الذي يجري في لبنان اليوم لا لبسَ فيه: هناك فريق يريد أن ينتزع من لبنان سرَّ قوته ومنعته، وعامل ردعه الوحيد ضد إسرائيل—وللمرّة الأولى منذ عام ١٩٤٨. لم يرتدع العدوّ إزاء لبنان مرّةً واحدة في تاريخه قبل تطوّر المقاومة الإسلاميّة ونجاحها في إنهاك العدوّ وطرده شرّ طردة من لبنان في عام ٢٠٠٠، ثم هزيمته وإذلاله في الهزيمة الكبرى في حرب تمّوز. قبل ذلك، لم يكن العدوّ يوماً مرتدعاً، لا بل كانت سياسته المقصودة هي التمادي في العدوان ليفرض الإذعان عليه. كانت الدولة اللبنانيّة منذ عام ١٩٤٨ وحتى نهاية أوائل التسعينيّات تتعامل مع لبنان على أنه أرض مفتوحة ومُباحة، وأنه ليس للبنان الحق في الدفاع عن نفسه أو الردّ على عدوان إسرائيل. أذكر في سنوات طفولتي عندما كنّا نزور منزل جدّتي في مدينة صور، كيف كنا نتلقّى اتصالاً ونحن في صور أن طائرات إسرائيليّة قصفت جسر القاسميّة، أو قبله أو بعده، وأن علينا تغيير مسار العودة إلى بيروت. كان القصف الإسرائيلي شأناً روتينيّاً في ترحال أهل الجنوب. هناك في لبنان اليوم لا يدري كيف تشكّلت ضواحي بيروت، ويظنّ أن نمو الضواحي كان ظاهرة مناخيّة أو خياراً سياحيّاً. يظنّون أن «الزمن الجميل» (هذه التسمية البشعة التي أطلقتها جريدة «النهار» لتزوير تاريخ لبنان المعاصر) أضفى بجماله على الجميع، ومن كل الطبقات الاجتماعيّة وفي كل المناطق اللبنانيّة من دون استثناء.
أيمن بعلبكي،«ميدل إيست» (مواد مختلفة على كانفاس ـــ 200 × 400 سنتم ـــ 2014 / 2015)

في ٢٤ تمّوز ١٩٥٠ اعتدت طائرة مقاتلة إسرائيليّة على طائرة مدنيّة لبنانيّة أثناء رحلتها من القدس الشرقيّة إلى بيروت. (تبقى دراسة كرستين شولتز، التي درست تاريخ العلاقة الإسرائيليّة السريّة والعدوانيّة مع لبنان، المرجع الوحيد عن هذا العمل الإرهابي. راجع مقالتها «الديبلوماسيّة القسريّة: الاعتداء الإسرائيلي في عام ١٩٥٠ على طائرة لبنانيّة»، «ميدل إيسترن ستديز»، المجلّد ٣١، العدد ٤، أكتوبر ١٩٩٥). والاعتداء هذا لم يكن أوّل عمل إسرائيلي إرهابي ضدّ لبنان بعد نشوء الكيان. كيف ننسى مجزرة الحولا التي أودت بحياة ٩٠ شخصاً وألحقت تدميراً بنسبة ١٠٠% في البلدة؟ (راجع كتاب أمين مصطفى، «المقاومة في لبنان، ١٩٤٨-٢٠٠٠»، ص. ١١٥). وكيف ننسى مجزرة الصلحا؟ وكيف ننسى الـ١٤٠ اعتداءً إسرائيليّاً ضد لبنان بين عامَي ١٩٤٩ و١٩٦٤، عندما لم يكن هناك لا منظمة التحرير ولا «جمّول» ولا حزب الله؟ لم تكن عقيدة فؤاد شهاب العسكريّة تسمح بدفاع لبنان عن نفسه. لا، عقيدة شهاب أجازت إجراء مباراة كرة قدم «وديّة» بين الجيش اللبناني والجيش الإسرائيلي في ٨ حزيران ١٩٤٩ (الخبر في صحيفة «جيروزاليم بوست» كان عادياً في اليوم التالي، إذ إن لم يكن وحيداً). والعدوان الإسرائيلي لم يعترف بحق أي شعب عربي، لا في فلسطين ولا في خارج فلسطين، في الدفاع عن النفس. على العكس. فإن أعمال العنف ضد المدنيّين كانت مقصودة من قبل العصابات الصهيونيّة كي ترسّخ عقيدة تخويف العرب من قدرة صهيونيّة جبّارة لا إمكانيّة لهم على مجابهتها. والجنون الذي أصاب موقف دولة الاحتلال بعد حرب تمّوز كان بسبب حجم الهزيمة التي لحقت بالعقيدة العسكريّة المؤسّسة لإسرائيل، والتي أرادها بن غوريون مبنيّة على حروب خاطفة وسريعة لإذلال العرب وردعهم، ومنعهم حتى عن التفكير بالدفاع عن النفس أو الانتقام.
وصفاقة الإرهاب الصهيوني ضد لبنان نبعت من عِلم المؤسّسين الصهاينة أن هناك في لبنان—في النخبة الحاكمة—مَن يتعاطف معهم ضد الشعب الفلسطيني. والعلاقة اللبنانية-الصهيونية سبقت سنة تأسيس دولة الاحتلال، وتعود إلى العشرينيّات تحديداً. وفي عام ١٩٢٠، بعد زيارة لفلسطين، طلب حاييم وايزمان من المكتب الاستخباراتي في الحركة الصهيونيّة إعداد خطة لـ»مجابهة الرفض العربي للصهيونيّة». والخطّة (وهي منشورة في كتاب «جيش من الظلال: التعامل الصهيوني مع الصهيونيّة، ١٩١٧-١٩٤٨» لهليل كوهين، ص. ١٧) تقترح في البند السادس منها «إثارة الشقاق بين المسلمين والمسيحيّين». وكانت الاتصالات الأولى بين لبنانيّين وصهاينة تتعلّق بأمور اقتصاديّة وسياحيّة. وتمّ التوصّل في آذار ١٩٢٠ إلى اتفاقيّة تعاون رسمي بين ممثّلين عن «الوكالة اليهوديّة» (وهي التنظيم السياسي للحركة الصهيونيّة) وبين «ممثلين موارنة» (دراسة شولتز، ص. ٩٢٠). لكن شولتز تلحظ أن التعاون المبكّر لم يكن أبداً محصوراً بالمسيحيّين بل شمل المسلمين أيضاً. وفي هذا الشأن، يمكن التأكيد أن التاريخ اللبناني نحو إسرائيل يدحض فكرة أن هناك طائفة وطنيّة وطائفة عميلة، بل إن التعامل مع إسرائيل شأن كل الطوائف من دون استثناء.
البطريركيّة المارونيّة كانت أوّل مؤسّسة أو تنظيم رغب في عقد اتفاقيّة رسميّة مع الحركة الصهيونيّة قبل نشوء الدولة. والبطريرك أنطوان عريضة هو أوّل من اقترح تحالفاً للأقليّات يشمل الموارنة واليهود في فلسطين. وفي فترة رئاسة إميل إده تمّت صياغة اتفاقيّة صداقة بين الحركة الصهيونيّة ولبنان (الرسمي)، لكنّ السلطات الفرنسيّة أجهضت الموضوع (أي أن بعض زعماء لبنان والإكليروس كانوا أكثر صهيونيّة من حكومة فرنسا، التي ستلعب لاحقاً دوراً أسياسيّاً في تسليح إسرائيل، بالأسلحة التقليديّة والنوويّة). وفي كل وثائق تلك الفترة يبرز اسم رئيس الحكومة، خير الدين الأحدب، كشخص متعاطف مع الصهيونيّة ومتعاون إلى أقصى الحدود. هذا رئيس حكومة ضمن رسميّاً في عام ١٩٣٨ أمن وسلامة المستوطنات اليهوديّة على الحدود بين لبنان وفلسطين (راجع رسالته لموشي شرتوك، والتي ترد في المراجع العبريّة). لكن ذروة التحالف بين (بعض) لبنان وبين الحركة الصهيونيّة تجلّت في الاتفاقيّة الرسميّة التي وقّعتها البطريركيّة المارونيّة في عام ١٩٤٦ مع الوكالة اليهوديّة، وشملت الاتفاقيّة التعاون في مجالات الثقافة والتجارة والاستخبارات والزراعة والسياحة والأمن والعلاقات العامّة (أي البروباغندا، راجع مقالة شولتز، ص. ٩٢٠). لا تزال هذه الاتفاقيّة في المحفوظات السريّة في الخزانة البطريركيّة ولم يجرؤ نائب لبناني (بعد) على المطالبة بعرض هذه الوثيقة على الشعب اللبناني وكشف حقيقة تاريخ العلاقة بين الطرفيْن. ولهذا، فإن البطريرك الحالي مُلزم بالكشف عن هذه الوثيقة وملابساتها قبل أن يجترح عقيدة جديدة للسياسة الخارجيّة للبنان، خصوصاً أن مبادرته عن الحياد (الزائف) أتت بعد زيارته لفلسطين المحتلّة رغماً عن أنف معارضي التطبيع في لبنان. ولا نعلم عن هذه الاتفاقيّة الشنيعة إلا ما نُشر عنها في المراجع الإسرائيليّة العبريّة. واتفق طرفا الاتفاقيّة على السريّة المطلقة خشية «الغضبة الإسلاميّة» (حسب المراجع) كأنّ رفض الصهيونية كان—أو لا يزال— حكراً فقط على طائفة واحدة أو دين واحد مع أن التطبيع، كما مقاومته، يتعدّى الحدود الطائفيّة.
وسبق ظروف إطلاق النار الإسرائيلي على طائرة مدنيّة لبنانيّة التوصّل إلى اتفاق الهدنة بين لبنان وإسرائيل. ولا شكّ في أن المفاوضات اللبنانيّة مع العدوّ كانت، حسب المراجع، أكثر سهولة وسلاسة من كل الاتفاقيات العربيّة مع إسرائيل حول الهدنة. يكفي أن المقدّم توفيق سالم والمقدّم جوزيف حرب، عضوي الوفد اللبناني الرسمي، دشّنا الاجتماع مع ضبّاط العدوّ بالقول إنهم ليسوا عرباً وإنهم انقادوا من قبل العرب إلى المواجهة مع الصهاينة ضد إرادتهم. هذه هي حقيقة عقيدة فؤاد شهاب الدفاعيّة التي ضمنت للبنان الذلّ والهوان اللذيْن حكما تاريخه المعاصر إلى أن أتى عصر المقاومة الشعبيّة. وبالرغم من أن المفاوضات حول الهدنة كانت محصورة بالهدنة، فإن الوفد اللبناني عبّرَ بسرعة عن طموحاته في التطبيع. وبما أن الشعب في لبنان مهووس بالسبق والمراتب، فيمكن للبنان—لو أراد—أن يزهو أنه كان أوّل دولة عربيّة فاتحت العدوّ بالرغبة في التطبيع مباشرةً بعد النكبة.
وشركة الطيران اللبنانيّة، «كومباني جنرال دي ترانسبور» كانت فرعاً من الطيران الفرنسي وتقوم برحلات منتظمة بين مطار قلنديا (في محيط مدينة القدس وكان يخدم العرب قبل الاحتلال الكامل للقدس في حرب ١٩٦٧) وبين مطار بيروت. والطائرة التي نتحدّث عنها حلّقت بعد الظهر في ٢٤ تمّوز من عام ١٩٥٠. وكانت الطائرة تحمل ٢٥ راكباً، بمن فيهم تسعة أميركيّين ودانماركيان اثنان و١٤ أردنيّاً. وكانت الطائرة في على أهبة الهبوط في بيروت (على بعد ١٧ دقيقة فقط) عندما ظهرت طائرة مقاتلة إسرائيليّة (وكانت الطائرة اللبنانيّة في الأراضي اللبنانيّة فوق مرجعيون، تحديداً). وحاولت الطائرة الإسرائيليّة أن تجبر الطائرة اللبنانيّة على الهبوط. لكنّ القبطان تجاهل إنذار الطائرة الإسرائيليّة لأنه كان في الأجواء اللبنانيّة. وفي هذه اللحظة، يقول الطيّار: «اعتدت الطائرة الإسرائيليّة علينا من الخلف برشّاش، وأصابتنا بعدة رشقات، وطاردتنا إلى ارتفاع ٢٠٠٠ قدم فوق محيط صيدا، التي فكّرتُ فيها كمكان لهبوط اضطراري. وقدّر الركاب المدّة بين ظهور الطائرة الإسرائيليّة وبين إطلاق النار على الطائرة اللبنانيّة بثلاث دقائق فقط. ووصف واحد من الركاب الهجوم كالتالي: «سمعت قدوم طائرة نحونا من المقدّمة. وخفّضت طائرتنا أنفها فيما حلّقت الطائرة الإسرائيليّة فوقنا. وكانت الطائرة إما فوق ذنب الطائرة أو خلفنا قليلاً عندما أصابتنا نيران الطائرة المقاتلة في سقف الطائرة من ناحية اليمين، إلى الأمام. وكانت هناك قطع من أشلاء الأجساد متوزّعة على السقف وعلى الركّاب في خلف الطائرة. وكان هناك قسم من نخاع (لضحيّة) ودماء على معطفي» (ص٩٢٢، من دراسة شولتز).
راكب آخر يروي: «بعد نحو ثلاث دقائق فقط من رؤيتنا للطائرة المقاتلة أمامنا، تلقينا النيران. رأيتُ وميضَ النيران وهي تدخل إلى الطائرة، وسمعت صوت إطلاق النيران وصوت الرصاص ينخر في الطائرة. ورأيت الدماء وهي تتناثر حولنا وإصابة بعض الركّاب بجروح».
قبطان الطائرة وصف مصدر النيران بأنه أتى من الخلف ووافقه الركّاب في ذلك. وهناك من قال إن الطائرة الإسرائيليّة اقتربت من الأمام، وإلى الأعلى قليلاً، وأكد ذلك واقعة إصابة الركاب في القسم الأمامي من الطائرة فيما انتشرت الدماء على الركاب في القسم الخلفي من الطائرة. ومن المؤكّد أن الطائرة اللبنانيّة أصيبت من جهة اليمين، وأن ثقوب الرصاص ملأت جسم الطائرة من جهة اليمين بالإضافة إلى مقصورة القبطان وغرفة الراديو.
لكنّ الأهم من ناحية القانون الدولي، الذي لم تعره دولة الاحتلال اهتماماً منذ إنشائها، أن موقع الطائرة المدنيّة اللبنانيّة كان فوق مرجعيون، وأن الطائرة لم تخرق الأجواء الفلسطينيّة. وقدّ أكدّ ذلك القبطان ومساعد القبطان والركّاب (وهم من جنسيّات عربيّة وغربيّة، كما سلف). وكانت السماء صافية ولم يكن هناك لبس في رؤيتها، وكانت رؤية رقم تسجيل الطائرة المدنيّة واضحة. ولم تكتفِ الطائرة المقاتلة الإسرائيليّة بإطلاق النار على الطائرة المدنيّة اللبنانيّة بل هي واصلت إطلاق النار وطاردتها نحو صيدا قبل أن تعود إلى فلسطين المحتلّة. وقتل الراكب اليهودي، حسب وصف مراسل «الحياة» (موسى دويك، وأنطوان الوزير (مُشغّل جهاز الراديو). وأصيب سبعة ركّاب أردنيين بجروح. وقدّمت الحكومة اللبنانيّة شكوى ضعيفة وشكليّة للأمين العام للأمم المتحدة وطالبت باعتذار والحفاظ على «السلام» والتعويض عن الضحايا والتمسّك باتفاق الهدنة. لكنّ هذا ديدن حكومات لبنان المتعاقبة منذ عام ١٩٤٨، لا ترد حكومات لبنان على العدوان الإسرائيلي والخروقات المتكرّرة لسيادته إلا بالدعوة إلى العودة إلى اتفاق الهدنة والتمسّك بالسلام (لا، بات الموقف اللبناني في عهد ميشال عون وفي ظلّ قيادة جوزيف عون أسوأ مما كان في الماضي إذ إن كل خرق إسرائيلي يُقابل من جانب الوفد اللبناني في الناقورة بالشكوى الشكليّة المهذّبة، قبل أن يتناول أعضاء الوفد المرطّبات والمازة ويتبادلون أطراف الحديث بتشجيع دوري من وفد اليونيفيل، الذي هو ليس إلا امتداداً لوفد العدو).
ورَاوحت تعليقات الصحف التي رصدتها شولتز، ووجدت تعليق كامل مروّة في «الحياة» من أقواها، إذ إنه رأى أن العمل العدواني أتى لـ»يذكّرنا بضعفنا وعجزنا وعقم تفكيرنا. ولهذا، فإن الحادثة مع الطائرة الإسرائيليّة جاءت لتعطينا درساً جديداً أن البلدان التي تريد أن تعيش كما نعيش لن تبقى على قيد الحياة» (ص. ٩٢٣). واتهم مروّة ساسة لبنان بأنهم «تناسوا إسرائيل وعادوا إلى (صيغة) السلام الدائم». لكنّ موقف بشارون مارون، صاحب جريدة «الروّاد»، كان متساهلاً ومائعاً وقال إنه يتفق مع الرأي اللبناني السائد أن «اليهود معتادون على ارتكاب هكذا عدوان، والذي لا يُقابل من الجانب العربي إلا بشكاوى للجنرال رايلي (مسؤول لجنة اتفاق الهدنة)». لكن مارون أضاف أنه يرى إمكانية «السلام والتفاهم مع هؤلاء اليهود لإنهاء حالة اللاحرب، لا سلام».
وقدّمت الحكومة الإسرائيليّة وجهة نظرها عن الاعتداء، ولكنْ هذه المرّة لم يكن بين ذرائعها وجود المقاومة الفلسطينيّة أو المقاومة اللبنانيّة. كان لبنان في حينه، حملاً وديعاً ينتظر ذبحه على يد إسرائيل متى تشاء. هذه عقيدة فؤاد شهاب التي كانت تعتبر أن طمأنة إسرائيل تفوق في أهميّتها سيادة وعزّة وشرف لبنان. واتهمت حكومة العدو الطائرة اللبنانيّة بخرق أجوائها، هكذا من دون سبب، وزعمت أن النيران الكثيفة التي أطلقتها (والتي قتلت شخصيْن وجرحت سبعة) لم تكن إلا طلقات تحذيريّة فقط. وبدلاً من الاعتذار الذي طالب به لبنان، فإن حكومة العدوّ ألقت باللائمة على قبطان الطائرة لأنه أظهر «موقفاً غير مسؤول نحو التحذيرات المتوالية» من الطائرة الإسرائيليّة المقاتلة. لكنّ وقاحة إسرائيل كعادتها تلفت الأنظار. فقد تقدّمت حكومة العدوّ بشكوى للأمم المتحدة حول خرق أجوائها من قبل الدول العربيّة التي برأيها لا تلتزم بخطوط اتفاقيات الهدنة (ونحن طبعاً نعلم اليوم بطلان المزاعم الإسرائيليّة بعد أن تسرّبت أحاديث لموسى دايان بعد وفاته اعترف فيها، في مقابلة مع الصحافي رامي تال، بأن جيش الاحتلال الإسرائيلي كان يتجاوز حدود فلسطين ليقترب من الجانب السوري ويستفزّه في أكثر من ٨٠% من الحالات كي يشتبك معه وتكون لديه ذريعة الاشتباك معه—راجع عدد «نيويورك تايمز، ١١ أيار، ١٩٩٧). وأراد العدوّ من الشكوى ضد لبنان ترسيخ فكرة فرض السلام معه بالقوّة: أراد أن يقول للدول العربيّة إنه في غياب اتفاقيّات السلام، فإن إطلاق الرصاص على طائرات مدنيّة عربيّة سيستمرّ.
يمكن للبنان، لو أراد، أن يتباهى بكونه أوّل دولة عربيّة فاتحت العدوّ بالرغبة في التطبيع مباشرة بعد النكبة


وبالرغم من تعرّض ركاب أميركيّين لإطلاق رصاص من قبل إسرائيل، حليفة أميركا، فإن الحكومة الأميركيّة جهدت كي تقلّل من مستوى الحدث وأهميّته لتجنّب لوم إسرائيل. والأرشيف الأميركي يحتوي على وثيقة توجيهات من قبل وزارة الخارجيّة الأميركيّة للمحادثة مع القائم بالأعمال الإسرائيلي في واشنطن. واقترحت المذكّرة الأميركيّة «ذكر الحادثة أثناء زيارته والتعبير له عن اهتمامنا بمعرفة الحقائق حولها، لأننا نعتبر هذه الحوادث على أنها مؤسفة وتعطّل كل الجهود للتوصل إلى حل للمشكلة الفلسطينيّة المثيرة للجدل» (المصطلح الذي استعملته وزارة الخارجية للإشارة إلى المشكلة الفلسطينيّة يعطي صورة عن تجاهل حكومات الغرب للقضيّة قبل أن تنطلق المقاومة الفلسطينيّة وتفرض أجندة القضيّة على الحكومات العالميّة والرأي العام العالمي).
ورفض سكرتاريّة مجلس الأمن بحث القضيّة في اجتماع ٢٨ تمّوز، وأبلغت الوفد الأميركي بذلك كأنها تطمئنه أن لا خطر على إسرائيل من جهتها. وأصرّت السكرتاريّة على حصر بحث الموضوع في لجنة الهدنة، كأنّ الاعتداء على طائرة مدنيّة من قبل طائرة مقاتلة إسرائيليّة يدخل في نطاق عمل لجنة الهدنة، وكأنّ بروتوكول الاتفاق يلحظ حالات الاعتداء على طائرة مدنيّة لأيّ من الطرفيْن. لكنّ المُريب في الموضوع أن الحكومة اللبنانيّة، كما الحكومة الإسرائيليّة، وافقت على حصر الموضوع بلجنة الهدنة. وهذا يتكرّر في تاريخ العدوان الإسرائيلي على لبنان. وهناك المزيد من الوثائق الأميركيّة التي ستصدر في كتاب حديثاً عن الدور الأميركي في مرحلة التحضير للحرب الأهليّة ويتضح فيها كم أن الحكومة اللبنانيّة كانت ترضخ للأوامر الأميركيّة بالتمنّع عن تقديم شكاوى للأمم المتحدة مراضاةً لإسرائيل. لكن ماذا نتوقّع من حكومات كانت تنسّق وتتعاون (في عهد شارل الحلو وعهد سليمان فرنجيّة) في التآمر على المقاومة الفلسطينيّة، وستظهر في هذا الشأن أسماء ساسة مسلمين تعاونوا مع رئيس الجمهوريّة في المخطط.
واجتمعت لجنة الهدنة في ٢٧ تمّوز ١٩٥٠، وأبلغ الضابط اللبناني، فريفر (هكذا يظهر اسمه في المراجع العبريّة) الجانب الإسرائيلي أن الرشاش الإسرائيلي الذي أصاب الطائرة كان من عيار ١٣ مليمتراً، وأن مُشغّل الراديو توفي من جراحه وأن طفلة في عمر خمس سنوات احتاجت إلى أن تُبتر ساقها بسبب الجراح. وكذب الضابط الإسرائيلي في نفيه أن تكون الطائرة الإسرائيليّة قد دخلت الأجواء اللبنانيّة. وانتهى الاجتماع بطلب لبناني لاعتذار وتعويض—فقط. في المقابل، طلب الوفد الإسرائيلي، بوقاحة، من الجانب اللبناني، وقف خرق الأجواء... الفلسطينيّة. واقترح الجنرال رايلي من الطرفيْن تقديم الاعتذار، و»يا دار ما دخلك شرّ». وتجد شولتز مفارقة أن حزب الكتائب الذي أدان في العلن الاعتداء على الطائرة اللبنانيّة تقدّم بطلب رسمي من حكومة العدوّ، عبر الدبلوماسي اللبناني، الياس ربابي، لتمويل حملته الانتخابيّة في انتخابات ١٩٥١. وتلقّى ربابي مبلغ ألفَيْ دولار. وخلاصة المؤرّخة من دراسة الحادثة مفادها أن سياسة العدوان الإسرائيليّة ضد طائرة مدنيّة كانت مقصودة وتهدف إلى جرّ لبنان نحو اتفاقيّة سلام مع إسرائيل، أي أن إرهاب إسرائيل ضد الدول العربيّة كان، ولا يزال، سياسة مقصودة لجعل خيار الاستسلام خياراً وحيداً. لكن في لبنان اليوم مقاومة مجهّزة بصواريخ. العدوّ بات الخائف الأكبر، لا لبنان.

* كاتب عربي - حسابه على تويتر asadabukhalil@

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا