انتهت زيارة بابا الفاتيكان فرنسيس الأول إلى العراق بنجاح بروتوكولي واضح، ولكنها خلّفت وراءها، مثلما سبقتها، تساؤلات كثيرة ذات مساس بالجوانب السياسية والدينية التاريخية لها وللمنطقة. في طريق عودته إلى روما، قال البابا للصحافيين المرافقين له على متن الطائرة انطباعات إيجابية كثيرة عن زيارته، ولم يقلل من أهميتها واستثنائيتها، وخصَّ لقاءه بالمرجع الشيعي السيد علي السيستاني بإطراء قوي؛ فقال إن اللقاء، الذي كان مقرراً أن يستغرق ربع ساعة استمرّ لثلاثة أرباع الساعة، كان حميمياً جداً، وأنه «أراح نفسه» ووصف المرجع السيستاني بالرجل الحكيم ورجل الله...إلخ. وأشار البابا إلى أن إقدامه على هذا اللقاء لن يسلم من النقد فـ «هناك بعض المنتقدين الذين يقولون إن البابا ليس شجاعاً، لكنّه متهور وإنه يفعل أشياء تخالف العقيدة الكاثوليكية وتبعد خطوة واحدة من الهرطقة». وردّاً على سؤال لصحافي - انفردت «سي أن أن» بنقله - عما إذا كان اجتماعه بالسيد السيستاني قد يؤدي إلى إعلان مكتوب للوحدة الدينية، مثل توقيعه مع إمام الأزهر أحمد الطيب، إمام السنة الأكبر في أبو ظبي عام 2019 على ما سميت «وثيقة الإخوة الإنسانية»، ردَّ البابا: «قد يكون ذلك فظاظة، لكنها خطوة أولى... ستكون هذه خطوة ثانية. سيكون هناك آخرون. رحلة الأخوة مهمّة».
إن كلام البابا هذا قد يُفهم منه أنه كان متردّداً في طرح فكرة التوقيع على وثيقة دينية جديدة مع المرجع السيستاني، أو التوقيع على الوثيقة السالفة الذكر نفسها، ولكنه لم يطرحها، وعلل ذلك بالسبب الذوقي والبروتوكولي خشية أن تنطوي الفكرة على شيء من «الفظاظة».
الوثيقة المذكورة والمعروفة بـ «وثيقة الأخوة الإنسانية» هي نص إنشائي عام مفعم بالآراء المعتدلة والنوايا الطيبة، فتطرقت إلى أهمية الحوار بين المؤمنين بالأديان وضرورة حماية دور العبادة ورفض «الإرهاب» ومفهوم المواطنة والمساواة وضرورة العلاقة التكاملية بين الشرق والغرب ومبادئ عامة أخرى تخلو ظاهرياً من أية أمور تثير الشبهة. فهي مثلاً لم تتطرق إلى المشاكل والصراعات السياسية في المنطقة أو إلى «ضرورة السلام» بين ما اصطُلح عليه بالصيغة المشبوهة «دول المنطقة» التي يُقصد منها الزجّ بالكيان الصهيوني بين دول المنطقة، وضرورة إقامة السلام معه على حساب قضية فلسطين وشعبها.
ويبدو أن محاولات تحويل هذه الوثيقة أو تطويرها لتكون وسيلة لتمرير مفاهيم وتفاهمات ليست منها، تتعلق بالتطبيع وإخراج الكيان الصهيوني العنصري «إسرائيل» من مأزقه التاريخي والجغرافي والجيوسياسي مبالغ بها، وأنها ببساطة لم تطرح هذه المرة حتى في حدّها الأدنى، كما يُفهم من كلام البابا فرنسيس.
لقد قيل الكثير من الشكوك والتفسيرات المبالغ بها حول طبيعة هذه الزيارة والأهداف غير المعلنة من ورائها، ولكن الزيارة انتهت كما بدأت دون أن تؤكد أيّاً من تلك الشكوك والأهداف حتى الآن. خصوصاً أن البيان الذي صدر عن مكتب المرجع الشيعي السيد السيستاني بعد اللقاء بساعات، وخلال عرضه لوقائع الزيارة أشارت بوضوح إلى معاناة الشعب الفلسطيني من الاحتلال في الفقرة الأولى من البيان إذ ورد فيه: «وتحدث سماحة السيد -السيستاني - عما يعانيه الكثيرون في مختلف البلدان من الظلم والقهر والفقر والاضطهاد الديني والفكري وكبت الحريات الأساسية وغياب العدالة الاجتماعية، وخصوصاً ما يعاني منه العديد من شعوب منطقتنا من حروب وأعمال عنف وحصار اقتصادي وعمليات تهجير وغيرها، ولا سيما الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة»، وقد اعتبر مراقبون هذه الفقرة ردّاً غير مباشر، ولكنه قويّ كفاية، على الذين شككوا بالهدف من لقاء البابا والسيستاني، وقطعاً للطريق على أية نوايا للاستثمار السياسي التطبيعي فيه كالدعوة إلى بناء «معبد مشترك للأديان الإبراهيمية» وتشييد بنية تحتية للسياحية الدينية في منطقة أور جنوب العراق التي زارها البابا. المثير للغضب والارتياب أن موقع القناة الفضائية الرسمية «العراقية» حذف إشارة السيد إلى معاناة شعب فلسطين بالاسم من الموجز الذي نشره للبيان على صفحة القناة، أثارت هذه الفعلة استهجان وغضب الكثيرين على مواقع التواصل والصحافة العراقية الذين اتّهموا أوساطاً مؤيّدة للتطبيع في إدارة الإعلام العراقي الرسمي في حكومة الكاظمي.
أما بخصوص المقولات المكررة والتي أصبحت في عداد البديهيات بسبب تكرارها لا بسبب صحتها التاريخية حول مسقط رأس النبي التوراتي إبراهيم في أور الكلدانية أو «أور كسديم» كما ورد في النسخة العبرية من التوراة وهجرة العائلة الإبراهيمية من هذه المدينة إلى مدينة حران ثم إلى بلاد كنعان «فلسطين»، يمكن تسجيل الآتي:
كشف النقاب منذ عدة عقود عن إنَّ خرافة «بيت النبي إبراهيم في أور» هي واحدة من أخطاء وتلفيقات الآثاريَّين البريطانيَين تشالرز وولي وماكس مالوان في عشرينات القرن الماضي. وقد رصد الباحث العراقي عبد السلام صبحي طه حيثيات هذا الموضوع في مقالة مفصّلة وموثقة جيداً بعنوان «أكذوبة العقل الخرافي! آثار أور السومرية والمسألة الإبراهيمية» ورد فيها أن المنقّب البريطاني تشالرز وولي كان قد أشار في أحد تقارير بعثته التنقيبيّة بين 1922 و1934، إلى أن خبير النقوش والكتابات في البعثة قد ترجم رقيماً مسمارياً عُثر عليه في إحدى الدور السكنية تبعد مئات الأمتار عن الزقورة، مدوَّناً عليه اسم «آبرامو»، كما عُثر على تمثال لكبش مزخرف، ربما كان قاعدةً لطاولة في غرفة ملكية أو في معبد، وجرى ربطه بكبش التضحية الوارد في قصة النبي إبراهيم. ويظهر من خلال تسلسل الأحداث أن تشارلز وولي سرعان ما أبرق إلى مموّليه من المتاحف والجامعات والجمعيات التوراتية عن هذا الكشف المبهر، وهو أمر جرى حوله الكثير من اللغط في الأوساط الآثارية، وتم تفنيد هذه الترجمة، بل والموضوع برمته لاحقاً.
وقد زاد الطين بلة الآثاري البريطاني ماكس مالوان، والذي كان يرافق وولي، حين أبرق إلى صديق له في إنكلترا وذكر له الاكتشاف، (وحين علم مدير البعثة وولي بالأمر وبّخ مالوان بشدة، وجعله يبعث برقيةً ثانيةً إلى الصديق ذاته يلتمس منه فيها الصمت حتى يحين وقت إعلان النبأ. ويعترف في النهاية بأن ذلك الوقت لم يحِن أبداً).
وفي الصدد ذاته، كان عدد من الآثاريين والمؤرّخين العراقيين قد نفوا صحة ما قيل حول نسبة النبي إبراهيم إلى مدينة أور الرافدينية العراقية، وفي الدار المنسوبة إليه.
فالدكتور عامر الجميلي من كلية الآثار في جامعة الموصل، كما يخبرنا عبد السلام طه في مقالته، كتب: «لا أعتقد جازماً بأن مدينة أور العراقية القديمة هي المدينة المفترضة مسقطاً لرأس النبي إبراهيم، لأنني أعتمد على المصادر لكي أبني يقيناً، لكنني شخصياً، بوصفي باحثاً في علم الآثار واللغات القديمة ومهتّماً بتاريخ العراق والمنطقة وتراثها الثقافي، لا أعتقد جازماً بأن الدار أو مجموعة الدور في مدينة أور العراقية القديمة، والتي يجري تسويقها على أنها كانت سكنى للنبي إبراهيم، الوارد ذكره في الكتاب المقدس، هي بالفعل كذلك، فلم تصلنا أدلة كتابية وآثارية من بلاد الرافدين تؤيّد الأحداث التي وردت في الكتاب المقدس عن شخصية باسم «أبراهام»».
أما في «إسرائيل» نفسها فقد تصدى عدد من الباحثين الأركيولوجيين لهذه الموضوعة بالدحض والتشكيك. ومن هؤلاء الآثاري الشهير «فنكلشتاين» مؤلف كتاب «التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها» بالاشتراك مع زميله الأميركي سيلبرمان.
فبعد حسابات ومقارنات يصل فنكلشتاين إلى التأكيد أن التوراة تقول إن «زمن مغادرة إبراهيم لموطنه الأصلي في حوالى سنة 2100 ق.م. ولكن هناك مشاكل في قبول هذا التاريخ، ليس أقلها العمر الطويل جداً لإبراهيم وإسحاق ويعقوب الذي يتجاوز بالنسبة لكل منهم عمر المئة سنة بمدة مديدة. من الواضح أنه لا يمكن أن نعدّ هذا الأمر مجرد تناقض بسيط/ ص 64». علماً أن أقلّ تقدير لعمر لإبراهيم هو 175 مئة وسبعة وخمسون عاماً، وهناك تقديرات أخرى تقول إنه بلغ 195 من العمر، ويضيف فنكلشتاين قائلاً: «ولكن البحث عن الآباء التاريخيين بقي بلا نتيجة، وأثبت في النهاية إخفاقه/65».
إن الاستنتاج الذي يخرج به قارئ هذه السطور يفيد أن زمن مغادرة إبراهيم المفترضة لموطنه الأصلي جنوبي العراق حسب ما ورد في التوراة هو في حوالى سنة 2100 ق.م، والاستنتاج الذي توصل إليه الباحثان فنكلشتاين وسليبرمان هو أن تدوين هذه القصة لرحلة إبراهيم حدث في القرن السابع والثامن ق.م، وهكذا فالفرق الزمني بين رحلة إبراهيم التوراتي المفترضة وتدوينها في زمن الثقافة الشفاهية وانعدام التدوين أو ندرته الشديدة، هو بحدود 1400 سنة أي 14 قرناً، فما الذي يتبقى من صدقيته التأريخية!
في التوراة تسمى المدينة التي ولد وعاش وهاجر منها إبراهيم «أوركسديم»، وتُرجم الاسم إلى «أور الكلدانيين». ومعروف أن أور مدينة قديمة، وكانت مسكونة منذ فترة ما قبل السومريين والتي يطلق عليها «فترة تل العبيد» التي نشأت وسادت فيها مستوطنات زراعية وذلك في فترة 2600 ق.م وما قبلها، ثم أصبحت عاصمة للدولة السومرية «السلالة الثالثة» عام 2100 قبل الميلاد في عهد الملك أورنمو، أي بعد سبعة قرون من قيامها كمستوطنة للفلاحين والرعاة. أما الكلدانيون كشعب ودولتهم فقد جاءت بعد هذا التاريخ بعدة قرون تصل إلى أكثر من ألف عام، وأول ذكر للكلدانيين جاء في نصوص من عهد «آشور ناصر بال» نحو عام 883 ق.م، وأول مملكة كلدانية وعاصمتُها دور-ياقين، وأشهر ملوكِها كان الملك «مردوخ بلادان» قد توج وحكم بين سنتي 733 - 710 ق. م. إذن، بين أور عاصمة السومريين 2100 ق.م، وبين الدولة الكلدانية 733 ق.م ثمة فترة زمنية طويلة تقارب 1400 عام فكيف جمعت التوراة أور بالكلدانيين؟ أم أن ما تقصده التوراة بـ«أوركسديم» «مدينة» أخرى؟
وهناك من يعترف بنصف هذه الحقيقة، فيقول إن أوركسديم «أور الكلدانية» لم تكن كلدانية، بل كانت أكدية وأنها وُصفت بالكلدانية مجازاً، لأن التوراة كُتبت في عهد الكلدانيين. من هؤلاء مثلاً المطران الكلداني سرهد جمو الذي قال في محاضرة له بتاريخ 19 أكتوبر 2013 م: «إن أور الكلدان، هي أكدية، ولأن العهد القديم كُتب في عصر متأخر أيام الدولة الكلدانية، فسمُّوها أور الكلدانيين كمن يقول إن كريستوف كولمبس اكتشف أو وصل إلى أمريكا، بينما لم يكن اسمها أمريكا حين وصلها كولمبس».
والواقع فهذه الحجة التي يسوقها المطران جمو، لتفسير وتبرير إطلاق صفة الكلدانية على مدينة أور السومرية هي حجة ضعيفة وهشَّة جداً لأكثر من سبب؛ فأولاً، لم يكن السومريون مجهولين من قِبل كتّاب التوراة، وقد ورد ذكرهم في أسفارهم باسم شنعار وسُميت بلادهم «سهل شنعار». ونقرأ في تعريفات توراتية أن (شنعار ـــ في العهد القديم ـــ أطلقت على السهل الغريني بين نهرَي الدجلة والفرات، والذي عُرف بعد ذلك باسم بابل. ونقرأ في الإصحاح العاشر من سفر التكوين «10 : 10» أن ابتداء مملكة نمرود كان في بابل وأرك، وهي «يوروك» السومرية ، وتسمّى حالياً «وركة»، وأكد أو «أجاد» عاصمة الفاتح السامي الشهير سرجون في الألف الثالثة قبل الميلاد). وثانياً، فالدولة الكلدانية كانت قصيرة العمر جداً، بل هي أقصر الدول الرافدينية عمراً، فلم يتجاوز عمرها ثمانية وثمانين عاماً ثم سقطت إثر الغزو الفارسي الأخميني، فكيف أصبحت «الكلدانية» صفة لمدن عريقة في التاريخ، وكانت ألفية الأعمار كأور السومرية؟
وأخيراً فربما كان من المفيد التمعّن بما حدث في الصلاة التي أقيمت في مدينة أور الأثرية بحضور البابا فرنسيس وممثلين عن عدد من الأديان والطوائف الدينية الحية في العراق؛ فقد رتل الأب نشأت متي توزا، كاهن أبرشية بغداد الكلدانية، باللغة العربية وبصوته الشجي آيات من سفر التكوين - الإصحاح 12، وبعدها تُليت آيات من القرآن الكريم. والآية السابعة/ من الإصحاح 12 والتي تقول: «وتراءى الرب لأبرام وقال: «لنسلك أهب هذه الأرض». فبنى أبرام هناك مذبحاً للرب الذي تراءى له»، والمقصود هنا قطعة أرض صغيرة في شكيم الفلسطينية القديمة، كما تقول الآية السابقة لها، ولم يرتل الأب نشأت توزا الآية الثامنة عشرة والمثيرة للجدل من الإصحاح الخامس عشر، والتي نصها في الترجمة العربية «في ذلك اليوم قطع الرب مع أبرام عهداً قال: «لنسلك أهب هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات». أعتقد أن سبب ذلك هو في الإحراج الذي كانت ستولّده تلاوة هذه الآية التي جعلت منها الحركة الصهيونية اليهودية والمتشددون من الإنجيليين البروتستانتيين شعاراً لهم في العصر الحدث، وسوف نتوقف مستقبلاً عن موضوع هذا العهد تفصيلاً بهدف تفكيكه علمياً وتبيان أنه ليس من التوراة الأصلية بل أُضيف لاحقاً إلى الترجمات اليونانية للتوراة كما يقول بعض الباحثين.
إنَّ العهد أو الوعد الإلهي الثاني في الإصحاح الخامس عشر من سفر التكوين، الآية الثامنة عشرة أمر مختلف مضموناً ومعنىً عن الوعد السابق له في الآية السابعة من الإصحاح 12، ومن الواضح أنه مبالغ به ولا يمكن تصديقه منطقياً وسياقياً، وحسناً فعل الأب نشأت توزا بعدم ترتيله! ثم ماذا ستفعل عائلة رعاة كعائلة إبراهيم، أو حتى عشيرة كبيرة أو شعب صغير من شعوب المشرق الجزيري «السامي» القديم بهذه المساحة الهائلة من الأرض من الفرات إلى النيل، والتي، إذا أخذنا بحرفية الآية التوراتية المذكورة، تشمل اليوم نصف مساحة العراق وكل سوريا ولبنان والأردن وفلسطين التاريخية ونصف مصر والسودان؟

* كاتب عراقي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا