ليست أميركا التي نصفها بالعدو الأول للشعوب هي فقط إدارتها الاستعمارية العنصرية المنحازة دوماً للصهيونية على حساب الحقوق الفلسطينية والعربية، ولا هي فقط المجمّع العسكري الصناعي (كما أسماه الرئيس دوايت ايزنهاور في رسالة الوداع للرئاسة الأميركية عام 1958)، صاحب المصلحة الدائمة في إشعال الحروب وبيع الأسلحة، وليست فقط الاحتكارات الضخمة المسيطرة على الاقتصاد العالمي وبالتالي على مفاصل السياسات الدولية والإقليمية، وليست فقط صانعة الإرهاب العالمي وداعمة الديكتاتوريات الفاشية على امتداد العالم، بل هناك أميركا أخرى تمثّل النقيض المقابل لأميركا الغارقة في السياسات الاستعمارية والعنصرية والاستعلائية.لأميركا الأخرى رموز عرفها التاريخ الأميركي الحديث، (إذا كان ممكناً الحديث عن تاريخ دولة لا يتجاوز عمرها الثلاثة قرون)، منها رموز علمية وثقافية وفنية وتحررية لها مكانتها في كل أرجاء العالم، وبينها أسماء لا يمكن إغفالها لا سيّما في مواجهة التمييز العنصري مثل مارتن لوثر كينغ، ومالكوم اكس... وفي مواجهة النزعة الإمبراطورية الأميركية كبول فندلي السناتور الذي تم عزله وجرت محاصرته بعد كتابه الشهير المناهض للصهيونية... وفي مواجهة هيمنة الصهيونية على القرار الأميركي مثل نعوم تشومسكي ونورمان فنكلستين، ومثل الكاتبين الشهيرين جون ميرشمار وستيفن وولت اللذين فضحا «ذيلية» السياسة الخارجية الأميركية للمصالح الصهيونية في كتاب شهير بات من أكثر الكتب مبيعاً في الولايات المتحدة، وبات مؤلّفاه «منبوذَين» من أكبر الجامعات الأميركية التي كانا يدرّسان فيها...
من رموز «أميركا الأخرى» هذه أيضاً كان رامزي كلارك، وزير العدل السابق في سبعينات القرن الماضي الذي تدرّج في حياته من مناصر للحقوق المدنية والسياسية في الداخل الأميركي وكعضو في الحزب الديمقراطي إلى نصير لكلّ القضايا العادلة في العالم لا سيما القضايا العربية، وفي مقدمها قضية فلسطين.
ففي العقود الثلاثة الأخيرة، قلّما مرّ عام إلّا وهذه القامة الأميركية الشامخة، الطاعنة في السن، يزور بلداً عربياً يشكو من ظلم الإدارة الأميركية وجورها.. وانحيازها الأعمى للصهاينة، رافضاً الحصار على بغداد مدافعاً عن الرئيس العراقي الأسير صدام حسين عند سلطات الاحتلال، متضامناً مع المقاومة وحزب الله في لبنان، ورافضاً الحصار على إيران، كاسراً الحصار على قطاع غزة أكثر من مرة، مدافعاً عن كلّ فلسطيني يلاحقه القضاء الأميركي بضغط صهيوني وأبرزهم الوزير الشهيد زياد أبو عين، بالإضافة إلى قيامه بترؤس أول وفد أميركي إلى سورية بعد الحرب الكونية عليها، وذلك في شباط عام 2015، حين انتقل إلى دمشق مع الوفد بعد مشاركته في الاجتماع التأسيسي الأول «للمنتدى العربي الدولي من أجل العدالة لفلسطين» الذي انعقد في بيروت بمبادرة من المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن في 20 و21 شباط/ فبراير 2015، واختاره المنتدى رئيساً فخرياً، كما اختار يومها الوزير البحريني السابق المفكر العروبي المعروف د. علي فخرو منسّقاً عاماً له والمناضلة اللبنانية رحاب مكحل نائبة للمنسق.
وفي القاهرة، وبعد الحرب الأميركية على العراق والحرب الصهيونية على غزة ولبنان، شارك مع الرئيس الماليزي مهاتير محمد في محاكمة «شعبية» لمجرمي الحرب الكبار جورج بوش الابن وتوني بلير وأرييل شارون وهي المحكمة التي أطلقها المحامي المغربي خالد السفياني (أمين عام المؤتمر القومي العربي يومها)، والمناضل المصري الكبير الراحل عبد العظيم المغربي في مقر اتحاد المحامين العرب وبرعايته.
ويوم عدوان «الناتو» على ليبيا، كان كلارك وزملاؤه في «التحالف ضد الحرب» Answer، لا سيما الأخوان بيكر (برايان وريتشارد)، يقودون تحركات شعبية على امتداد الولايات المتحدة الأميركية، تماماً كما فعلوا يوم الحرب، وقبلها الحصار، على العراق، ويوم العدوان الصهيوني على لبنان صيف عام 2006، وفي العديد من المناسبات المماثلة انتصاراً للشعوب... ولقد تكرر الأمر نفسه خلال الحرب العدوانية على اليمن منذ ست سنوات، كما على كل حصار كان يتعرض له بلد عربي.
واليوم مع رحيل رامزي كلارك عن 94 عاماً، عمّ حزن شديد في العديد من عواصم العرب والعالم، بدءاً من غزة التي زارها مرات، إلى بغداد التي لا تنسى وقفاته إلى جانبها منذ أن كان من أبرز المشاركين في مؤتمر بغداد عام 1999 الذي كان ينعقد سنوياً بدعوة من نائب رئيس الوزراء العراقي الأستاذ الراحل طارق عزيز، إلى سورية التي شارك في ملتقيات عدة أقيمت على أرضها كملتقى «حق العودة» عام 2008، و«ملتقى نصرة الجولان» في أواخر 2009، إضافة إلى مشاركته في «المنتدى العربي الدولي لمناهضة التدخل الاستعماري في سورية ودعم الحوار والإصلاح» الذي عقدناه في بيروت في خريف 2011 حيث كانت له كلمة مدوية في افتتاح المؤتمر مع العديد من الشخصيات العربية والدولية.
وفي بيروت التي زارها لأول مرة رئيساً لـ «المنتدى الدولي لمناهضة الإمبريالية والصهيونية عام 2009»، وعرفنا عليه يومها الصديق العزيز النقابي المناضل محمد قاسم، والنائب المقاوم الدكتور علي فياض، كان كلارك يلبي كل دعوة نوجهها له للمشاركة في أية فعالية عربية ودولية انتصاراً لشعب عربي في مواجهة عدوان استعماري، بل وكان في طليعة الملبّين لنداء الواجب التحرري والإنساني، قادماً إلى بيروت على طائرة تجارية وفي الدرجة السياحية، حريصاً أن يكون له موقف أو كلمة تعبر عن موقف «أميركا الأخرى» المناقض لموقف أميركا الإدارة والاحتكارات والروح العنصرية المتعالية على شعوب العالم والمنحازة للعدوان الصهيوني إلى أبعد الحدود، وحين لم يكن ممكناً له المشاركة شخصياً كان يشارك بكلمة كما حصل يوم عقدنا الملتقى العربي الدولي لنصرة الأسرى عند الاحتلال في خريف 2010 في الجزائر برئاسة الصديق الراحل عبد العزيز السيد، الأمين العام للمؤتمر العام للأحزاب العربية.
«أميركا الأخرى» التي يزداد عدد أبنائها الأحرار المتعاطفين مع قضايانا من أكاديميين ومثقفين وشباب، تحتاج منا إلى اهتمام أكبر، كيف لا وقد امتلأت جامعاتها بلجانٍ طلابية تحت عنوان «العدالة لفلسطين»، وكم كان الراحل الكبير سعيداً حين كنت أحادثه على الهاتف وهو يتحدث عن فعاليات مناصرة لفلسطين وقضايا العرب في الجامعات الأميركية، وحين كان يرى أن الاسم الذي اخترناه عنواناً لمنتدانا في بيروت «العدالة لفلسطين» يتحول شعاراً في جامعات أميركا... واسماً للعديد من اللجان الطلابية فيها.
ألا يستحق هذا الرجل، مثله مثل الشهيدة راشيل كوري، والصحافية الراحلة هيلين توماس، أن نطلق أسماءهم على ساحات وشوارع في فلسطين ولبنان والعراق وسورية وليبيا واليمن والسودان وغيرها من بلاد العرب، تقديراً لعطاءاتهم وتعبيراً عن وفاء عربي لمن يستحق الوفاء... بل أن نخصّص جوائز بأسمائهم في مجالات عدة.
ولتكن أمسية التحية التكريمية التي سينظّمها «المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن» في الرابع والعشرين من شهر نيسان/ أبريل الحالي، منطلقاً لحملة الوفاء للراحل رامزي كلارك، ولكل متضامن أممي راحل على امتداد المعمورة.
* كاتب وسياسي لبناني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا