يبدو أن «صلاحية» الخرائط الجيوسياسية الحالية لدول الشرق الأوسط باتت آخذة في النفاد. فهذه البلدان المتجاورة على مسطّح المنطقة المضطرب منذ زمن بعيد، لن تكون هي ذاتها في الغد القريب، لا من حيث حدودها وأشكال الحكومات التي ستكون قائمة فيها، ولا الأدوار المنوطة بحكامها، ولا على مستوى إمكانيات الحراك والفعل المتاحة أمام كلٍ منها.
فالأمور على ما يبدو متجهة إلى إنتاج تغييرات بارزة على الصعيد السياسي، وبناء جملة غير متوقعة من العلاقات الجديدة، تحالفاً وعِداءً، وفقاً لاعتبارات ترسمها مصالح الأقوياء وتنازلات المضطرّين. وإذا قُيِّض للخطوات التي بوشرت في هذا الاتجاه، أن تتواصل، فلا بدّ أن تفضي إلى تحوّل استراتيجي كبير على مستوى مراكز القوى ونقاط الجَذب في المنطقة، ما سيؤدي إلى ولادة شرق أوسط جديد تماماً، تُعاد فيه هيكلة الدول والأدوار والتحالفات، وتنتهي معه بشكل عملي مفاعيل «سايكس بيكو» التي تجاوزها الزمان الأميركي.
من على خط واشنطن - طهران المدشّن حديثاً وصلت أول علامات هذا الزمن المقبل، وأبرز التغييرات التي طرقت الباب تمثّلت بالتقارب الأميركي ـــ الإيراني، غير المسبوق منذ سقوط الشاه. وقد تجلّى ذلك بالاتفاق النووي المبدئي بين إيران ودول 5+1. الحقيقة أن هذا الاتفاق لم يكن نقطة عابرة يمكن إدراجها في نهاية الخبر، بل عنوان رئيس على صفحته الأولى، وحدث بالغ التأثير في رسم خريطة جديدة للقوى الفاعلة داخل منطقة الشرق الأوسط على وجه التحديد. فعلى الرغم من إرث قلّة الثقة والارتياب المتبادل بين الولايات المتحدة وإيران، إلا أن تسلسل الأحداث ما لبث أن جسّد شكلاً من بداية تطبيع العلاقات بين الطرفين. وهذا لم يكن من الممكن قيامه من دون حصول تنازلات حقيقية من الجانبين، اقتضى من جهة نزول طهران عن شجرة العداء المستديم لواشنطن، وموافقتها المبدئية (أخيراً) على «تجربة التفاهم مع الشيطان» بصرف النظر عن حجمه، وموافقة الولايات المتحدة وشركائها في مجموعة الـ 5+1 من الجهة المقابلة على حقّ إيران بإقامة برنامج نووي متقدم والدخول على صهوته إلى «النادي».
لأحدث الاختراعات
الأميركية: محاربة
الآخرين بالآخرين وتواصل التقارب مع إيران
وهنا لا ينبغي أن يغيب عن البال المعنى العملي لهذه الموافقة، وهو قبول الغرب بأن تكون إيران نووية، ولو سلمياً، فتكون بالنتيجة متطوّرة وقوية، فضلاً عن الاعتراف لها بمشروعية الهدف الذي أعلنته أساساً لبرنامجها، وبالتالي تقبّل واقع امتلاك «دولة آيات الله» للتمكّن من مفاتيح المعرفة النووية العالية والمعمقة (know how) وهو أمر يفتح أمام طهران بالطبع سُبُل تصنيع القنبلة خلال مدة وجيزة «حين يصدر الأمر» من صاحب الأمر والنهي فيها، وهو «الأرق» الذي لم يغب لحظة واحدة عن أذهان المفاوضين الغربيين، ولم يحل دون قولهم «نعم». وإذا أُضيف إلى ذلك حجم إيران السكاني الكبير، وموقعها المحوري في المنطقة، وصناعتها الناشطة على حدود الاكتفاء، وطاقتها الإنتاجية الشاملة، ومواردها الطبيعية الوفيرة، وجسورها مع كل من روسيا والصين ودول مجموعة «البريكس» وسواها، فستتبيّن لمن يهمه الأمر ولادة «دولة عُظمى» وضرورية في منطقة حساسة تعيش أسوأ كوابيسها، وتعاني دولها الكبيرة (تركيا، مصر، السعودية) من اختلالات عميقة في الوزن وفي التوازن، ما يضعها كدول وأنظمة حكم بين سندان السيئ ومطرقة الأسوأ. وهذا يهدد بالضرورة حاجة الغرب الاستراتيجية إلى موقع مرساة في هذا الاضطراب الكبير الذي يهدد أحد أبرز مصادر الطاقة الأساسية في بلادهم. ولذا سيكون عليهم القبول بالثابت الوحيد المتيسّر في المنطقة... حتى ولو كان إيران.
إلا أن هذا لا يعبّر عن مختلف جوانب الحاجة الغربية للساعد الودّي الإيراني، فهي تبدو ماسة أيضاً في العديد من الملفات الأخرى التي لا تقلّ خطورة وأهمية.
هناك أولاً أفغانستان، دوّامة الغبار والموت التي يخليها الأميركيون مع حلفائهم مكرهين، من دون أن تنتفي مصالحهم الكبيرة فيها. وهم بحاجة إلى يد مُعينة تكون فاعلة فيها. وإلى كابول تضاف أيضاً بغداد ودمشق التي تشكّل معاً «مثلّث الزوابع والمصالح» الذي لا غنى للأميركيين عن التعايش مع أمواجه العاتية.
في كامل هذه المنطقة المتفجّرة، إنما الحيوية، تبدو حكومة المعممين في طهران الثابت الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه. فالحاصل أن إيران هي أحد أقوى جيران أفغانستان وأثبتهم وأكثرهم تغلغلاً في النسيج الداخلي للمكوّنات الأهلية الأفغانية، سواء على مستوى نظام الحكم أم على صعيد المجموعات المسلحة. وقد بنت علاقات وثيقة مع قادة أساسيين داخل «طالبان» نفسها. وهذا ما يجعل منها حاجة أميركية، ولا سيما بعد اكتمال انسحاب القوات الدولية منها.
بعد أفغانستان هناك عراق المالكي... إذ يحتاج الأميركيون أيضاً إلى من يساند حليفهم المترنّح على رأس حكومة بغداد، خصوصاً في الميادين الأمنية؛ وهذا اختصاص الإيرانيين. وهنا ليس أفضل من رئيس «معتدل» للقيام بالمهمة، مع الأخذ بالاعتبار اهتمام طهران التقليدي بالعراق الذي يسمّيه الإيرانيون «الجار الداخلي»، إضافة إلى طول باع طهران وشدة تأثيرها هناك. وثمة «قيمة إضافية» هنا لا بد من الإضاءة عليها. فوجود إيران أساساً في المنطقة وحراكها «المزعج» لحكّام الخليج بالذات، وهو دأبها منذ أيام الشاه (والذي تضاعف وطالت مخالبه بعد الثورة الخمينية)، يجعل منها افضل من يُبقي «الطرائد الخليجية» تحت جاذبية القلق والمخاوف، ما يضطرّها إلى إدامة التحليق ضمن الأجواء الأميركية طلباً للأمان والحماية... وهذا يحقق رغبات واشنطن ويلبّي مصالحها وأطماعها على أفضل وجه وبأيسر السبُل. وأحدث مثال على ذلك جسّدته أخيراً صفقة الـ 10 مليارات دولار الذاهبة إلى الخزانة الأميركية ثمناً لما سُمّي «أسلحة متقدّمة»... لا بد أن تنتهي وتنام مع مثيلاتها في غبار المخازن تحت رمال صحارى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
أما في ما يتعلق بسوريا، فالحاجة الأميركية لطهران ليست خافية... فواشنطن تحتاج إيران كي تواصل زجّ ما تتطلّبه الجبهات السورية من إمكاناتها المالية والسلاحية والعتادية بهدف الحفاظ على الدولة الحاكمة في دمشق. هذه الدولة التي، وللدفاع عن نفسها، تنشط مستميتة في مقاتلة المتشددين الذين أنتجهم تشّظي «قاعدة» بن لادن وشركائها المضاربين في كل من الرياض وتل أبيب... والذين تحسب لهم أميركا والغرب ألف حساب بعد أن ذاقت منهم الأمرّين منذ مقتلة 11/ 9. واحتمالات ارتداد هؤلاء الإرهابيين نحو نيويورك ولندن وباريس مجدداً هو الكابوس المنطقي الذي يؤرق الغرب اليوم. وهذا يعني بالعملة السياسية الأميركية، ضرورة توجيه هذا الإرهاب نحو «آلة التخلّص منه» في سوريا. هذه الآلة التي تعمل بأيدٍ سورية وأسلحة روسية وتمويل إيراني. وهنا يصيب الأميركي كل الطرائد دفعة واحدة: يدك سوريا جيشاً وشعباً واقتصاداً وبنياناً... فيعزلها عن التأثير، ويتخلّص من جحافل المتشددين الإرهابيين، ويستنزف إيران ويُغرقها بمشاكل مستجدة بعد أن يترك الباب مفتوحاً معها، ثم يخلو له الودّ مع العراق وثرواته... وكل ذلك من دون أن يضحّي بجندي أميركي واحد. وهذه هي أحدث اختراعات المكيافيلية الأميركية: محاربة الآخرين بالآخرين وتواصل التقارب مع إيران.
إنما حتى لو حاولنا الإطلالة على «منطق» التقارب الأميركي ـ الإيراني هذا خارج إطر الشقّ العملي، ومن الزاوية الفكرية المحض، لتبيّن أنه تقارب مطلوب منطقياً أيضاً، وقد نادى وينادي به مفكرون أميركيون ودعوا إلى بنائه منذ عقود. وفي طليعة هؤلاء المفكرين ستيفن كينزر، صاحب كتاب «إعادة تشكيل الشرق الأوسط: الأصدقاء القدامى والحلفاء الجدد: السعودية، تركيا، إسرائيل وإيران
“Reset the Middle East: Old Friends and New Allies: Saudi Arabia, Turkey, Israel, Iran”
الصادر عام 2011، حيث ارتأى أفضلية تحالف واشنطن مع كلٍ من إيران وتركيا مقابل تخلّيها عن السعودية وإسرائيل. وقال إنه «إذا نظرنا إلى الدول المسلمة في جميع أنحاء الشرق الأوسط، فلن نجد سوى بلدين اثنين يناسبان أهدافنا الاستراتيجية، وهما إيران وتركيا». وتحدّث في مكان آخر عن «وجود تقاطع للمصالح بين إيران والولايات المتحدة في ما يتعلق بالسياسة المستقبلية تجاه الشرق الأوسط». وقال في معرض آخر: «على الرغم من اللغة العدائية المتبادلة بين إيران وبعض الدول الغربية، بيد أن ضرورة التعاون في قضايا تهم الجانبين تبدو واضحة».
وفي هذا كلّه ما يؤكد أن التقارب الحاصل مع إيران اليوم ليس ولا يصحّ اعتباره حركة خارج السياق. فهذا هو منطق الأمور وطبيعة إدارة الأزمات والمصالح.
إلا أن هذا المنطق لا يرى إليه الآخرون من الزاوية ذاتها. فإذا كان هناك من مصالح للطرفين يحققها تقاربهما، إلا أنه من الجهة المقابلة يفتح بوابات قلق وجودي لدى الخائفين أساساً من المستقبل، ولا سيما في منطقة الخليج.
فالحديث عن «ضرورة استبدال واشنطن تحالفها مع السعودية بالتحالف مع إيران»، وحتى لو جاء على لسان مفكر أميركي وليس رجل سياسة، لا بدّ أن يسبب فوراناً استثنائياً للمخاوف الخليجية وتأجيجاً شديداً لها. وبالتالي فلا يمكن مروره من دون أن يترك شرخاً إضافياً في اليقين السعودي بالذات، والذي يعاني أساساً من التباسات متداخلة ومخاوف لا يمكن لأقلّ من زيارة الرئيس الأميركي، أن تقلل من حجمها من دون أن تلغيها. وهنا إحد أبرز أهداف زيارة أوباما الأخيرة للرياض.
لكن العالم لا ينتهي هنا. فضمان تواصل الصعود الإيراني إلى سطح العالم، لا يعتمد فقط على مقوّمات الكفاءة الإيرانية، بل يحتاج بالضرورة إلى التقبّل والمواكبة الأميركيين، اللذين هما رهن لمصالح واشنطن أولاً ولمصلحة طهران في العمل على تلبيتها. لذا فلا بد من الاستعانة بالماء، أولاً لتخفيف تركيز النبيذ في الكأس الأميركية، وثانياً لتبريد بعض الرؤوس الحامية في طهران. وهذا تماماً ما تحدث عنه الباحث الأميركي كينزر في كتابه سالف الذكر عن «إعادة تشكيل الشرق الأوسط»، وهو نفسه ما ألمح إليه مدير الأبحاث في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى باتريك كلاوسون، حين تحدث عن «وجود تفاهمات إقليمية وراء الصفقة النووية بين واشنطن وطهران»، منوّهاً إلى أن «تقارب واشنطن وطهران لا بد أن يُغيِّـر موازين القوى في الشرق الأوسط».
والحقيقة أن الاتفاق غيّر هذه الموازين ولصالح إيران بالكامل. فهو يمضي قُدماً وقد ترُكت كلّ البُنى التحتية النووية الإيرانية كما هي ومن دون تدمير شيء فيها. وهذا يترجم تقبّلاً أميركياً (إن لم نقل إرادة ورغبة) في إطلاق يد إيران نووياً من دون تقييدها، في الوقت الذي تباشر فيه واشنطن تقويض نظام العقوبات الدّقيق الذي أنفقت الولايات المتحدة سنوات طِوال في إشادته وتدعيمه. وهذا يعني حصول النظام الإيراني على ضمانات واضحة بأن الولايات المتحدة لن تعمل على تغيير النظام فيه. وفي هذا أيضاً ما يؤشر إلى أن الإتفاق يحمل في طيّاته فُـرصة إبرام «تفاهم تاريخي» بين واشنطن وطهران، لا يكون الاتفاق النووي فيه سوى جزء من كلٍ أكثر شمولاً وتعقيداً.
ولا ننسى أن هناك الآن تهديداً مُشتركاً متصاعِداً، لم يعد يمثّله التزمّت الشيعي المنسوب لـ «آيات الله»، بل صار يجسّده «الجهاديون» الذين يستعدون الإيرانيين ويُهاجِمون الولايات المتحدة على حدّ سواء (كما في هجمات 11/9)، ما جعلهم ينقلبون الآن أعداءً للجميع.
ولعل في ما استبق به المستشار الأمني لدى مجلس التعاون الخليجي، سامي الفرج، زيارة أوباما للرياض، ما يلقي الضوء حيث يجب. فهو قال: «إن الحكومات الخليجية ستعمل الآن على الصعيدين، الدبلوماسي والأمني، لضمان تمتّعها بالحماية الكافية من تجدّد أي طموحات إيرانية». هذا هو أحد أعلى السقوف التي تطلّبها العرش السعودي من زائره الأميركي.
فالمملكة خائفة اليوم كما لم تكن أبداً من قبل. وجلّ ما تطمح إليه على ما يبدو، ليس تخلّي واشنطن عن انفتاحها على طهران، ولا إقدامها على قيادة الغرب في توجيه ضربة عسكرية إلى سورية بُغية إسقاط دولة الأسد، بل مجرّد «حماية الرأس»... لا أكثر.
وحين تتواضع استراتيجية مملكة لتقتصر على مجرّد البحث عن حماية رأسها، فهذا يعني أن رأسها أينع وحان قطافه.
وهذا لسوء حظ صاحب الجلالة والمنتظرين، لم يعد من أسرار العرش. فالأخبار الجيدة تمشي، لكن الأخبار السيئة تأتي ركضاً. ولا علاج يمكنه إنقاذ المريض. فمهما اجتهد البغل... لن يصبح حصاناً.
* صحافي لبناني