لم يتغيَّر العالم العربي كما تغيّر بالسرعة التي تغيَّر فيها بعد إعلان مسيرة التطبيع الخليجي مع إسرائيل في آخر عهد ترامب. والعلاقة بين إسرائيل وأنظمة الخليج ليست جديدة أبداً إذ أن هذه السلالات نفسها استعانت بالعدوّ ضد عبد الناصر في مرحلة الحرب العربيّة الباردة ( ١٩٥٦-١٩٦٧). واستثمرت دول الغرب وإسرائيل وأنظمة طغاة الخليج في حرب اليمن في الستينيّات لأن العدوّ كان مشتركاً. والعدوّ الذي أزعج دول الخليج كان دوماً هو هو منذ عام ١٩٤٨: عادت تلك السلالات كل حركات المقاومة ضد إسرائيل. هي تآمرت على المقاومة العربيّة العفويّة وغير المنظمة في سنوات الثلاثينيات حتى النكبة، ثم هي منعت انطلاق حركة المقاومة الفلسطينيّة إلى أن رعى جمال عبد الناصر تشكيل منظمة التحرير. لكنّ قدرة الأنظمة على السيطرة على مسار الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة اضمحلّ بعد هزيمة عام ١٩٦٧، التي بدّدت أحلام اللاجئين بالعودة عن طريق الاتكال على الأنظمة العربيّة—على أيٍّ منها من دون استثناء.
سليمان منصور، «صبر وأمل» (1976، أكريليك على كنفاس، 99.2 * 79.5 سنتم - «متحف قطر الوطني»)

السياسة في العالم العربي باتت اليوم مغلقة، تُسيطر عليها إرادة محمد بن سلمان ومحمد بن زايد بالاتفاق مع التحالف الأميركي-الإسرائيلي، حيث يلعب الرجلان دور المُطيع والمُنفِّذ والضارِب. الجامعة العربيّة لا تحيد عن إرادة الرجليْن، كما أن بيانات «البرلمان العربي» (وهو تجمّع تُسيطر عليه الأنظمة التي لا تسمح بانتخابات ولا وجود لبرلمانات على أرضها) تتعامل مع الثقافة السياسيّة العربيّة على أنها لم تعد كما كانت على مدى أجيال. الردّ اليمني الحوثي على العدوان السعودي-الغربي بات يُصنّف على أنه أشنع وأقسى من الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. وهذا الاحتلال بات من المنسيّات في الإعلام العربي، باستثناء إشارات عابرة تتناسب مع بيانات وزارة الخارجيّة الأميركيّة أكثر مما تتناسب مع المشاعر التاريخيّة للشعب العربي نحو فلسطين. لكن ما حدث منذ توقيع “اتفاقيات إبراهيم” هو أكبر إعادة صياغة ورسم للسياسة العربيّة ولموقف العرب الرسمي نحو إسرائيل منذ عام ١٩٤٨.
كان مُعدّاً لـ»اتفاقيات إبراهيم» أن تشكّل أكبر تغيير في الموقف العربي الرسمي من خلال الجامعة العربيّة وكل المنظمات والمؤسّسات المنبثقة عنها أو المرتبطة بها، بالإضافة إلى «رابطة العالم الإسلامي»—وهي ليست أكثر من أداة بيد النظام السعودي. وتسمية «اتفاقيّات إبراهيم» هي من بنات أفكار الصهيوني جاريد كوشنر، والمصطلح هو نظرة صهيونيّة عريقة تحاول أن تجعل من الصراع العربي-الإسرائيلي صراعاً دينيّاً يُحلّ بتفاهم بين أديان، وليس بحل المشكلة الأساسيّة التي هي مشكلة احتلالات إسرائيليّة وطرد شعب من أرضه. تحويل الصراع السياسي إلى ديني يُخرِج الفلسطينيّين المسيحيّين (واللادينيّين) من الصراع برمّته ويجعل من المسلمين وحدهم (أي محمد بن زايد ومحمد بن سلمان كأنّ لأيّ منهما دالة أو نفوذاً بين أوساط مسلمي العالم) أصحاب العلاقة المباشرة. وبمستطاع طغاة الخليج ابتياع الزعماء والحكّام والملوك في الشرق والغرب لبسط النفوذ وفرض المشيئة السياسيّة (ابتياع ساسة لبنان يكلّف النظام السعودي أقلّ بكثير مما يكلّف ابتياع جاك شيراك أو توني بلير أو ملك إسبانيا السابق).
لقد كان الإنجاز الصهيوني الكبير في اتفاقيّة كامب ديفيد ترحيل مصر، بقوّتها ونفوذها ومركزيّتها—آنذاك—عن الصراع العربي الإسرائيلي ومنع إمكانيّة تشكّل عمل عربي عسكري مشترك. وأتت في ما بعد اتفاقيّات وادي عربة، والمفاوضات اللبنانيّة-الإسرائيليّة والسوريّة-الإسرائيليّة—المباشرة—في التسعينيّات لتجزئة ملفات الصراع وترك الشعب الفلسطيني بمفرده، مفتقراً إلى عناصر القوة في المفاوضات، خصوصاً بعد الحرب الأميركيّة (بغطاء عربي، سوري ومصري وخليجي) ضد العراق في عام ١٩٩١. ولقد أخطأ فريق مقاومة إسرائيل في لبنان، في السماح لمسار تلك المفاوضات بالاستمرار، خصوصاً أن المقاومة العسكريّة كانت تفعل فعلها، وهي لم تلبث وأن طردت جيش الاحتلال من أرض لبنان بالقوة ومن دون أي تنازلات. وكانت هذه الخطيئة الأولى لذلك الفريق، قبل الخطيئة الثانيّة في عام ٢٠٠٢ بالسماح لاتفاقيّة السلام العربيّة-الإسرائيليّة المُشينة بالصدور عن قمّة بيروت (حاول إميل لحّود إبداء الاعتراض على تلك الاتفاقيّة لكنّ التفاهم السعودي-السوري فعلَ فعلَه آنذاك، على حساب القضيّة العربيّة الكُبرى).
«اتفاقيّات إبراهيم» هي فصل مكمّل من الخطة الصهيونيّة لإخراج الشعب الفلسطيني من المعادلة، وبغطاء عربي رسمي مشترك. والذي حدث في وصف وتسمية «اتفاقيّات إبراهيم» هو دفع كل العالم الإسلامي نحو التطبيع، وهذا ما يعمل عليه حثيثاً النظامان السعودي والإماراتي، خصوصاً في دفع دولة باكستان وإندونيسيا والسودان وغيرها من الدول. لا يريد محمد بن سلمان—الراعي الحقيقي لـ»اتفاقيّات إبراهيم»—أن يعلن تحالفه الوثيق مع دولة العدوّ من دون أن يضمن أن نظام «حماية الحرميْن» يتبع عدداً من الدول الإسلاميّة المعروفة في التطبيع، ولا يسبقها. كما أن «اتفاقيّات إبراهيم» تجعل من التطبيع أمراً يتوافق مع الدين، خصوصاً أن المنظمات الصهيونيّة في واشنطن باتت هي المرجع الأوّل للمناهج الدراسيّة في كل العالم العربي من دون استثناء. يكفي تقرير واحد لمنظمة «بناي بريث» في واشنطن كي يقوم السفير الأميركي في أي دولة عربيّة بزيارة حاكم الدولة والمطالبة بوضع المناهج الدراسيّة تحت المراجعة الفوريّة، وتحت طائلة العقوبات. لن يكون بعيداً اليوم الذي يطالب فيه اللوبي الإسرائيلي في واشنطن بتعديل آيات قرآنية، وليس بعيداً اليوم الذي سيوافق فيه طغاة الخليج على هذا الطلب.
ويعمل محمد بن زايد على طريقته المعهودة في التآمر السرّي. والنظام الإماراتي بات ذراعاً مكمّلة للتآمر الأميركي-الإسرائيلي في المنطقة. لم يكتفِ محمد بن زايد في المشاركة العسكريّة—مع الأردن—في الاحتلال الأميركي في أفغانستان بل هو يتدخّل الآن في اليمن والصومال وليبيا وفلسطين وأخيراً في لبنان والأردن. ومسيرة التطبيع الخليجي هذه، والمباشرة بالتحالف مع إسرائيل في قضايا وملفّات مختلفة، كان قد بدأها سفيره في واشنطن، يوسف العتيبة، الذي جاهر أمام الإعلام الأميركي بصداقته القويّة مع السفير الإسرائيلي في واشنطن، وكان ذلك قبل سنوات عديدة.
ما ضمنه النظامان الإماراتي والسعودي (مع من يتبعهما بالأجرة في العالم العربي) هو ترك الشعب الفلسطيني كي تفعل به إسرائيل ما تشاء. ومحمود عبّاس، قائد الفساد المحليّ في رام الله والذي يقوم بمهامّ يحدّدها له الاحتلال حسب اتفاقيّة أوسلو، لا يجرؤ على نقد أنظمة التطبيع لأن التنسيق الأمني الذي يرعاه ويهدد بوقفه من دون تنفيذ، هو ذروة التطبيع. كما أن ماكينة الفساد والسرقة في رام الله تحتاج إلى تمويل أوروبي وأميركي وخليجي لتسديد الخدمات لجيش الاحتلال. وليست مسرحيّة الانتخابات الأخيرة إلا محاولة بائسة لصرف أنظار الشعب الفلسطيني عن خطورة ما يجري حوله.
«إتفاقيّات إبراهيم» فصل مكمّل من الخطة الصهيونيّة لإخراج الشعب الفلسطيني من المعادلة، بغطاء عربي رسمي، ويعمل النظامان السعودي والإماراتي على دفع كل العالم الإسلامي نحو التطبيع


وفي السياسة، رتّبت دول الخليج المصالحة مع قطر لتفويت الفرصة على نقد أو مزايدة من قبل النظام القطري، الذي كان سبّاقاً بين دول الخليج في التطبيع الدبلوماسي والسياسي والإعلامي (من خلال محطة «الجزيرة»، التي كانت أوّل من أدخل أبواق البروباغندا الإسرائيليّة إلى المنازل العربيّة). وقد نجح النظامان الإماراتي والسعودي في اختراق محور الممانعة بأكثر من طريقة. فقد رتّبا تنصيب أمر مصطفى الكاظمي (الذي يصلح مثالاً لأداة الاحتلال الخارجي أكثر بكثير من حميد قرضاي) في العراق من أجل فرض مشيئة الاحتلال الأميركي في العراق، وضرب مصالح أعداء إسرائيل وأميركا في العراق والمنطقة (والكاظمي، قبل أن تضعه أميركا في منصب مسؤول المخابرات العراقيّة، تدرّب على يد كنعان مكيّة، الذراع المحليّة للمحافظين الجدد، والذي حاز على دكتوراه فخريّة من جامعة تل أبيب، والذي كان من محرّضي بوش في حرب العراق لقصف بغداد بكثافة أكثر مما قصفت أميركا في الأيام الأولى من الغزو الوحشي). ولم يسيطر التحالف السعودي-الإماراتي على النظام العربي الرسمي الخاضع له فقط، بل هو تقرّب من النظام السوري قبل وبعد مسيرة التطبيع، كي يمنع أي انتقاد له من جهته. والنظام السوري لم يصدر عنه ردٌّ واحد ضد التطبيع، باستثناء ردّ باهت لبثينة شعبان (قالت شعبان: «ما هي مصلحة دولة الإمارات»). كما أن حلفاء النظام السوري في لبنان، إما صمتوا أو هم أيّدوا الإمارات إما بسبب التلقيح أو بسبب بناء الأبراج أو بسبب استئجار لرحلة إلى المرّيخ وغير ذلك من أسباب تساعد على تحوير الأنظار.
والنظام الإماراتي باتت له سيطرة مخابراتيّة تمتد إلى أكثر من دولة عربيّة. والمخابرات الإماراتيّة الإلكترونيّة، «وكالة استخبارات الإشارات»، وهي تخضع لـ»الهيئة الوطنيّة للأمن الإلكتروني» والتي أنشأتها الإمارات على غرار «وكالة الأمن القومي» الأميركيّة، هي أفعل جهاز مخابراتي تجسّسي عربي عصري. ولم يعد خبر التعاون الإسرائيلي-الإماراتي والإسرائيلي-السعودي في مجال التجسس والحرب الإلكترونيّة سرّاً من الأسرار، خصوصاً أن فضيحة خرق الوكالة الوطنيّة القطريّة من قبل الإمارات وجريمة الخاشقجي كشفتا الكثير عن التقنيّة الإسرائيليّة التي يستعملها النظام في الحرب على المعارضين. والسطوة التجسّسيّة الإماراتيّة والسعوديّة تطاول معارضين ليس فقط في المنطقة بل حول العالم. ويعلم من يتواصل مع مواطنين في الخليج أن هناك حالة خوف—مُبرَّرة—من قبلهم في استعمال كل وسائل التواصل الاجتماعي (حتى برنامج «سيغنال» ليس في منأى عن التجسّس الإماراتي-السعودي). والنظامان السعودي والإماراتي—تماماً كما كان شاه إيران يفعل—يستعينان بخبراء متقاعدين أو مستقيلين من أجهزة المخابرات الأميركيّة (وحتماً الإسرائيليّة) من أجل بناء قدراتهما التجسّسيّة. ولقد تم ربط عمليّة اختراق هاتف جيف بيزوس (صاحب «أمازون» ومالك صحيفة «واشنطن بوست» التي، أكثر من غيرها، حملت قضيّة قتل خاشقجي وجعلتها خبراً يوميّاً على مدى أشهر طويلة) بمكتب محمد بن سلمان نفسه.
وأنظمة التطبيع المذكورة تعمل على أكثر من سكّة لفرض هيمنتها ورقابتها على مجالات التعبير العربيّة. ومثال جاد غصن، أو الهجوم الذي تعرّضَ له، لا يزال أمامنا. لا يحتاج النظام السعودي، أو الإماراتي خصوصاً، إلى فرض نظام رقابة أو طاعة على الشباب العربي، في كل العالم العربي. إن الصمت المريب الذي ساد وسائل التواصل الاجتماعي، حتى من قبل أشخاص وسياسيّين ومثقّفين وكتّاب وإعلاميّين وفنّانين ذوي تاريخ في مناصرة قضيّة فلسطين، إنما يشير إلى قدرة النظام السعودي-الإماراتي على خلق حالة تأييد، وهيمنة تسلّطية من دون الحاجة إلى عناصر شرطة وجيش أو فرض مباشر. لم تتعدَّ تغريدات جاد غصن عن السعوديّة الدزّينة الواحدة فقط. تغريدة واحدة كانت تكفي لوضعه على القائمة السوداء. والقوائم السود هي السرّ الذي لا يجرؤ أحد على التحدّث عنه في الإعلام العربي. كل من يجرؤ على معارضة النظام السعودي أو الإماراتي يصبح موضوعاً على القوائم السود غير المُعلنة. ساطع نور الدين ليس ثوريّاً عربيّاً وهو غير معروف بتاتاً بشجاعته السياسيّة أو الأدبيّة. على العكس، هو يُشرف على موقع مطيع للنظام القطري. لكن نشر مقالة واحدة معارضة للنظام الإماراتي كانت كافية لتهديده وتهديد ابنه (بعد استدعائه إلى الإمارات من قبل الأجهزة الأمنيّة هناك). والموقع «المدني» أضافَ طاعة النظام الإماراتي الصارمة إلى قائمة الطاعة التي يلتزم بها، بصرامة أيضاً. كل شاب عربي طموح سيتذكّر ما حلَّ بجاد غصن لو هو عبّر عن موقف معارض للنظاميْن التسلّطيّيْن المُتصهينيْن. لا أدري إذا كان جاد غصن سينتقد النظام السعودي بعد اليوم (وكان ردّه هادئاً ولطيفاً على مئات التغريدات والمقالات التي تعرّض لها من أتباع النظام السعودي). كل شابة عربية أو شاب عربي يتألّمان لما يفعله النظامان الحاكمان في المنطقة العربيّة سيفكِّران مليون مرّة قبل أن يعبّرا عن رأيهما في العلن.
تسيطر السعوديّة والإمارات على كل مفاصل الثقافة العربيّة: الفن والإعلام والترفيه والرياضة والأدب والرقص على أنواعه (من ينسى حفل كركلا الراقص في تمجيد الشيخ زايد أو مسرحية أولاد منصور الرحباني في تمجيد محمد بن راشد—هذا ليس فناً طبعاً ولن يعمّر بعد لحظة من انتهاء العرض). والجوائز العربيّة للأدب والإعلام والفنّ تُوزَّع في دبيّ. الأمراء والشيوخ يقرّرون بالنيابة عن الشعب العربي المذاق العربي الشعبي. أميرٌ واحد يقرّر أن أليسا هي خليفة فيروز، وشيخٌ يقرّر أن هذه الموهبة تستحق التشجيع وأخرى لا تستحق، وتابعٌ في حاشية أميرية يحكم في معايير المهنيّة في الإعلام. محمد بن راشد منح جائزة الإعلام العربي لهذا العام لنائلة تويني—وهي بالكاد تستطيع أن تكتب جملة مفيدة باللغة العربيّة من دون الاستعانة بأكثر من صديق. هل يمكن لرواية تتناول جرائم إسرائيل أن تفوز بجائزة بعد اليوم؟ ما حدث لسعدي يوسف عندما سُحبَت منه جائزة «العويس» بسبب نقده للنظام الإماراتي كان أيضاً درساً بليغاً. ولم يتعلّم هذا الدرس أكثر من سعدي يوسف نفسه، الذي—بعد عقود من المواقف السياسيّة الجريئة والجذريّة الحرّة—ظهر في مقابلة في العام الماضي مع جريدة «عكاظ» وأعلن تأييده لحكم محمد بن سلمان وذمَّ الشيوعيّين (لا يزال ذمّ الشيوعيّين يلقى صدى إيجابياً في الإعلام الخليجي بالرغم من صغر حجم الأحزاب الشيوعيّة—لكن هذه أحقاد إيديولوجية لا تزول).
ولبنان بقي البلد الوحيد الذي لا تزال فيه بقايا صحافة معارضة للأنظمة الخليج. إعلام حزب الله تعرّض للحظر من الأقمار الصناعيّة العربيّة، وهو حذر في انتقاد الأنظمة بعد أن أطلق التحالف الأميركي-الإسرائيلي-الخليجي حملة التحريض الطائفي-المذهبي بعد غزو العراق. لكن آثار الهجمة الإماراتيّة في لبنان ليست خافية. الإعلام تدجّنَ فجأة، وهناك إعلام ومواقع انتقلت ١٨٠ درجة من مقلب إلى آخر. في لبنان، تستيقظ على كاتب مؤيّد لخط الممانعة وتستفيق وهو قد انتقل إلى المقلب الآخر. صحيح، أن عمليّة مشابهة للتأثير على الإعلام وشراء الساسة والكتّاب جرت في عام ٢٠٠٥ بعد اغتيال الحريري. لكن المرحلة تلك شهدت ولادة فريق عريض لـ٨ آذار (ينسى البعض أن هذا الفريق كان يضمّ في ما يضمّ أمثال نجيب ميقاتي وفؤاد مخزومي—لم يكن مندوبه يفوّت اجتماع تنسيقي لقوى ٨ آذار) مقابل فريق ١٤ آذار. هذه المرة، تعرّض فريق حلفاء حزب الله إلى اختراق واضح. حلفاء عريقون للحزب إمّا هجروه (مثل أسامة سعد الذي بات خطابه نسخة طبق الأصل عن خطاب بولا يعقوبيان—وأسامة سعد بات وسطيّاً، مثل نجيب ميقاتي، إذ هو لا يريد للبنان أن يمشي في التطبيع لكن لا يريده أن يقود معارضة التطبيع) أو هم خفّضوا الصوت في ما هم يثنون على النظام الإماراتي (ويبدو أن النظام السوري يبارك هذا الثناء إذا كان سيؤدّي إلى إعادة إدخال النظام السوري في الجامعة العربيّة، أو التحضير لذلك—لأن أميركا لن تسمح بذلك، وهي الآن الراعية الحقيقيّة للأمانة العامة للجامعة العربيّة، التي يمكن أن تسمح بدخول إسرائيل إليها، وقد تصبح الجامعة إبراهيميّة ترحيباً بدولة الاحتلال فيها).
العالم العربي يتعرّض لإخضاع استعماري مباشر، والاستعمار له من الأنظمة كأدوات أكثر من أي وقت مضى. يُنصّب الاحتلال الأميركي مصطفى الكاظمي رئيساً للحكومة فتقوم حكومة الإمارات بمكافأته باستثمارات—وهذه الاستثمارات ستكون ضئيلة مقارنةً بالاستثمارات الهائلة التي رصدها أولاد زايد لدولة العدوّ. العون المالي العربي بات مرتبطاً بالرضوخ الكامل—لإسرائيل والخليج— وهناك من لا يزال ينادي بالسيادة فيما مشروعه ليس إلا نسخة غير معدّلة عن العودة إلى الاستعمار (وكانت وسائل إعلام الخليج قد مهّدت على مدى سنوات طويلة لهذه الحقبة عبر تجميل مرحلة الاستعمار وتصوير أدوات الاستعمار على أنهم وطنيّون ونبلاء). ومراحل التحرّر الوطني تتعرّض للتقبيح المستمرّ: لا يمكن أن تفتح جريدة سعوديّة بعد أكثر من خمسين سنة على وفاة جمال عبد الناصر إلا وترى مقالة على الأقل فيها ذمّ لعبد الناصر والمرحلة الناصريّة. السودان هو مثال ما يُعدّ: لم تتطبّع الحكومة الأميركيّة مع السودان بالمجّان (والسودان محكوم من طغمة عسكريّة مجرمة كانت شريكة إجرام مع البشير). أميركا فرضت أن يقوم الشعب السوداني بمنح أميركا—وليس العكس—مبلغ ٣٣٥ مليون دولار للتعويض على تفجيرات بن لادن لسفارتَيْ أميركا في كينيا وتانزانيا في عام ١٩٩٨. وليس من علاقة لشعب السودان بالتفجيريْن (وليس هناك حتى من دليل أن الطاغية البشير كان على علم، وهو طردَ ابن لادن من السودان). والطغمة العسكريّة الحاكمة لم تكتفِ بمنح هذا المبلغ الهائل لأميركا، لا بل زادت عليْه بإلغاء كل قوانين مقاطعة إسرائيل.
دخل العالم العربي المرحلة الإسرائيليّة: وهي مرحلة تُدخل العدوّ التاريخي من الباب العريض، وليس بالسرّ من أبواب خلفيّة (كما كان الملك المغربي يفعل، عندما سمح للـ»موساد» بوضع أجهزة التنصّت في قمّة الرباط في عام ١٩٧٤). والتحالف العلني بين السعودية والإمارات من جهة وبين إسرائيل من جهة أحرج التطبيعيّين العرب الآخرين (في فلسطين والأردن ومصر والمغرب) لأن وتيرة وعمق التطبيع في غضون أسابيع فاقا التطبيع الذي مرّت عقود عليه. لقد أظهر الحكم الإماراتي من الودّ للشعب غير العربي في أرض فلسطين أكثر مما أظهر من الودّ والحب للعرب—في فلسطين وفي خارج فلسطين—منذ تأسيس الدولة. والإنفاق المالي الهائل لنشر التطبيع سيجعلك تتأمّل معالم وجهك على المرآة كل صباح لتتأكّد من أنك ما زلتَ على الموقف الذي كنتَ عليه عندما خلدتَ إلى النوم.
* كاتب عربي. حسابه على تويتر asadabukhalil@

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا