، لتواجد القوّات العسكريّة الأميركيّة على أرض تدور فيها حرب أهليّة. أقنع الجميّل نفسه أن ريغان كان يريد عونه ومساندته وإرسال المزيد من قوات الأطلسي إليه، لكنّ الديمقراطيّين «ما خلّوه». الفكرة تداعب غرور الجميّل. ويقول عن استقالة الوزراء المسلمين من حكومته في عام ١٩٨٤ إن استقالتهم كانت تحت ضغط سوري. حسناً، لماذا لم يستقيلوا من قبل، وكان هناك ضغط سوري؟ بعضنا يذكر تلك المرحلة ويذكر جيدّاً أن الضغط على الوزراء لم يأتِ من دمشق بقدر ما أتى من الجمهور اللبناني العادي في مناطق بيروت الغربية والجنوب والشمال والبقاع. جمهوريّة أمين الجميّل ضاقت باستمرار ولم تمتدّ حتى خارج نطاق المتن الشمالي في المناطق الشرقيّة. ونفور الجمهور المعارض (المسلم وغير المسلم) من عهد الجميّل وفساده وخياراته هو الذي منع عدداً من الوزراء من الاستمرار في مناصبهم. طبعاً، تلاقى ذلك مع مصلحة النظام السوري الذي أعطى فرصة لحكم الجميّل واحتفظ معه بعلاقة حتى أثناء المفاوضات بينه وبين العدوّ الإسرائيلي.
ويستشهد الرئيس «المقاوِم» بمدونات يوميّاته، أيضاً وأيضاً، وفيها يرد: «أرسل لي الإسرائيليّون عبر ضبّاط الارتباط رسالة يشجّعونني فيها على عدم الاستسلام» (ص. ٢٠٩). هكذا ترد هذه الجملة من دون تعليق أو استفاضة من أمين. لكن يا أمين: إذا كنتَ رئيساً مقاوماً فلماذا يتشبّث بك العدوّ إلى هذه الدرجة؟ ومَن هم ضباط الارتباط هؤلاء الذين كانوا صلة الوصل بينك وبين العدوّ؟ ومتى انتهى دور ضباط الارتباط هؤلاء؟ وفي تلك اللحظة يستغيث صائب سلام بالجميّل—حسب زعم الجميّل، طبعاً—ويطالبه بـ»السيطرة» على بيروت. وصائب سلام هذا: لم يمرّ خيار إسرائيل على لبنان لم يسرْ فيه، من إعلان تأييده الوحيد لزيارة أنور السادات للقدس المحتلّة في عام ١٩٧٧ إلى مواكبة ومباركة مفاوضات ١٧ أيّار. ويجب احتساب دور سلام هذا من ضمن دور النظام السعودي (وكان سلام مندوباً لنفوذ وزير الدفاع السعودي، سلطان عبد العزيز، على مرّ سنوات طويلة). ويحاول الجميّل أن يوحي أن التأييد «السنّي» له كان يتجاوز صائب سلام فيقحم اسم المفتي وسليم الحص. المفتي حسن خالد كان من أوائل الذين رفعوا الصوت ضد ممارسات وظلم حكم الجميّل فيما كان الشيعيّان محمد مهدي شمس الدين وعبد الأمير قبلان يمدّان الحكم الظالم المتعاون مع إسرائيل بشرعيّة لم يكونا يملكانها. لا بل إن الاثنيْن عارضا المقاومة العسكريّة ضد الاحتلال الإسرائيلي. هذا تاريخ لا يمكن إنكاره، وهو يفيد لمنع ترسّخ فكرة إلصاق الوطنيّة بطائفة وحرمان أخرى منها. وغريب أنه غاب عن ذهن الجميّل أن مخابرات الجيش في عهده كانت وراء اغتيال معارضين للحكم، بمن فيهم سليم الحص وأمين الجميّل ووليد جنبلاط (لا يزال سيمون قسّيس، مدير المخابرات في عهده، حيّاً يُرزق، وهو لم يُحاسب بعد على الجرائم الكثيرة التي ارتكبتها مخابرات الجيش). لكن لم يثلج قلب الجميّل إلا أن مسؤولي الإدارة الأميركيّة كانوا «مرعوبين» من فكرة استقالته. أي هو يعترف أنه لم يتمسّك باستمراره في الحكم إلا حكومة العدوّ والإدارة الأميركيّة وصائب سلام. هذا ما اعتبره الجميّل إجماعاً لبنانيّاً حول قيادته. ويبدو أن الجميّل لا يزال يكنّ ضغينة كبيرة ضد وليد سكريّة لأنه تمرّد ضده وضدّ قيادة الجيش الانعزاليّة وانضمّ إلى صفوف الذين انتفضوا ضد حكم الجميّل (ص. ٢١٠). وبالرغم من مساندة مدفعيّة المدمّرات الأميركيّة لحكم الجميّل وقذف الحمم ضد قرى وأماكن سكنيّة في الضاحية والجبل، فإن القصف لم يكن قويّاً بما فيه الكفاية (بنظر الرئيس «المقاوِم») وينقل عن قائد بحري أميركي قوله إن القصف أحدث غباراً «أكثر مما ألحق أضراراً بالعدوّ» (العدو هنا هو منازل الآمنين في الضاحية والجبل). هذه تصلح لتحليل أدوات الاستعمار في بلادنا: من نَسَق أمين الجميّل إلى نَسَق وليد جنبلاط في عهد بوش إلى نَسَق أنور السادات. كل هؤلاء لا يقتنعون بحدود قدرة راعيهم الغربي على حمايتهم من شعبهم: لم تستطع أميركا حماية السادات وهي التي كانت تولّت تدريب فريق حماية السادات. كما أن الأدوات المحليّة الصغيرة تبالغ في رغبة الاستعمار الغربي في الذهاب بعيداً للحفاظ على الأدوات المحليّة المُطيعة، أو لتولية مصالح الأدوات على مُشغّليهم الغربيّين. لا، ويعتب الجميّل على القوات الغربيّة لأنها لم تحرّك ساكناً فيما كان حكمه ينهار. وعتب الجميّل على المدفعيّة الأميركيّة لأنها لم تقصف بالعنف الكافي، تماماً مثلما كان جوني عبده ينتقد (في محادثاته مع ضباط جيش العدوّ في صيف ١٩٨٢) ضعف القصف الإسرائيلي على بيروت الغربيّة. ولم يتفهّم موقف الجميّل إلا مبعوث رونالد ريغان، دونالد رمسفلد، الذي كان من أنصار دعم الجميّل ضد كل معارضيه، وقد أشاد رمسفلد في مذكّراته بشجاعة الجميّل لأنه بقي في القصر الجمهوري. لكن نقل الجميّل عن مذكرات رمسفلد (صدرت بعنوان «المعلوم والمجهول») غير دقيق على الإطلاق. الجميّل كان يريد من أميركا أن تقصف وتدمّر في لبنان أكثر مما قصفت ودمّرت لإنقاذ حكمه المتهاوي فيما يعترف رمسفيلد أن المهمة كانت مستحيلة ومذكّراته لوزير الخارجيّة أفصحت عن ذلك. لكنّ الجميّل (في كتابه الموجّه إلى الرجل الأبيض في الغرب، والتي لن يقرأ كتابه) دائماً يُشهِّد الرجل الأبيض في الغرب على ما يقوله ويزعمه.
الرجل الذي شارك شخصيّاً في ارتكاب مجازر في المخيّمات بات يتصنّع التعاطف مع الشعب الفلسطيني


ويذكر الجميّل مسؤول محطة المخابرات الأميركيّة في بيروت، ويليام باكلي (يعرّفه بصفته الملحق السياسي في السفارة الأميركيّة ويكتب اسمه «بيل أوكلي»، وهو اسم دبلوماسي أميركي. لكنّ الأخطاء البارزة من هذا النوع تتكرّر في الكتاب، وهي دليل أن الجميّل كان واثقاً من ذاكرته ولم يعرض الكتاب على محرّر للتدقيق في معلوماته. لا، هو أكبر من ذلك). وتعرّض باكلي (لا أوكلي) للخطف والقتل في بيروت. ويقول عنه: «كان بيل رجلاً لطيفاً وفعّالاً عرفته جيداً، وشارك في تنظيم أمني الشخصي» (ص. ٢١٢). يا أمين: الملحق السياسي في السفارة الأميركية في بيروت ينظّم أمنك الشخصي؟ كيف ذلك؟ بالسياسة؟ ويتأسّف الجميل كيف أن خطف باكلي أدّى إلى التعجيل في الانسحاب الأميركي من لبنان.
ونعلم من الكتاب أنه كان هناك خيار أكثر إسرائيليّةً من الخيار الذي انتهجه الجميّل في حكمه قبل الانتفاض عليه في شباط ١٩٨٤. فقد فاتحه جوزيف أبو خليل وفادي أفرام في اقتراح إٍسرائيلي بتطبيق اتفاقيّة ١٧ أيّار من جانب واحد، على أن يستعين الجميّل، وبطلب رسمي «من الحكومة اللبنانيّة» (ص. ٢١٧) (كأن الجميّل يمثّل حكومة لا طرفاً ضالعاً في الحرب الأهليّة الجارية) بطيران العدوّ الإسرائيلي ضد خصومه. ولا يتورّع الجميّل من تسمية هذا الخيار باسم «الخيار الإسرائيلي»—أي إن الرئيس المقاوِم كان يفكّر في انتهاج «الخيار الإسرائيلي» لكن الغضبة الشعبيّة ضد حكمه بالإضافة إلى تنامي المقاومة ضد العدو الإسرائيلي فشّلا هذا الخيار على الأرجح مع أن الجميّل لا يوضّح أسباب إقلاعه عن تبنّي هذا الخيار. (وجوزيف أبو خليل الذي روّج للخيار كان يجول على الشاشات اللبنانية على مدى السنوات ليحاضر في موضوع سيادة لبنان). ويشير الجميّل إلى سلاح «الوشاية» الذي استخدمته إسرائيل ضدّه، ولعلّ هذا تعبير عن مرارته من تسريب إسرائيل لأخبار اجتماعاته مع قادتها وحتى لاتفاقات سريّة عقدها معهم، مثل «وثيقة شارون» في كانون الأول من عام ١٩٨٢، والتي كانت اتفاقاً سريّاً بين مستشار الجميّل الأقرب، سامي مارون، وأرييل شارون. لم يعد الجميّل يثق بقدرة الإسرائيليّين على حفظ أسراره معهم.
لكن لم يكن للجميّل خيار إسرائيلي واحد، إذ إن العدوّ، بعد انسحاب القوات الأميركيّة من لبنان، ظهرَ متمسّكاً بالجميل وباتفقايّة ١٧ أيّار. إذ إن الجميل تلقّى من ديفيد كيمحي اقتراحات مكتوبة بخط اليد لتحسين وضعه (لماذا ينشر الجميّل رسائل أبو أياد وعرفات إليه ولا ينشر الرسائل والاقتراحات الإسرائيليّة إليه؟ كيف نثق برواياته وهو لا يزال يتكتّم عن طبيعة العلاقة مع إسرائيل، مثله مثل كل الانعزاليّين الذين تعاملوا مع العدوّ، بمن فيهم التائبون مثل أسعد الشفتري الذي لا يزال، للساعة، متكتماً عن كل تفاصيل علاقاته مع الإسرائيليّين. حتى إيلي حبيقة لم يكن بعد انضمامه إلى خط النظام السوري (الذي—مع رفيق الحريري—رعاه واحتضنه) يتكلّم عن تاريخ علاقته مع الإسرائيليّين وهو الذي كان صنيعة مخابراتهم. وكان مشروع كيمحي يهدف لإنقاذ حكم الجميّل المتهاوي وتأمين «السيادة اللبنانيّة» عبر انسحاب كل القوّات الأجنبيّة من لبنان إلا تلك «المدعوّة من الحكومة اللبنانيّة إلى البقاء» (أي إن إسرائيل كانت مستعدّة لأن تتدخّل لطرد الجيش السوري من لبنان مقابل دعوة «رسميّة» من حكم الجميّل للتدخّل والانتشار الإسرائيلي في كل لبنان). وبهذا أرادت إسرائيل تطبيق اتفاقيّة ١٧ أيّار بالقوّة. لكنّ مشروح كيمحي كان يحمل ذلك المضمون الطائفي الذي كان في صلب المشروع الانعزالي اللبناني. السرديّة الانعزاليّة الحالية لا تعترف إلا بمحاربة «الفلسطيني» لمنع التوطين، لكنّها لا تتحدّث عن مجازر طائفيّة ضد لبنانيّين وعن عمليّات تطهير طائفي في مناطق بيروت الشرقيّة. فالمشروع الانعزالي كان في الشق الداخلي منه يهدف إلى منع أي تغيير في بنية النظام اللبناني للحفاظ على نظام الهيمنة الطائفيّة الذي ساد قبل سنوات الحرب (وساد بعدها مع تغيير في طائفية السيطرة). ويرد في مشروع كيمحي (كي يدرك الشعب اللبناني أغراض التدخّل العسكري الإسرائيلي في لبنان وأهداف المشروع الانعزالي آنذاك—والذي تعرّض للطمس تحت وابل من الأكاذيب والأباطيل) بالحرف: «بهدف الحفاظ على الهيمنة المسيحيّة، سوف تُتخذ إجراءات قانونيّة لتحويل البنية السياسيّة والإداريّة في لبنان إلى نظام كانتونات، مكوّن من كانتون مركزي ذي أكثريّة مسيحيّة يضم العاصمة ومقرّ الحكومة، وكانتونات أخرى تبعاً لتركيبة السكان» (ص. ٢١٧).
إن هذا المشروع هو الجانب الخَفيّ من الحرب. القوى الانعزاليّة كانت تهدف برعاية إسرائيليّة إلى تقسيم لبنان إلى كانتونات، وكانت عمليات التهجير الطائفي من ضمن هذا المشروع الخطير. لكن صعود الليكود في إسرائيل في عام ١٩٧٧، وتبوّؤ أرييل شارون منصب وزير الدفاع في عام ١٩٨١، زادا من شهيّة بشير الجميّل، وبدعم إسرائيلي مباشر، للسيطرة على كل لبنان وليس فقط على كانتونيْن منه (واحد في المنطقة الشرقيّة من بيروت وآخر في الشريط الحدودي). ويتضمّن المشروع الإسرائيلي توسيع مهمة الـ»يونيفيل» حتى البقاع. وهنا نتأكد أن الـ»يونيفيل» لم تكن منذ إنشائها إلا ميليشيا مساندة للعدوّ الإسرائيلي، تمدّه بالمعلومات وتغطّي على خروقاته اليوميّة. هذه النيات الانعزالية-الإسرائيليّة لا تزال غير معلومة من الشعب اللبناني. أي إن ديفيد كيمحي (المدير العام لوزارة الخارجيّة والمسؤول الثاني في الـ»موساد» في السابق، ورئيس وفد العدوّ إلى مفاوضات ١٧ أيّار—كم أن تعيينه كان إذلالاً مقصوداً للبنان، لكن لبنان الذي يتفاوض مع العدوّ على اتفاقيّة سلام يستحق كل الإذلال) أنعشَ المشروع الانعزالي-الإسرائيلي من عام ١٩٧٥. وفي هذا الوقت بالذات، تلقّى الجميّل عرضاً لـ»خيار سوري» مقابل، وقدّمه إليه رفيق الحريري وهو يقضي بفتح المفاوضات بين حكمه المنهار وبين النظام السوري مقابل إلغاء ١٧ أيّار. وعندما يزهو الجميّل في السنوات الأخيرة بإلغائه لاتفاقيّة ١٧ أيّار فإنه يخفي أنه كان مكرَهاً لا «مقاوِماً». هو درس بين الخيار الإسرائيلي وبين الخيار السوري ووجد أن الخيار الإسرائيلي لم يعد قابلاً للحياة لأن موازين القوى في المنطقة الغربية من بيروت والضاحية والبقاع والشمال اختلّت ضدّه، وضد مصلحة الاحتلال الإسرائيلي. كان الجميّل يفضّل الخيار الأميركي الذي يؤمّن التغطية الأميركيّة-الإسرائيلية لحكمه لكن أميركا نفضت يدها عن لبنان وتركت الجميّل وحيداً في قصر بعبدا. ويبدو أن النظام السعودي هدّدَ الجميل عبر تحذيره من تغييرات ميدانيّة إذا لم يسرْ بالخيار السوري. ورفيق الحريري كان عرّاب التدخل السوري هذا—رفيق الحريري الذي جعلوه رمزاً لمعارضة وجود النظام السوري في لبنان، لكن بعد وفاته.
وبكثير من الحزن وبقلب ملؤه الأسى، يذكر الجميّل «حرب المخيّمات». أي إن الرجل الذي شارك شخصيّاً في ارتكاب مجازر في المخيّمات الفلسطينيّة بات يتصنّع التعاطف مع الشعب الفلسطيني. هذه تماماً مثلما تصنّع العدوّ الإسرائيلي تعاطفاً مع الشعب الفلسطيني عندما يكون ضحيّة لقتل من عرب من أعدائه. وحرب النظام السوري ضد المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان لا يجب أن تبقى مجهولة وغير خاضعة للسرد والتأريخ. هذا فصل دامٍ من التاريخ المأساوي للشعب الفلسطيني في لبنان. وقد شاركت ميليشيات حليفة لدمشق، مثل حركة «أمل» في تلك المعارك الدمويّة (ومجازر في بعض الحالات) ضد المخيّمات الفلسطينيّة. وقد استفاد النظام السوري من حالة من التعبئة العنصريّة البغيضة ضد الشعب الفلسطيني عند الكثير من شيعة جنوب لبنان (وساءلتُ في ذلك أكثر من مرّة داوود داوود، مسؤول حركة «أمل» في صور، والذي كان تجسيداً للعداء الجنوبي الشيعي في حينه ضد الشعب الفلسطيني. وقد شاركَ داوود داوود في تظاهرة في صور في عام ١٩٨٥ هتفت «لا إله إلا الله والفلسطيني عدوّ الله»—ليس هناك من كتابة عن حرب المخيّمات، ربما باستثناء ذلك الكتيّب بالإنكليزيّة الذي ساهمتُ فيه، وحرّرته إيلين هاغوبيان بعنوان «أمل والفلسطينيّون: فهم حرب المخيّمات»، ونُشر في عام ١٩٨٥).

(يتبع)
كاتب عربي - حسابه على تويتر asadabukhalil@

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا