هو الذي كان مستهلّه دماءً ورصاصاً وشهداءَ، غسلت بؤس الشوارع وأرصفتها والبيوت والأحياء الفقيرة، ليس في شيكاغو، مسرح الجريمة فقط، بل في كل بقاع الفقر والعوز والظلم والأميّة، وكل ساحات الحرمان والانتفاض، ضحايا الجشع الرأسمالي المتكاثر، بسبب قوى رأس المال وسياساتها المتهوّرة باتجاه تقديس الربح وتكديسه على حساب ملايين الضحايا. هو ذلك العيد – الشهيد، وتلك الراية التي ابتلّت بالدماء فأصبحت حمراء ولم تتغير؛ بدأت مشوارها، مرافقة لكل من لا يمتلك إلّا قوة عمله إلى يوميات الكدّ والتعب والعرق، لم تشخ ولم يبهت لونها، بل ازدادت سطوعاً وانتشاراً. لم يُخلق مخلوق كي يكون عبداً أو عاملاً أو مستغلاً، ولا لأن يكون صاحب مال أو سطوة. فالطبيعة التكوينية لكل الكائنات قائمة على التساوي في الشكل والمضمون، وعليه كانت أنواعاً، ولكن بتساوٍ في المنزلة. أمّا تكريس المنزلة، وجعل المواطنين درجات، فقد جاءا نتيجة لذلك الصراع الأبدي، القادم من فكر غيبي، سطّح مقاربة الأمور إلى حدّ التعمية عن حقيقتها؛ هم أصحاب مصالح، جمعتهم الحاجة فتواطأوا كي يقتسموا الدنيا بأمر الآخرة، ومن هنا بدأ الصراع القائم بأساسه على الاستغلال، ومن ثم تبلور بسلوكيات متوارثة جعلت الناس طبقات، بحكم الواقع وليس بحكم المنطق. هذا الانتظام الوظيفي كان قهرياً، ولأجله كانت تُعدّ العدة والعديد، وتتناوب أساليب الترهيب بقصد الترغيب. لقد فعلها سبارتكوس وانتفض وسُحق، وفعلتها مجموعات عديدة في مختلف زوايا العالم وأزمانه. هكذا فعلتها كومونة باريس وعمال شيكاغو، وعلى هدي تلك الشعلة كانت ثورة أكتوبر والمحلّة وهانوي وهافانا... واستُكملت في أربع جهات الأرض نضالاً وشهداء.
عمال، فلاحون، صغار كسبة، فقراء، موظفون، رجال، نساء... هم خليط من هموم متراكمة، طحنتهم هموم الحياة ومستلزماتها؛ عاشوا البؤس واجترعوا مرارته وصبروا، عانوا ظلم رأس المال وجشعه، فانتفضوا. هو ذلك المسير الخالد بين الميادين وهمومها، يزرعونها بنضالاتهم كما بدمائهم، لم يستكينوا أو يتعبوا. هو انقسام حقيقي بين ضفتين، لا اتفاق بينهما ولا اجتماع، كما لا مساحات مشتركة أو حلول وسط؛ الرؤية واضحة لا غشاوة حولها ولا خيارات ملتبسة. منذ أن وُجد الإنسان كان عاملاً ومنتجاً، بغضّ النظر عن صيرورة تطوره وانتقاله من نمط إلى آخر. طوّع الواقع كما الصعوبات كما الظلم، وطوّعته الأيام والظروف المواكبة له، انتفض وقاتل، سُحق وقتل... انتصر وحكم وحاكم... لكن هذا لم يلغ الظلم عن البشرية، ولم يبن مجتمعاً خالياً من أوبئة الرأسمال المدعوم من سلطات متعددة تعمل بأمر من له الأمر.
هنا كان المفترق الذي تاه بعضهم باتجاهاته. لقد وقع كثيرون على تقاطع تلك الطرقات وخياراتها. التبست عليهم الخيارات فانصاعوا وفضّلوا ما كُتب لهم من واحد أحد لم يقووا على رفضه، وبقية آمنت بأن الأقدار من صنع الخيارات التي يأخذها الإنسان، فقاتلوا وامتزجت دماؤهم بعرقهم، «بمفرمة» مستمرة، لا بل متواصلة. هي مسألة الفهم الخالص، الخالي من الشوائب، لقضية التغيير الاجتماعي، ببعدَيها الوطني والطبقي، والبناء عليها للسير نحو الأمام. هذا ما تضمنه شعار «يا عمال العالم اتحدوا»، الذي أعطى لقضية الطبقة العاملة أساسها النظري، المرتكز على مفهوم الوعي الحقيقي لواقعها في سلم الطبقات الاجتماعية، إن لم نقل في أدناه، وهي بهذا المعنى، ستشكل أساساً لبناء المشروع السياسي، الناتج من تناقض المصالح بين المستبدين، وبين من يقع عليهم فعل الاستبداد. وعليه، سيصبح الوعي المدخل الإلزامي لقضية الانتفاض بهدف التحرر. أما استكمال الشعار بإضافة «ويا أيتها الشعوب المضطهدة»، فهو بمنزلة الحيز الآخر من عملية كسر منطق الاستكانة لحتمية ثبات الواقع، وفتح المجال أمام مسار التحرر الواقع على تقاطعَي كسر القيد الطبقي من جهة وتحطيم أغلال المستعمر من جهة أخرى، الذي ارتكز، أساساً، على ركائز محلية أمّنت له موطئ القدم من داخل المنظومة المتحكّمة. هو ذلك الترابط المتين بين مصالح متقاطعة؛ نظم سياسية بوظيفة معروفة ورأسمال عالمي متحور الأشكال وثابت الأهداف. لم تكن طريق التحرر من تلك المعادلة متاحة وسهلة، بل كانت شاقّة ومضنية بحكم القدرات المتوافرة لكل فريق، سواء منها المادية أو البشرية.
«يا عمّال العالم اتحدوا» ستهتف بيروت نهار الأحد في 9 أيار (مايو) 2021 خلال مسيرتها المؤجّلة احتفالاً بـ «عيد العمال»


لقد ابتلي العالم برأسمالية السوق المتدرجة في سيطرتها، والتي كُسرت أمامها كل حدود وأُزيلت كل معوقات، وبالرغم من ذلك، فإن دروبها لم تكن سهلة. فالانقسام الأزلي بين تينك الخيمتين أعطى للمواجهة بعدها الأممي والشامل، والطبقي القائم على تناقض بنيوي، ما جعل حدود الفصل كما حدود الاشتباك واضحة. هي إذن تلك المنازلة التي لا تعادل فيها ولا تفاوض أو حلول وسط؛ إمّا سلطة رأس المال وإمّا سلطة العمال والفقراء... وعليه الخيار سيكون واضحاً كوضوح شمس أول أيار المتوهجة بلون أحمر قانٍ، صافٍ لن تشوبه شائبة، راية العمال والكادحين، وهي تجوب ساحات العالم وقراه ومدنه، في رحلة أمل مستدامة، سيبقى ينمو ويكبر إلى أن تسود العدالة الاجتماعية بأبهى صورها ووضوحها؛ فلمثل هذا اليوم ادّخرت الإمكانات وكانت العدة والعديد... فكما كان النداء الخالد لعمال العالم ولشعوبه المضطهدة أن يتحدوا، اليوم نقول للشعب اللبناني، بعماله ومزارعيه وموظفيه وفقرائه... بأن انتفضوا.
وهو بهذا المعنى عالمي ووجب الاحتفال به قدر ما يستحق؛ الظلم كما القهر كما الرأسمالية كما الاستبداد... هي مصطلحات لا تقف أمامها حدود أو تُحجز لها أماكن. هي بحجم البشرية وامتداداتها تنبسط على صفحة التاريخ وتتحكّم بالجغرافيا، وعملية مواجهته لن تكون إلّا بالقدر نفسه. مواجهة شاملة لفعل شامل، وأي تبسيط أو تسطيح أو تجزئة فكل ذلك سيعطي الرسالة الخطأ. هذه القضية لم تكن في يوم من الأيام فعلاً محلياً معزولاً، بالرغم من القضايا التي تختزنها على المستويين المحلي والعام، لكن وبالتحديد في قضايا الطبقة العاملة وشؤونها؛ فالذي يميزها هو ذاك النداء – الأساس إلى الاتحاد، لكسر قيد من امتلكوا السلطات جميعها بأيديهم، والذي لم يكن ولن يكون إلّا: يا عمّال العالم اتحدوا، وعليه نحن سائرون... وهذا ما ستكون عليه بيروت نهار الأحد في 9 أيار خلال مسيرتها احتفالاً بعيد العمال، والذي يتزامن مع عيد النصر على الفاشية، وفي ذلك رمزية معبّرة عن تلازم المعركتين.

* عضو المكتب السياسي، مسؤول العلاقات السياسية في الحزب الشيوعي اللبناني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا