هو التوصيف الذي خصّ به معدّو نشر موقع «الجمهورية.نت» التابع لجهات سورية معارضة، رسالة – بيان، وصف معدّوه المعارضين للحرب الغربية-الإقليمية على سوريا، بأنهم من الـ»أنتي أمبريالية الحمقى» وكاتبو الرسالة – البيان ينفون أصلاً وجود حرب عالمية على سوريا. قبل الخوض في مضمون الرسالة، قد يكون من المفيد التوقف عند هذا التوصيف، «أنتي إمبريالية» الحمقى، وهو اقتباس من مقولة أوغوست بيبيل، أحد مؤسسي الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني في القرن الـ19، وهي «اللاسامية اشتراكية الحمقى». بطبيعة الحال، فإن هذا الاقتباس ليس بريئاً، إذ يهدف إلى المقارنة بين «الحمقى» الذين ساروا، بدافع اللاسامية، خلف «الشر المطلق» من منظور الفكر السياسي الغربي السائد، أي النازية والفاشية، وبين المدافعين عن «شر مطلق» آخر بعرف معدّي الرسالة، وهو «الاستبداد»، بذريعة مناهضة الإمبريالية.
تايلر سبانغلر (الولايات المتحدة)

هي رسالة موجّهة أولاً إلى الرأي العام الأميركي والغربي، ولتوظف في الحوارات الجارية حول الخيارات الواجب اتباعها تجاه سوريا اليوم. «الاستبداد»، وفقاً للسردية التي يقدمها هؤلاء عن الصراع في سوريا، هو صنو الفاشية والنازية لا أقل، لأنه بادر إلى شن حرب «إبادة» على شعب طالب بالحرية، بدعم من حلفائه «الأشرار» الإيرانيين والروس، وهم جميعاً المسؤولون الحصريون عمّا حل بسوريا من أهوال بشرية ومادية، لا «التدخل» الأميركي «غير المركزي» في هذا البلد برأيهم. تجاهل الوقائع التي أصبحت مكشوفة ومعروفة، والتي اعترف بها مسؤولون أميركيون وأوروبيون وقطريون وسعوديون، عن الدعم الكبير والمتعدد الأشكال الذي قُدم للمعارضة السورية، والتغاضي عن السياق التاريخي والجيوسياسي الذي تندرج ضمنه الحرب على سوريا، وهي حلقة من سلسلة حروب استهدفت نمطاً معيناً من الأنظمة، من مصر الناصرية إلى العراق، فليبيا ومن ثم سوريا، غايتهما تسويغ أطروحة «الشر المطلق» التي برّرت خلال العقود الثلاثة الماضية التدخلات «الإنسانية» الإمبريالية.
في عام 1991 شنّت الحرب الأولى ضد العراق بذريعة تحرير الكويت، واعتبرت حرب الحفاظ على القانون الدولي و»تشييد نظام عالمي جديد على أساسه». ثم كانت حرب كوسوفو ضد «التطهير العرقي الصربي» في عام 1999، مروراً بغزو العراق في عام 2003 بحجة امتلاكه أسلحة دمار شامل، وصولاً إلى تدمير ليبيا لـ»إنقاذ المدنيين في بنغازي» في عام 2011. وقد تطوّعت مجموعات من «المغفلين المفيدين» للمشاركة في هذه الحروب، على جبهتها الإيديولوجية، عبر الهجوم على أنظمة «الشر المطلق» والتأكيد على أنها أخطر على شعوبها من الإمبريالية. ضمذت هذه المجموعات طيفاً من المثقفين ينتمون أساساً إلى التيار الليبرالي، لكن الجديد في حالة سوريا هو انضمام أوساط محسوبة على اليسار إليها، كانت قد رفضت الحروب الإمبريالية الماضية، غير أنها ببساطة تنكر وجودها هذه المرة، أو ترى أن دورها هامشي في ما آلت اليه التطورات، وأن النظام السوري هو صاحب الدور الرئيسي في ذلك. يتضح مما سبق أن الخلاف مع هذه المجموعات يتمحور حول الموقف من الإمبرياليات الغربية بقيادة الولايات المتحدة، وما يترتب على سياساتها من نتائج على حاضر شعوب المنطقة ومستقبلها، مع ما يعنيه ذلك من تحديد للأولويات بالنسبة إلى القوى المعنية بالنضال من أجل تحقيق أهدافها في الاستقلال والوحدة والعدالة الاجتماعية والنهضة الحضارية.
يحيي البيان أطروحة «الشر المطلق» المدعوم من روسيا والصين وايران، لتعزيز موقف الفريق الرافض لتعديل السياسة السوريّة لأميركا «حامية القيم الديمقراطية»


«الشر المطلق» من منظور سياسي وتاريخي بالنسبة إلى الشعوب العربية، وغيرها من شعوب الجنوب، ليست النازية ولا الفاشية، ولا استبداد الأنظمة، بل الإمبرياليات الغربية، التي غزتها في ديارها، وفرضت عليها التجزئة والاستتباع السياسي والعسكري والاقتصادي، وزرعت الكيان الصهيوني في القلب من هذه الديار. السمة الرئيسية للتاريخ المعاصر لهذه المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، هي الصراع المديد بين شعوبها وقواها الوطنية من جهة، والإمبرياليات الغربية من جهة أخرى. ومنذ بداية الستينيات، أضحت الإمبريالية الأميركية، المتحالفة مع الكيان الصهيوني، هي العدو الرئيسي لشعوب المنطقة وقواها وأنظمتها الوطنية. هي التي استهدفت مصر الناصرية، ودعمت الكيان الصهيوني في مشروعه لاستكمال التطهير العرقي والاستيطان في فلسطين، وفي عدوانه المستمر على دول الجوار. ومع نهاية الثنائية القطبية، انتقلت الى مرحلة أعلى من حربها على القوى والأنظمة الوطنية في المنطقة، خاصة تلك ذات المرجعية القومية، بدءاً بالعراق، مروراً بليبيا، ووصولاً إلى سوريا، وأجهرت أن غايتها هي الإجهاز على العروبة كمشروع سياسي و»إعادة صياغة» الإقليم ضمن منظومة خاضعة لهيمنتها المشتركة مع إسرائيل. كانت لسوريا، إلى جانب الجمهورية الإسلامية في إيران، مساهمة حاسمة في إفشال مشروع «الشرق الأوسط الكبير» عبر دعم المقاومات الشعبية في لبنان وفلسطين والعراق. لا يتطرق من صاغ الرسالة-البيان إلى هذه الحقيقة بتاتاً، ويتعامى عمداً عن الدور الإقليمي المحوري الذي اضطلعت به سوريا في التصدي للغزوة الأميركية للمنطقة. وظيفة هذا التعامي عن السياق التاريخي والإقليمي-الدولي للأزمة في سوريا هي عزل مجرياتها الداخلية عنه، فنصبح أمام سردية مفادها أن «الشعب السوري» انتفض لأجل الحرية والديمقراطية فقام النظام بقصفه بالطائرات والبراميل المتفجّرة.
أما تدويل الأزمة من اللحظات الأولى عبر تشكيل مجموعة دول «أصدقاء سوريا» ومدّ المعارضة بالسلاح، وضخ آلاف المقاتلين الآتين من أنحاء العالم لدعمها، وتشكيل غرف عمليات بإشراف أميركي للغاية نفسها في تركيا والأردن، وصولاً إلى التدخل العسكري المباشر الأميركي والتركي واحتلال شمالها الشرقي والغربي من قبل قواته، فهي جميعها مؤشرات «غير مركزية» على الحب الجم الذي تكنّه هذه «الدول الصديقة» للشعب السوري! عبر وزير الخارجية القطري حمد بن جاسم عن هذا الحب عندما قارن سوريا بـ»الطريدة»، التي «وقعت بين أيدينا، لكننا اختلفنا في ما بيننا فنجحت بالفرار»! تعامي من نصبوا أنفسهم ناطقين رسميين باسم «القيم الأخلاقية لليسار العالمي» عن مجمل هذه المعطيات العلنية، والمعروفة من قبلهم لأن جلّهم من المتابعين للشأن السوري، يثير بداهة تساؤلات حول الهدف من ذلك بعد مرور 10 سنوات على انفجار الأزمة. واذا كان العداء لروسيا وإيران مفهوماً من قبلهم بسبب وقوفهما إلى جانب النظام في سوريا، ما الذي يفسر إقحام الصين، التي لم تسجل لها مشاركة فاعلة في المواجهة الدائرة، بين الجهات المدانة منهم؟
توقيت البيان، وتزامنه مع إعادة التقييم التي شرعت بها إدارة بايدن للسياسة الأميركية التي اعتمدت في سوريا قد يوفران جواباً حول الخلفية الفعلية لمعدّيه. استخدام أطروحة «الشر المطلق» الاستبدادي، المدعوم من روسيا والصين وإيران، يعزز موقف الفريق الرافض لتعديل هذه السياسة وتخفيف الضغوط على سوريا، انطلاقاً من أن هذا الأمر يتناقض مع عودة الولايات المتحدة لتزعم الدفاع عن القيم الديمقراطية في مواجهة قوى الاستبداد والشمولية التي تتصدر قائمتها روسيا والصين. إضافة إلى ذلك، فإن تصعيد الضغوط على سوريا يسهم في استراتيجية الاستنزاف الطويلة الأمد المتّبعة من قبل واشنطن وحلفائها التي تستهدفها مع حلفائها في طهران وموسكو. وكان نائب وزير الخارجية الروسي سرغي فرشينين قد أشار في مداخلته أمام مؤتمر المانحين الدوليين حول سوريا، المنعقد في 29 آذار، إلى الكارثة الإنسانية التي قد تسببها العقوبات عليها، نتيجة للانهيار الاقتصادي والاجتماعي، وأن تتحول إلى «ثقب أسود جديد في الشرق الأوسط شبيه باليمن أو ليبيا». ستوظف الرسالة-البيان من قبل الاتجاه المتشدد حيال سوريا في داخل الإدارة، وفي وسائل الإعلام لترهيب الجناح الأقل تشدداً تجاهها، بذريعة أنه يتواطأ مع «الشر المطلق» ومرتكب المجازر، فتستمر بفضل ذلك سياسة تجويع الشعب السوري والسعي لتدمير دولته وتفكيك لحمته الاجتماعية. أقل ما يمكن أن يقال عن معدّيها، الذين يغضون النظر عن النتائج الكارثية لجميع التدخلات الأميركية في شؤون بلدان الجنوب عبر عقود، السياسية منها والعسكرية، ونموذجا العراق وليبيا حاضران أمام أعينهم، بأنهم ارتضوا أن يكونوا «مغفّلين مفيدين» لمصلحة الإمبريالية.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا