ربّما لن يكشف أحد إلا مع مرور الوقت، طبيعة النقاشات التي تحصل في مكاتب المؤسسات الغربية والعربية، السياسية أو الأكاديمية أو الأمنية، حول برامج التمويل الخاصة بالمتعاونين مع الجهات والحكومات المانحة، في الدول المقصودة بأيّ هجوم استعماري. ومن الطبيعي أن ما حصل في بلادنا، خلال مرحلة ما بعد 11 أيلول، قد يشي بالكثير من محاولات الغرب لتطويع ناسنا هنا. وهو تطويع، يتجاوز محاصرة الحكومات والأنظمة، إلى احتواء من يُعتبرون في موقع صناعة الرأي العام، مروراً بتحييد من يمكن تحييده عبر الترويج لـ «ثقافة الحياة». لكن ذلك لا يكفي لضمان فعّالية المعركة المفتوحة من قبل الغرب الاستعماري، ضدّ أيّ فكرة، أو قوّة تسعى إلى الاستقلالية عن المركز المُهيمن، في أيّ مكان من العالم. وإذا كان العالم قبل عقدين يشكو من نقص في التحقّق والتثبّت من روايات الانقلابيين، وأنشطة الاستخبارات، وخلافها من وسائل التدمير، فإن الغرب نفسه، سعى من خلال حشود المغفّلين، وعبر مستويات مختلفة، إلى الرد المبكر على كل خطاب نقدي، عبر تسخيفه مسبقاً ومحاصرته بتهمة «نظرية المؤامرة». ولا ضيرَ من الإقرار بأن الحملات المنظمة، نجحت إلى حدّ كبير في إقناع كتل كبيرة من الرأي العام، بأن من يتحدث عن المؤامرة إنما يبرّر عجزه عن التغيير.
لكنّ الصورة القاتمة تصبح أكثر سوداوية حين نتوقّف عند الدور الذي كُلّفت به فئة جديدة من المخبرين، اختارتهم حكومات الاستعمار بعناية. استندت أساساً إلى الموقع الاجتماعي أو العلمي أو الثقافي لهؤلاء المخبرين. كان الغرب، ولا يزال، يعتقد بأن الصفات الأكاديمية أو الاجتماعية كافية للتعويض عن أي نقص في الشرعية الشعبية، وأن هذه «الصفوة» من النخب، يمكنها أن تكون في قلب القرار، من دون الحاجة إلى انتخابات، أو أحزاب، أو أطر تنظيمية تقوم على مبدأ المساءلة والمحاسبة. ولم يكن هناك من حيلة أفضل من فكرة المنظمات غير الحكومية. وهي منظمات لا تحتاج إلى قواعد، أو معايير محددة. يمكن إنجاز الأمر بعنوان واسم وبرنامج عمل، بعدها تحضر – بسحر ساحر - كل الموارد المالية المطلوبة. كما تحضر، وهذا هو الأهمّ، المنصات والمنابر التي ستجعل من أفراد كانوا مغمورين حتّى الأمس القريب، قادة رأي عام بين ليلة وضحاها.
في الحرب المفتوحة على فكرة المقاومة، مقاومة الاحتلال الإسرائيلي والأميركي والبريطاني والفرنسي لبلادنا، لم يتوقف الغرب عن ابتداع كل ما بوسعه من وسائل وأدوات وشعارات وبرامج عمل. وهو لم ولن يتوقف عن القيام بأفضل ما يقوم به، أي القتل المباشر بواسطة الجيوش الكبيرة. لكنّ فشلاً ذريعاً يلاحقه منذ أكثر من عقدين. إن الحروب الكونية التي تُشن على العالم العربي والإسلامي، وعلى أفريقيا، لم تمكّن الغرب الغازي من أي سيطرة أو إمساك بالأرض، برغم ما أحدثته من انهيارات وتفتيت ودمار. وفي كل مرة، يظهر الغرب عاجزاً عن ابتداع الفكرة القادرة على سحب البساط من تحت القوى المقاومة التي تتصدّى لغزواته ومشاريعه. لكنّ هذا الغرب، رافع راية الرأسمالية المتوحّشة، لا يتوقف عن المحاولة. وهو يدرك أنه متى فعل ذلك سينتهي أمره.
اليوم، نشهد فصلاً جديداً من المعركة المفتوحة ضد بلادنا وشعوبنا وضد حكومات قائمة، شرعية كانت أم لا، ديمقراطية أم استبدادية. غير مهم! لا يهتمّ الغرب إلا لمدى طواعيتها وخضوعها للنظام الاستعماري العالمي. ومع التغيير الإلزامي الذي حصل في الولايات المتحدة الأميركية من خلال إطاحة حكم دونالد ترامب، ويجري تعميمه في القارة العجوز، صارت هناك حاجة إلى عناوين جديدة للمعركة نفسها. ومن السذاجة ألا يكون من يضع نفسه في موقع المتابع، أو العالِم، أو المثقّف، قد أدرك أن الشعارات التي رُفعت خلال العقد الأخير لم تعد كافية لإنجاز المهمة. وثمّة حاجة إلى بدائل، ليس على مستوى الخطاب والشعارات فحسب، بل على مستوى الأدوات والوجوه أيضاً.
المُشغِّل الغربي، يزداد حماقة مع كل تجربة جديدة. هو لا يريد أن يقبل حقيقة أنه لم يعد مقبولاً، وأن تطوّره العلمي، وحرياته المزعومة، وتنوّعه الثقافي، كل ذلك لا يكفي ليكون نموذجاً مقبولاً لدى شعوب العالم. والحمق هنا مثل الحنق، إذ يسيطر الإنكار على عقول المتحكّمين بالقرار في الغرب، وهم يواجهون السؤال المرّ: كيف يمكن لشعوب متعبة، أن تركض خلف أفكار مكلفة، بينما ترفض قبولنا نحن، رمز الحضارة والتقدم والازدهار... وفي كل مرة، يجد الغرب مخبرين محليين من المغفّلين الذين يقبلون العمل معه، بل يستجدون هذا الموقع. وجيش المخبرين المغفّلين المنتشرين الآن، ليسوا سوى نتاج ثقافة الدونية الدائمة إزاء الرجل الأبيض. هؤلاء يتولّون في كل مرة اختراع الكذبة وتصديقها، والأهم، إقناع المشغّل الأحمق بها... وهذه حال النخب (أو من يطلقون على أنفسهم هذه الصفة) التي تعلن موافقتها على ما اتُّبع من سياسات تدميرية في بلادنا، متجاهلة عن عمد وحقد، دور الغرب في ما يحصل، بل حاصرةً المسؤولية عن الخراب العظيم الذي أُنزل بدولنا ومجتمعاتنا، بأنظمة سياسية أو اجتماعية قائمة.
اليوم، تعود إلى الواجهة ثلّة من «اليساريين التوّابين» الذين فقدوا شغفهم بالقضية الإنسانية الحقيقية، يوم فشلت تجربتهم... وبدلاً من أن يفسحوا المجال أمام جيل آخر لقيادة التجربة، تجلّت المراجعة عندهم ندماً ورفضاً لأصل الفكرة التي آمنوا بها ودافعوا عنها، تمهيداً للانتقال إلى صف المجرم الأكبر الذي لم يتخلّ يوماً عن سياسة الإبادة.
الذين يبرّرون التدخل الإمبريالي الغربي في بلادنا، بحجة مساعدة الشعوب على التخلّص من الأنظمة المستبدّة، ليسوا سوى مخبرين مغفّلين، يديرهم مشغّل أحمق سرعان ما سيحصد الخيبة ذاتها، مرتكباً المزيد من الدمار والمجازر، مخلّفاً لشعوب هذه المنطقة مزيداً من القهر والغضب والتخلّف الاقتصادي. لكن ما ينبغي معرفته، هو أن هؤلاء المخبرين، لم يعد من الممكن تصنيفهم كأصحاب مشروع فكري مغاير. لقد باتوا مجرد أدوات بيد الإجرام الاستعماري. وربّما كان من المفيد أن يعلموا، أن خياراتهم المجنونة هذه، لن تقابَل بالإهمال أو التجاهل، ولن يتمّ التعامل معها كـ «وجهة نظر» بين وجهات نظر أخرى. بل وجب عليهم أن يدركوا أنّهم يتحولون بإرادتهم إلى عملاء صغار، يروّجون للاستعمار المباشر، ويسعون إليه، ضدّ مصلحة شعوب ودول ومجتمعات. وهذا فعل خيانة إنسانية، قبل أن يكون خيانة وطنية... ولا خيار أمامنا إلا مواجهته!
وحتى لا يكون الكلام مجرّد موقف، من المفيد تذكير فرقة اليسار الإمبريالي الجديد، بأن ما يعملون عليه اليوم، من ترويج لنظرية القهر الاستعماري، إنما هو في الحقيقة، ترجمة لبرنامج عمل جديد، أُعد بعناية من قبل فرق وزراتَي الخارجية الأميركية والبريطانية، واستند إلى تقديرات وُضعت لعمل العقد الأخير. إذ تجد لندن وواشنطن، أن لا سبيل لمواصلة الحصار على بلداننا، وتجويع شعوبنا، إلا من خلال ربط حريتها بالتخلص من حكام أو قادة أو قوى يجب وصفها من الآن بالقوى الظلامية والمستبدة وقوى الشر المطلق. وهو ما يتوجب الترويج لفكرة أن الشعوب التي لم تغير هذه الحكومات، تتحمّل مسؤولية ما يجري بحقها، وأن التدخل الإمبريالي، لم يكن ولا مرّة مسبّباً لأي أزمة لهذه البلاد ولشعوبها، وأن الشعوب التي تستعين بالغرب لأجل نصرتها ولو من خلال حروب شاملة، هي شعوب تستحق الحياة... أما إذا استعانت بحلفاء لها، من قوى وحكومات لمواجهة الحرب الاستعمارية التي تخاض ضدّها، فهي شعوب تستجلب «الاحتلال» وبالتالي تستحق ما تعيشه من قهر.
ثمّة إبداعات لليسار التائب لا حدود لها. وثمّة استجابة من «يسار» غربي صار مهجوساً بمُثُل وقيم لم تعد موجودة في البلاد التي يسكنها. وهذا النوع من اليسار، لا يملك الأعين التي ترى ما تفعله أميركا في بلاد العالم، كما لا يرى ما يجري في إمارات القهر والموت في الجزيرة العربية. كلّ هؤلاء ليسوا على علم بأن حرب إبادة تُشن ضد بلاد اليمن، ولم يحصل أن قرؤوا أو سمعوا عما يجري في القرن الأفريقي. كما صاروا يعتبرون قضية فلسطين، كأنها فصلٌ من تاريخ مضى لا حاجة إلى العودة إليه، ويرون أن الأولوية تكمن فقط في مواجهة من يحاول إعادة التوازن إلى قيادة العالم، وفي ضرب القواعد الاجتماعية للقوى المقاومة للاستعمار الغربي...
وكلّ ذلك يحصل باسم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
على أيّة حال، فإن المشغِّل الأحمق الذي يصرّ على استخدام هؤلاء المخبرين المغفَّلين، لن يحصد نجاحاً يتجاوز تدمير بلدان وإغراق شعوبها بالدم والدموع!

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا