حققت الولايات المتحدة إنجازات في العلاقة مع اليونان 2008 من خلال الاستفادة من الأزمة الاقتصادية التي سادت البلاد، بعد استياء أثينا من شروط الاتحاد الأوروبي القاسية لاستعادة أمنها الاقتصادي. في ذلك الوقت كانت تركيا تمثّل الحليف الاستراتيجي بالنسبة إلى الولايات المتحدة ولإسرائيل، أما اليونان فكانت تدور في فلك كل من الاتحاد الأوروبي وروسيا، غير أن هذه التوازنات انقلبت بين عامي 2009-2010 بعد عملية مرمرة مافي التي قامت بها تركيا من أجل فك حصار غزة والتي أدت إلى مقتل ناشطين أتراك على يد الجيش الإسرائيلي وأدت إلى نشوب خلافات بين البلدين. قام على إثرها بنيامين نتنياهو بزيارات متكررة إلى اليونان أدت إلى تطوير العلاقات الدبلوماسية، وإقامة تعاون استراتيجي في مجالات الطاقة والدفاع، ضمت جمهورية قبرص ومصر بدفع من الولايات المتحدة الأميركية.تطورت العلاقات الأميركية والإسرائيلية مع اليونان قدّمت وعلى إثرها جماعات الضغط اليونانية في واشنطن وجماعات الضغط اليهودية المحافظة الدعم لأثينا في عامي 2014 و2016. كذلك جرت إقامة المنتدى اليوناني الإسرائيلي في عام 2019 في القدس، حيث أكد الطرفان أن هذا التعاون سيستمر بينهما حتى لو عادت العلاقات الإسرائيلية التركية إلى سالف عهدها.
سرعت الولايات المتحدة من وتيرة إنجازها التحالف مع اليونان لأسباب ثلاثة:
السبب الأول هو بيع ميناء بيرايوس بالقرب من أثينا إلى الصين، إثر مشكلات اليونان الاقتصادية. والسبب الثاني كان إعلان رئيس الوزراء الصيني أن اليونان بوابة أوروبا. وهي تقع على تقاطع طريق الحرير البحري - البري، أما السبب الثالث فكان التخوف من وصول حزب سيريزا اليساري بقيادة أليكسيس تسيبراس إلى السلطة في عام 2015. حيث ساد الخوف من تعزيز فكرة التقارب التقليدي لليسار اليوناني مع روسيا. إلا أنه وبعكس التوقعات وقفت الحكومة اليونانية إلى جانب الاتحاد الأوروبي في العقوبات على روسيا في قضية مقدونيا، وأنهت مشكلة مقدونيا عام 2018 بعد 26 عاماً من الخلافات حولها إضافة إلى ذلك قام تسيبراس بتعزيز العلاقة مع إسرائيل.
كانت كل من الولايات المتحدة وإسرائيل تسعيان إلى مد الجسور بين «القبرصيتين» الشمالية والجنوبية بعد دعمهما انتخاب انستازياديس كرئيس لجمهورية قبرص في وجه المرشح الشيوعي، من أجل استثمار الطاقة وقام جو بايدن الذي كان نائباً للرئيس السابق أوباما عام 2013 بزيارة الجزيرة بعد 42 عاماً من الانقسام، من أجل إيجاد حلّ يضع في الحساب مصالح كل الفرقاء، إسرائيل وتركيا قبرص مصر وأوروبا، وإضعاف الاقتصاد الروسي المعتمد في جزء كبير منه على تصدير الغاز. ضغط أوباما حينها على نتنياهو لإنهاء الخلاف التركي – الإسرائيلي والتعجيل في تطبيق المشروع المدروس بالاتفاق مع الاتحاد الأوروبي وتوقيع اتفاق تركي إسرائيلي لتعود العلاقات إلى طبيعتها وإنهاء القطيعة بين البلدين.
كان الصراع الدبلوماسي قد وصل بين أوباما وإردوغان إلى أوجه بسبب التضارب العميق في وجهات النظر حول سوريا والمنطقة العازلة، حيث قرر الرئيس الأميركي إنهاء الدعم لمسلحي المعارضة وأعرب عن عدم ثقته بطموحات إردوغان التي كان يعبّر عنها علناً.
تطورت العلاقات الأميركية مع اليونان، بينما كانت تركيا تبتعد وتقترب أكثر من روسيا بعد المصالحة بين إردوغان والرئيس الروسي بوتين، لا سيما بعد الاعتذار التركي عن إسقاط طائرة السوخوي عام 2015. تم إطلاق محادثات أستانا للسلام مع روسيا وإيران لحل المشكلة السورية واشترت تركيا صواريخ الدفاع الروسية S-400.
بدت أنقرة بالنسبة إلى الغرب وكأنها «حليف لا يمكن التنبؤ به في منطقة غير مستقرة»، بينما اكتسب الحوار الاستراتيجي اليوناني الأميركي دفعة جديدة بدءاً من عام 2018، في مواجهة الثقل المتزايد لروسيا والصين في هذه المنطقة، حيث جرى تكثيف القواعد في البر الرئيسي اليوناني وجزيرة كريت. بدأت اليونان في زيادة إنفاقها الدفاعي، وتحديث طائراتها الحربية من طراز F-16، ومحاولة شراء طائرات مقاتلة من طراز F-35. لا سيما مع وصول حزب الديمقراطية الجديدة إلى السلطة، المقرّب تقليدياً من الولايات المتحدة.
كان يُنظر حتى عام 2010 إلى اليونان على أنها عبء على الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، وأنها صديقة حميمة لروسيا، ودولة لم تكن قادرة على إدارة اقتصادها. لكن صورتها السياسية قد تغيرت في الغرب. بدأت الولايات المتحدة بدعم الاقتصاد اليوناني، إذ أعلنت شركات تكنولوجيا المعلومات الأميركية عن خططها لفتح مراكز تشغيل جديدة في اليونان. وأعلنت شركة Pfizer أنها ستنشئ مركزاً للأبحاث في اليونان.
لقد جرى التقليل من النفوذ الصيني، وأصبحت هناك مسافة بين أثينا وموسكو، وتمكنت واشنطن من تشكيل علاقات ثلاثية في شرق البحر الأبيض المتوسط بين اليونان - جنوب قبرص - إسرائيل واليونان - جنوب قبرص - مصر.
عززت الولايات المتحدة العلاقات بين حلفائها في المنطقة، ونجحت في إشراك المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة على المستوى العسكري في الجغرافيا السياسية لشرق البحر الأبيض المتوسط حيث يقبع الأسطول السادس بالقرب من الحدود التركية اليونانية، ويعزز وجوده العسكري وعملياته في جزيرة كريت وألكسندروبولوس كقاعدة وميناء، بين بحر إيجة والبحر الأسود، وكتقاطع لطرق عبور الطاقة.
تركيا تخسر رهانها على عقيدة «الوطن الأزرق» وتعود أدراجها إلى حضن الغرب.
بعد استبعادها من كونسورتيوم الغاز ذهبت تركيا إلى التنقيب منفردة في تحدٍّ واضح للغرب. حاولت تنفيذ «عقيدة الوطن الأزرق» في شرق البحر الأبيض المتوسط، اتفقت مع حكومة الوفاق الليبية وشاركت عسكرياً في الحرب الأهلية الليبية، وفي الوجود البحري النشط في شرق المتوسط. استخدمت في العامين الماضيين القوة في سياستها الخارجية التي كانت امتداداً لتحالف إردوغان مع القوى القومية والأوراسية محليّاً.
لكن بعد خمس سنوات من اتّباع حكومة إردوغان سياسة خارجية تنحرف عن خط الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي واعتمادها سياسة «الحكم الذاتي الاستراتيجي» وصلت إلى حدودها القصوى.
ومع عودة الديمقراطيين إلى الحكم لاستكمال مشروعهم في شرق المتوسط في وجه روسيا، بدأت تركيا بالتخلي عن سياساتها لإعطاء انطباع بأنها حليف مسؤول للولايات المتحدة الأميركية.
عملت حكومة العدالة والتنمية على إعادة تطوير علاقتها مع الولايات المتحدة. أرسلت رسائل ودية إلى الناتو، وتولت مؤخراً القيادة الدورية لقوة المهام المشتركة، عالية الاستعداد التابعة للناتو، والتي تم تشكيلها ضد روسيا. يعي كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أن إردوغان يمكن أن يقدم على أي حل لتمديد حكمه لا سيما وأن حكومته تمرّ بأضعف لحظاتها منذ وصولها إلى السلطة في أواخر عام 2002. بسبب الأوضاع الاقتصادية. لطالما وجهت المعارضة التركية نقداً للسياسة التوسعية التي اتبعتها الحكومة بسبب التضارب القائم بين رغبتها في اتخاذ مواقف مناهضة للغرب والتحرر من قبضته في الوقت الذي تعتمد فيه على دعمه المالي لها واستثماره في الاقتصاد التركي، أما مغامراتها العسكرية فهي لا تجلب بالضرورة إلا المزيد من الفوضى للبلاد، إلا أنها بدأت تدخل مرحلة من التراجع الاستراتيجي حيث أوقفت استكشافاتها للغاز وأرست اثنتين من سفن الحفر التابعة لها في البحر الأبيض المتوسط، ووافقت على التفاوض مع اليونان دون قيد أو شرط، كل ذلك يمثل الموت الصامت لعقيدة الوطن الأزرق.
غازلت مصر استخبارياً ودبلوماسياً وبدأ العدّ التنازلي للحرية المعطاة للإخوان المسلمين في الداخل التركي كبادرة حسن نية اتجاه العلاقة مع مصر وسحب المسلحين من ليبيا تجاوباً مع قرارات الحكومة الليبية والأمم المتحدة.
منذ أن أذعنت تركيا للضغط الغربي في شرق البحر المتوسط، أصبح تعاونها مع روسيا في مأزق كذلك نظام الصواريخ اس 400 رفضت واشنطن «نموذج كريت» الذي اقترحه وزير دفاعها أي وضع الصواريخ في منطقة محايدة وإبعادها عن أسلحة الأطلسي. يبدو أن الغرب بات خبيراً بطبيعة سياسة إردوغان التي تجعله يتنازل عندما يتم تهديده.
التنازل عن التنقيب في شرق البحر الأبيض المتوسط ومعاودة المحادثات للمرة التانية والستين مع اليونان، والتعاقد مؤخراً مع جماعة ضغط أميركية للعودة إلى برنامج إنتاج F-35، والتدريبات البحرية المشتركة مع الولايات المتحدة في البحر الأسود، كذلك دعم تركيا لمهمة الناتو الموسعة في العراق وتعيين سفير في إسرائيل هي خطوات مهمة تظهر أن سياسة حزب العدالة والتنمية والعقيدة التي اتبعتها في تراجع وإعادة تنظيم الحسابات.

* أستاذة جامعيّة، وباحثة في الشؤون السياسيّة

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا