تعتبر لوثة الكتابة التي تصيب المرء نعمة على صاحبها فيما إذا وجدت التربة الصالحة لها، مثلها مثل النبتة تماماً التي يتوقف نموها على طبيعة الأرض والظروف البيئية الأخرى المحيطة بها. وقد تصبح الكتابة رأسمالاً عظيماً للكاتب على مختلف المستويات. ابتداءً من القيمة الاعتبارية على الصعيد الاجتماعي، مروراً بالجانب الاقتصادي، المعيشي، إذ لا يضطر الكاتب إلى إضاعة ثماني ساعات على الأقل من وقته ومجهوده وطاقته كل يوم سعياً وراء تأمين أمور المعيشة اليومية له ولعائلته، وانتهاء بالناحية السياسية فيكون لكلمته أو لموقفه تأثير ملفت على الرأي العام في بلده وبين ناسه.
أما أن تظهر النبتة العنيدة، واسمها الكتابة، في تربة ليست غير صالحة فحسب، بل في بيئة صحراوية جافة، قاحلة، حيث قحط الدكتاتورية يكتسح الأرض والسماء ويمنع الماء وضوء النهار من الوصول الى النبتة اليتيمة تلك، فتصبح وبالاً ونقمة على صاحبها. وتتحول الكتابة اما إلى فعل تصفيق بائس وأجوف ومدائحي، يقي الكاتب من شر لسانه، فيسلم من التوقيف والتحقيق والاستجواب والإعدام، مقابل الاجهاز على روح الكتابة والتضحية بدورها المعرفي والتنويري لصالح سلامة الرقبة من حبال مشانق الدكتاتورية ودرء شر الجميع، بعد أن أنتجت آلة الدكتاتور الكبير آلافاً مؤلفة من الدكتاتوريين الصغار الذين على شاكلته، إن لم يكونوا أكثر وضاعة وأشد قسوة منه. أو أن تتحول الكتابة الى فعل انتحاري تودي بالكاتب إما الى الموت الجسدي أو رميه في جحيم الملاحقة والاعتقال والقتل المعنوي، وما من خيار آخر عدا الانتحار أو الركون الى الصمت سوى خيار المنفى. وفي كل الأحوال، وعلى عكس القيم الروحية والحياتية النبيلة الأخرى، كالحرية والكرامة والحقوق الطبيعية للبشر، والتي تنقرض أو تكاد في ظل الدكتاتورية، تظل الكتابة ورغماً عن أنف الدكتاتورية، مهما ازدادت شراسة، محافظة على خصوصيتها في هذا المنحى، حيث يمكن للقبح الشامل الذي أغرق الدكتاتور البلاد فيه، أن يتحول إلى جمال متجسد في أعمال ابداعية أدبية وفنية. قد ترتقي الكتابة في تلك الأماكن التي تصبح مرتعاً لانحدار الانسان إلى مستويات تتناسب عكساً مع هذه المعادلة الصعبة. وهنا تتجسد قوة الكتابة وسر ديمومتها وتحديها لأعتى الطغاة، حيث أن طاقاتها الحية كامنة في داخلها وما من قوة على الأرض تستطيع أن تمنع الأحرف من التدفق على الورقة البيضاء وتمنعها من التحليق عبر اللغات والمسافات الهائلة.
كم من السنوات
نحتاج لترميم كل هذا الخراب الذي يزداد اتساعاً؟
وفي سوريا (قبل آذار 2011) وطوال نصف قرن لم يكن الأمر مختلفاً كثيراً. كانت النقاشات المتعلقة بالحداثة وبما بعد الحداثة في أوجها بين كتاب اعتادوا على وضع بدا وكأنه سيستمر إلى أبد الآبدين. ولم يحتج الأمر إلا إلى أشهر قليلة حتى تخلخلت البنى الساكنة، اهتزت أرض الحقيقة تحت أقدام الكتاب والمنشغلين بالشأن الثقافي، وبدأت الارتدادات العكسية لدى الجميع. وانكفأ الكاتب المنشغل بقضايا ما بعد الحداثة الى حدود طائفته، والتجأ الكاتب المنشغل بالقضايا الكونية الى عشيرته، يدافع عنها ويبذل دمه رخيصاً في سبيل حمايتها من غزو العشائر الأخرى. وانهال المفكر الماركسي بالمطرقة على تاريخه حاملاً راية «لا اله الا الله» السوداء، معيراً منجله الأحمر ذاك إلى قائد كتائبه المظفرة وهي تحصد رؤوس «النصيريين» الكفرة. وتمزقت عباءة الفكر الحداثي، الرامي إلى تهديم المقدسات، عن جسد كاتب آخر، كاشفة عن جسد هزيل، مرتجف، عليل، يحتمي بعباءة الطائفة وهو على استعداد بالتضحية بألف وطن في سبيل حراسة حدودها المقدسة و... أصبحت الخيانة هي القاسم المشترك بين الجميع.
فمن يقف مع الكتائب يخون، ومن يقف مع النظام يخون، ومن يصمت يخون، ومن يقف ضد الجميع يخون ومن لا موقف له يخون، من يقف الى جانب قومه وأبناء بلدته يخون ومن يهرب من المواجهة يخون بالطبع. وبذلك اكتشفنا فجأة وبعد نصف قرن من الكتابة بأننا أمام مجموعة متنافرة من كتاب خونة، تساقطت الأقنعة عن وجوههم القبيحة، هذا ما يقوله كتاب يقفون على هذه الضفة التي تسمى ضفة الثورة أو ضفة الكتائب الاسلامية. ويتردد الصدى على الضفة الأخرى التي تقف عليها قوات النظام، مردداً الجملة نفسها، انهم مجموعة خونة لا غير. الأحياء من الجانبين خونة والموتى من الجانبين شهداء عظام. وهناك بالتأكيد من سيسبغ صفة الخيانة على تقييمي هذا، لأنني أتحدث عن ضفتين وكأنني لا أنتمي اليهما معاً. وهذا الموقف بحد ذاته، في زمن الثورات، خيانة ما بعدها خيانة. وبذلك يمكننا اعتبار هذا المشهد التراجيدي تحصيل حاصل للخراب الروحي المزمن الذي خلفته الدكتاتورية في وطن تتهاوى فيه القيم الانسانية بالتزامن مع تهاوي الأبنية على رؤوس ساكنيها. إذاً احتاج الكشف عن هذا البؤس الروحي والثقافي إلى أقل أو أكثر من سنة واحدة، فكم من السنوات نحتاج لترميم كل هذا الخراب الذي يزداد اتساعاً؟ وهل يمكن ترميمه أصلا بعد اليوم؟ سؤال برسم المجهول.
* كاتب سوري ــ ألمانيا