بثّت قناة «العربية» الفضائية مقابلة مطوّلة على ستة أجزاء وصلت مدّتها إلى حوالى ساعتين ونصف مع السيدة رغد صدام حسين، حاورها فيها المذيع الشاب صهيب شراير. وبدا واضحاً أن مواضيع الحوار منتقاة بعناية من قِبل إدارة القناة السعودية بهدف تلميع صورة صدام و«ضمّه» إلى المعسكر السعودي في حربه متعدّدة الجبهات ضد إيران. وصدام حسين طبعاً لم يكن سعوديّ الهوى بل إن بينه وبين السعودية ما صنع الحداد، ولكنه مات وانتهى عهدُه ونظامه وخطرُه, فلا بأس إذن من ذكر «محاسِنِه» التي تنحصر، من وجهة نظر السعودية، في الحرب على إيران والعداء معها. ومن هذا المنظور يمكن اعتبار المقابلة المطوّلة مع ابنته رغد تتويجاً رسمياً للمصالحة، الجارية منذ سنوات، بين التيارَين السعودي الوهابي والبعثي الصدّامي.في الجزء الأول من سلسلة الحلقات أطلق المذيعُ العنان لرغد كي تستفيض في الحديث عن «حنان» صدام كوالدٍ محبّ لأطفاله وعن تربيته الراقية لهم وعن تواضعه، وترافق ذلك مع لقطات عائلية عرضها المخرج لصدام مع أولاده فيها حميميّة وطفولة سعيدة، رحلات وسباحة. وأكملت رغد كلامها عن حنان صدام بالقول (في الدقيقة 14:00) إنه كان «عاطفياً»، وهنا أيضاً تدخّل المخرج ليعرض لقطات لصدام وهو يدخل بيوت أناسٍ فقراء ويحتضن أطفالهم! ويتابع المذيع دوره المرسوم حين يسألها «هناك صورة رسمها البعض عنه بأنه كان قاسياً؟»، فاتحاً لها المجال لتفنيد تهمة القسوة «الباطلة» عن أبيها. لم يسألها المذيع عن «قاعة الخلد» ومذبحة الرفاق البعثيين في 1979 ومدى انسجام تلك الأحداث مع حنان أبيها وعاطفيته. بل إنه لم يقاطعها ولم يعلّق عندما قالت (في الدقيقة 8:06) إن «والدي ما كان عاشقاً للحروب». ورسمت رغد صورة ورديّة للعراقيين أيام حكم أبيها حين قالت: «الناس كانوا عايشين بعز وتقدير عالي وما حد يقدر يسيء إلهم». ورغم كلامها عن العراقيين الذين «كانوا عايشين بعز» إلّا أن عنجهية ابنة صدام ظهرت على شكل فلتة لسان حين قالت: «إحنا ناس أسياد بلد».
الجزء الثاني يُظهر لنا الجانب الرجعي في شخصية صدام بشكل صارخ. فهو يقوم بتزويج ابنته وهي بعمر 15 سنة! روت رغد التفاصيل فقالت إن أباها جاءها وقال: «عمامك متقدمينلك، وإلِك الحرية بالقبول أو الرفض». وبما أنه «نحن ننشأ على أن الزواج سوف يكون من الأقارب فقط» كما قالت (في الدقيقة 4:00) فإن موافقتها على الزواج من حسين كامل، ابن عم أبيها، كانت تحصيل حاصل (رغم وجود حبّ صامت بينهما عن طريق نظرات العيون). وحسين كامل، مثل صدام، كان رجعياً في نظرته للمرأة فعارضَ أن تكمل زوجته رغد تحصيلها المدرسي (د. 4:55) لولا أنها أصرّت. وبعد هذه الخلفية عن زواجها من حسين كامل نصل إلى نقطة الذروة في هذه الحلقة حين بدأ الحديث عن هروب زوجها من العراق إلى الأردن وانشقاقه عن النظام. دخلت رغد في سلسلة تناقضات وهي تتناول هذا الموضوع المحرج. فهي اعترفت (د. 13:29) بأن زوجها استشارها بشأن خطوة الخروج من العراق فوافقت، ولكنها أضافت أنها لم تكن تعلم شيئاً عن موضوع الانشقاق! كيف يمكن لعاقل أن يصدق ذلك، تخرج هي وزوجها هروباً من العراق دون أن تعلم أنه ينشق؟! ورغم كلامها الطويل حول هذا الموضوع إلّا أنها فشلت في تقديم أيّ سبب مقنع لهروب زوجها من العراق ولا عن طبيعة خلافه مع أبيها! لم تذكر رغد ما إذا كان حسين كامل تلقى عروضاً من جهات خارجية، أميركية/ أوروبية أو عربية، بتزعّم معارضة عراقية مدجّنة تكون بديلاً لصدام. يُنهي المشاهدُ الحلقة دون أن يفهم من رغد لماذا هرب حسين كامل وأخوه وعائلتاهما من العراق. وتتابع رغد كلامها فتنفي أيّ دور لها في إقناع زوجها بالعودة إلى العراق بعد عدة أشهر وتعزو السبب ببساطة إلى «أنه لا يقدر أن يفارق العراق»! ولا تذكر لنا أي شيء عن إحباط حسين كامل من خذلان الجهات التي منّته واستقطبته لها وتخلّيها عنه عندما اتضح لها ضعفه وقلة تأثيره. كما لا تذكر رغد أي شيء عن الوعود التي أرسلها صدام حسين لزوجها من خلال وسطاء بالعفو عنه إذا عاد إلى العراق. وهنا نصل إلى نقطة توضح مدى طغيان وجبروت شخصية صدام. يقول لها المذيع: «عُدتم للعراق، والوالد طلقكم؟»، فتجيب «نعم». أي أن صدام هو الذي يقرر أن يطلّق حسين كامل زوجته! علماً بأنه في الشريعة الإسلامية يكون صاحب القرار والحق في الطلاق هو الزوج حصراً، وليس الحمو ولا غيره! وتضيف رغد أن أباها اجتمع بها وأختها رنا وقال وهو متألم وبصوت تخنقه العبرة «أنتِ ورنا رح تتطلقون». وهنا يسأل المذيع «من قتل حسين كامل؟»، ويكون الجواب «كان القرار عشائرياً»، وأضافت رغد أن عزة ابراهيم قال لصدام في اجتماع القيادة «نحن كدولة نتنازل عن حقنا في إعدام حسين كامل لأجل خاطرك»، ولكن «أحد الأقارب» رفع يده وقال: «نحن كعشيرة ما نتنازل عن حقنا في الإعدام» (وأحد الأقارب هنا إشارة إلى علي حسن المجيد). واختتمت رغد هذه الفصل بالاعتراف (د. 23:50) بأن صدام حسين أخذ قرار الإعدام الذي نُفّذ بإشراف ابنه عديّ.
تقول رغد إنّها وافقت على فرار زوجها حسين كامل من العراق، لكنّها لم تكن تعلم شيئاً عن انشقاقه


وتبيّن لنا رواية رغد عن إعدام زوجها الغياب التام للمؤسسية وحكم القانون في عراق صدام. فحكم الإعدام متّخذ وجاهز، بلا قانون ولا محاكمة ولا قضاة. ثم كيف يحق لعزة ابراهيم أن «يتنازل» عن حق الدولة في إعدام شخص خائن؟! هذا لو سلّمنا جدلاً بوجود حكم كهذا. وأخيراً، كيف يمكن لعشيرة أن تنفّذ حكم إعدام خارج إطار الدولة؟!
بداية الجزء الثالث تناولت موضوع غزو الكويت. هوّنت رغد من الموضوع باعتباره «خلافات بين الأخوة»، وبتحصل! ثم انتقلت إلى مرحلة ما بعد إخراج العراق من الكويت حيث روت لنا (د. 10:15) كيف عاش أبوها حالة من الزهد حين قرّر التخفيف من استخدام الماء لأغراضه الشخصية إلى مستوى يماثل العراقي العادي البسيط. وتابعت رغد (د. 12:20) كلام التمجيد لأبيها «موضوع الديكتاتور، معزوفة قديمة! والعالم كله ديكتاتور، عربية وغير عربية»، واستدلّت على ديكتاتورية أميركا باحتلال العراق! (واحتلال العراق يمكن أن يوصف بأنه غزو إمبريالي، عدوان، همجية... أيّ شيء سوى الديكتاتورية!).
في بداية الجزء الرابع (د. 2:20) قدّمت رغد تفسيراً للمنظر المهين الذي ظهر به صدام عند القبض عليه على يد القوات الأميركية فجزمت بأنه «كان مخدّراً» وأن التصوير ليس إلّا مسرحية. ولكنها لم تشرح لنا لماذا لم تكن هناك مسرحية وتخدير بالنسبة لأخويها عدي وقصي اللذين قُتلا وهما يطلقان الرصاص على الجنود الأميركيين. والمخرج ساعد رغد في حديثها عن شجاعة صدام حين قام بعرض لقطات له وهو يتكلّم بجرأة في المحكمة التي عُقدت له ومن ثم لقطة إعدامه الشهيرة وسط هتافات مذهبيّة شيعية (لاستثارة الحميّة المذهبية المعاكسة لدى مشاهدين كثيرين، لا شك في ذلك). واستمرّ مسلسل التمجيد المقصود، فسألها المذيع (د. 23:00) «ماذا ترك لكم الوالد؟»، فيكون الجواب أشبه بشعر أبي تمام «ترك لنا إرثاً كبيراً: في حب الناس، في رضى الله. والقيمة المعنوية الكبيرة». وعندما سألها المذيع عن الأسلحة المذهّبة في قصور صدام الرئاسية أجابت «شنو قيمة الذهب والمال لمّا الوطن يروح؟!».
وفي الجزء الخامس تحدّثت رغد صدام حسين عن موقف رقيق وإنساني لأبيها تجاه عزة ابراهيم (د. 4:40)، الذي كان في غرفة العمليات في المستشفى، فأصر أبوها أن يبقى موجوداً معه. فقال له عزة «العراق بشاربك»، فبكى صدام! ولم يغادر صدام المستشفى إلا بعد أن استقرت حالة عزة واطمأن عليه. وأعطت رغد لنفسها صفة الناطق باسم شعب العراق اليوم حين قالت (د. 6:19) إن العراقيين «لسّا ينادون بالحزب وينادون بالرئيس صدام وينادون بالمرحلة ككل بكل رجالها الأبطال»، رغم اعترافها بأن بعض العراقيين لهم رأي آخر «أكو لهسّا ناس تتمنى ما نعود للحكم !». ورداً على اتهام الحكومة العراقية لها بدعم الإرهاب ووضع اسمها في قوائم المطلوبين تحدثت رغد عن مذبحة سبايكر (التي ذهب ضحيتها حوالى 1900 مجند عراقي بسيط ذبحوا على يد تنظيم داعش) فقالت (د. 18:31) «سبايكر ولدنا! أنا ما ربيت في بيت يقتل شعبه لأنه أخطأ. إحنا ما نجيّش الجيوش على شعبنا ونبيد منطقة بمنطقتها. سبايكر 17 و19 سنة ولدي. ما آمر بقتلهم».
الجزءالسادس والأخير من سلسلة اللقاءات لم يحمل الكثير . فقط المزيد من عبارات التمجيد هذه المرة طالت ابنتها حرير حسين كامل (التي أصدرت مذكراتها عن تلك المرحلة!)، وأخاها عديّ صدام (الذي كان يصوم كل اثنين وخميس!). واختتمت رغد الحلقة بعبارةٍ حاولت أن تجعلها فلسفيّة وعميقة لأقصى قدر، فقالت: «الحياة أدوار، ورفوف، كل شخص عنده رف بهذه الحياة يضع نفسه عليه».
وبتلك العبارة عن الأدوار والرفوف أنهت قناة «العربية» لقاءاتها الطويلة مع رغد صدام حسين، اللقاءات التي أهمّ ما ميّزها أن الأسئلة التي كان ينبغي أن تُسأل، لم تُسأل.
* كاتب وباحث من الأردن

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا