اختلف القوميون الاجتماعيون حول ملكية الحق والخير والجمال، هل هي في هذا الفرع من الشجرة أم ذاك؟ واحتدّ الجدل إلى درجة أن بعضهم لم يعد يمانع من استخدام الفأس ضد الشجرة نفسها، معتقداً أنه ينال من الفروع «المعادية». وقال آخرون إنهم يعبرون عن الجذع الذي لولاه لما كان للفروع أي وجود... وأكدوا أنهم يعبرون عن الجذور التي لها الفضل في تنمية الفروع «العاقة» التي سيصيبها اليباس ما إن تقطع الجذور عنها غذاء المال والعلاقات السياسية والخبرات الطويلة في تقليم الأغصان.اليوم، تُصارع الشجرة نفسها، ويحاول كل فرع أن يتحوّل إلى شجرة وبعضها رفع العيار كثيراً فجاهر بالطموح إلى تمثيل البستان كله. ولأن أوجه التشابه التي أشار إليها سابقاً الرفيق نزار سلوم بين فروع الحزب وكيانات الأمة، كبيرة جداً، فقد يكون من المناسب أن نبدأ من هنا قبل أن يتم احتطاب الشجرة ككل، بينما تتقاتل الفروع على المشروعية.
لنتفق أولاً أن شجرة الحزب السوري القومي الاجتماعي بفروعها المتعددة اليوم، لا تورق في بستان الأمة. بل تعاني القحط والجفاف، ويُحدق بها خطر الاحتطاب. هذه الشجرة المتفرّعة بأغصانها المتعددة، لا تختلف عن الأمة بكياناتها المتنازعة، مع فوارق بسيطة. يؤكّد الخبراء وجود مرض عُضال تعاني منه الشجرة، ويتمثل بالفطريات والطفيليات وغيرها من الآفات. مرض لا يمكن التغلّب عليه عبر سيتامول المسكّنات التي تأتي على شكل مبادرات توفيقية حتى لو نجح بعضها في لمّ بعض الشتات موقتاً... عبر دمج التنظيمات الشكليّ وليس على قاعدة مدرحية عميقة تستند إلى تصحيح المسار في النهج.
في السابق كنا نقول إن الكيانات الستة التي شكّلتها سايكس بيكو عبر تقسيم الأمة السورية، يمكن أن تتعاون وتنسّق في ما بينها، من خلال التكامل الاقتصادي ومشاريع التنمية والاتفاقات الاستراتيجية المتعلّقة بالأمن القومي لـ «المشرق العربي». وكان ما يرسّخ هذه القناعة ويعطيها الاطمئنان هو وجود «الكيان المركز» الذي يقوم ـــ مستفيداً من قوته ومساحته الكبيرة وثقله العسكري والاقتصادي والاستراتيجي ـــ باحتضان كيانات الفروع السياسية الأخرى، ويحاول التقريب بينها، ويضعها على درب التكامل تمهيداً لـ «الوحدة» ولو بعد حين. لكنّ الأمر الذي تغير اليوم هو انتهاء نظرية المركز القوي الذي يحتضن الفروع الضعيفة، وهذا حصل بعد الحرب التي شُنت على سوريا، لتحل محلها نظرية الفروع الضعيفة التي لا مركز لها لأنها متساوية في الضعف. وهذا توصيف خطير لأنه يعني أن الجذع والجذور صارت من الهُزال بمكان أصبحت فيه تشابه الأغصان.
الحزب السوري القومي الاجتماعي أصبح بلا مركز سياسي قوي، أسوةً بكيانات الأمة. وبالتالي فهو مجموعة من الفروع الهزيلة التي لا تدور على محورها الطبيعي الذي أراده سعادة. لا نحمّل المسؤولية كاملةً لكيانات الأمة الضعيفة في وجود الحزب الضعيف، فهذا عامل بين عوامل كثيرة.
المشكلة الجوهرية ليست بتعدد اللافتات بل في انحراف النهج عن مساره. كأننا اليوم نعيش عام 1949 عندما استشهد سعادة، ونشأ الانحراف بعده مباشرة، ثم أخذ بالاتساع بشكل يشبه ابتعاد الخط المستقيم عن النقطة عدة ميليمترات في بداية انطلاقته. لكن هذه الميليمترات لا تلبث أن تصبح عدة كيلومترات بعد مسافة قصيرة من مسار الخط تبعاً لبعد المسافة!
نعم، حال الحزب هو حال الأمة اليوم: الاثنان يدوران خارج المحور الطبيعي، بلا مركز قوي وبفروع هزيلة، مختلفة في النهج، وسطحية في الاتجاه. إذا لم نعالج أصل المشكلة، فإن الحلول التنظيمية التوفيقية ستبقى تشبه الاتفاقات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية التي بقيت حبراً على ورق بين «الكيانات». تاريخيّاً، الحلول التنظيمية التي سبق أن وحّدت بعض الفروع لبعض الوقت، لم تستمر طويلاً، فعادت الانشقاقات، لأننا أغفلنا توحيد النهج، أو بالأحرى إعادته إلى رشده، كي يعبر عن الفكرة والحركة اللتين تحددان حياة أمة بأسرها.
أحياناً يصيب المتابع شعور بأن هناك نوعاً من التعويذة التي تشبه «الإثم الكنعاني»تتحكم بالمشهد الحزبي، ويمكن تسميتها «الإثم الكياني». نقصد بها تلك القدرية التي ربطت بين الحزب والأمة. لقد تدهورت أحوال الحزب عندما تدهور حال الكيان الشامي الذي كان يمثل المركز بالنسبة إلى بقية كيانات الأمة. تلك حقيقة جيوسياسية: غاية الحرب الضروس على الشام، ألا يبقى لنا أي أمل بولادة مركز جديد على المدى المنظور.
ولعل بداية الحل لهذه المشكلة البنيوية تكون بإلغاء التعويذة التي شبهناها بالإثم الكنعاني. وهذا يفترض سياسياً إعادة نهج الحزب إلى رشده كمنارة للأمة لتحصينه من عدوى الهُزال الذي جاء نتيجة فقدان قراره القومي وتدخل فروع الأمة الهزيلة، بقراراته الداخلية ومساره ومواقفه وتحالفاته وخططه... وتعيين مسؤوليه وقادته.
إحدى المشاكل الجوهرية التي تعاني منها الفروع، هي اتباع قاعدة «الحليف الضعيف» في التعامل مع الحزب السوري القومي الاجتماعي. وهذا ما شكّل عائقاً أمام وحدة الحزب، وجعله عاجزاً عن النهوض! بل إن هذه الكيانات كثيراً ما رسّخت وجود الفروع الهزلة وحافظت عليها رغم امتلاكها قدرة التأثير على إعادة الشجرة إلى وحدتها وحالتها الطبيعية...
السؤال الكبير هنا هو كيف نلغي تعويذة «الإثم الكياني» التي تجعل تدهور حال الحزب من تدهور حال الأمة؟ يجب أن يعود الحزب إلى محوره الطبيعي في التعبير عن «الفكرة والحركة» عن طريق التمسك باستقلاليته، خصوصاً في قراراته الداخلية، وضرورة بناء تحالفاته مع الكيانات على قاعدة «الندّ للندّ»، لا بذهنيّة الموظف الذي يبقى محكوماً براتبه الشهري، المرهون برضى المدير! هكذا يستعيد الحزب دوره كمنارة للأمّة، لا كمرآة باهتة لكياناتها «السايكس بيكويّة»!
تجنّبنا هنا الدخول في القضايا الدستورية، وكيفية انبثاق السلطة، ورتبة الأمانة، والمؤتمرات القومية، وتفعيل المواد المعطّلة في الدستور والنظام الداخلي... فتلك النقاط تناولها الرفاق في أبحاثهم وبياناتهم المختلفة حول الأزمة الحزبية. إن «الإثم الكياني» التي تسلب الحزب قراره، وتسلّمه للكيانات الهزيلة، لم تكن نتيجة طبيعية للدورة الاجتماعية الاقتصادية ولحيوية الأمة، بل هي طارئة، مرتبطة بالقائمين على الحزب خلال مسيرته الطويلة، لأنهم وافقوا على تحويله إلى جمعية سياسية، فلم يعد معبّراً عن حياة الأمةٍ. فكما تكونوا... تكنْ أحزابكم!

* كاتب سوري

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا