التطوّرات في أوكرانيا أصبحت متسارعة، ولم يعد بمقدور أحد التكهّن بمآلاتها أو بالمكان الذي تدفع باتجاهه الاحتجاجات في جنوب وشرق البلاد. أبرز معالم هذه التطوّرات هو احتلال المؤسّسات والمنشآت الحكومية وطرد العناصر الموالية لسلطة كييف منها. لقد بدأ الوضع في دونيتسك وهي كبرى المقاطعات المحتجّة يشبه ما كان عليه الحال في كييف قبل إسقاط يانوكوفيتش بأيّام قليلة. تجمهرٌ أمام مبان حكومية بغرض محاصرتها، ثمّ احتلالها وإعلانها مناطق «محرّرة» من السلطة.
تتبع ذلك مباشرة مواجهات مع قوّات الأمن التي تلقّت أوامر واضحة بسحق الانتفاضة وقمع الاحتجاجات. في الحالتين سقط ضحايا من المحتجّين والقوى الأمنية، وهذا نتاج مباشر لعملية التسلّح التي جرّت إليها الاحتجاجات بفعل تعنّت السلطة وامتناعها عن تنفيذ مطالب المتظاهرين.على هذا الأساس تصرّفت قوات «بيركوت» أثناء المواجهات مع أنصار المعارضة السابقة، فنفّذت أوامر يانوكوفيتش بحذافيرها، وأطلقت النار على الاحتجاجات . وحتّى لو لم تفعل ذلك فقد مكّنت السلطة من التنصّل من التزاماتها تجاه الناس، وقدّمت الذرائع لمن يريد تحويل الاحتجاج إلى عنف مسلّح ضدّ الدولة. لا يهمّ بعد ذلك ما يقوله يانوكوفيتش، إذ إنّه لم يعد رئيساً شرعياً كما تقول روسيا وكما يزعم هو، وإذا كان متمسّكاً بروايته حول عدم إصداره أوامر للأمن بإطلاق الرصاص على المحتجّين فليعلم أنّها رواية ناقصة وأنّ الواقع قد تجاوزها منذ فترة. يقول محاججاً إنه كان يحاول حماية «الشرعية» بأقلّ كلفة ممكنة، لكن الكلفة كانت عالية جداً بخلاف ما يدّعي. هو لم يستطع أساساً توفير الحماية لعناصره حتّى يوافرها لآخرين من أبناء شعبه. دفاعه عن التسلّط وتهميش الآخرين بحجّة حماية الشرعية يشبه تماماً دفاع سلطة كييف الحالية عن نيّتها البطش بأبناء الشرق والجنوب الرافضين لهيمنتها على مقدّرات البلاد. من حسن الحظّ أنّ التعنت في الحالتين قد صبّ في مصلحة الناس، ودفع بهم دفعاً إلى الشوارع لإخراج كلّ التناقضات التي عملت الدولة هناك (بشقّيها الشيوعي والرأسمالي) على تجميدها.
والحال أنّ التناقضات تلك كانت تعتمل منذ فترة تحت غطاء الدولة، مهيّئة المجتمع لما ستأتي به الانتفاضات والمطالبات بالاستقلال والفدرلة. وبينما كانت تفعل ذلك خرج العنف مرّة واحدة إلى العلن، وبدا أنه «ممر إجباري» لا بدّ منه، أقلّه في هذه المرحلة التي تتخبّط فيها الدولة وتداري عجزها بالبطش بالأقاليم. إعلان رئيس الوزراء الحالي أنّ الدولة في حالة حرب مع «الإرهاب» يثبّت حالة التخبّط ولا ينفيها، فالسلطة باتت بالفعل عاجزة عن التفاوض مع الأقاليم التي خرجت عن سيطرتها، وتلويحها بالخيار العسكري سيزيد من إصرار الناس على التمسّك بمطالبهم، وهذا واضح من رفض المحتجّين نتائج الاتفاق الرباعي الذي عقد في جنيف أخيراً (أطراف الاتفاق هي روسيا وأوكرانيا وأميركا والاتحاد الأوروبي). فهناك، أي في دونيتسك وباقي المدن المنتفضة فقدت الحكومة المركزية تأثيرها ونزعت الشرعية عن ممثّليها في البلديات والمجالس المحلية.
لا الغرب سيصبح
صديقنا يوماً ولا روسيا ستبقى مع محتجي دونيتسك وخاركوف

حتّى مراكز الشرطة أصبحت محتلّة من جانب المحتجين وممثّليهم المحلّيين، وللتذكير فقط فإنّ هؤلاء جميعاً مسلّحون، وهذه معلومة ضرورية في سياق الأحداث، خصوصاً أنّها تأتي في ظلّ الحديث المفرط والمبالغ فيه عن «سلمية الاحتجاجات». لا يملك الناس في تلك المناطق سلاحاً ثقيلاً «ليدافعوا به عن أنفسهم» ضدّ بطش الدولة، ولذلك يتحدّثون في أدبيّاتهم المعلنة عن «قوات الدفاع الشعبي» الموسومة إعلامياً بالميليشيات. ففي مواجهة الجيش الأوكراني المدجّج بالأسلحة الثقيلة يصبح سلاح هؤلاء بمثابة أدوات للحماية، تماماً كما كانت عليه الحال في سوريا قبل دخول مضادات الدروع وصواريخ ستينغر على الخطّ . في الحالتين فرض التسلّح نفسه «كخيار الضرورة»، بعدما تخلّت الدولة عن واجباتها في حماية السكّان، كلّ السكّان وأصبحت طرفاً في الصراع. زجّ الجيش في مواجهة الشعب أو جزء منه هي الخطوة التي أجّجت الصراع هنا، وهي التي ستؤجّجه على الأراضي الأوكرانية في حال تمادي النظام في العملية العسكرية وارتكابه مزيداً من الجرائم أثناء اجتياحه لسلافيانسك. حتّى الآن سقط من الميلشيات المحلّية التي كوّنها الأهالي ثمانية قتلى في عمليتي اقتحام للجيش، وسيسقط المزيد لاحقاً إذا ما تقرّر وضع خيار التفاوض على الرفّ، والاعتماد على العملية العسكرية وحدها. يمكن القول إنّ سلطة كييف كانت تعوّل على تراجع الاحتجاجات بعد التوصّل إلى تفاهم جنيف، فهي لا تقيم اعتباراً لخيارات سكّان الأقاليم الشرقية والجنوبية، وتعتبرهم في أفضل الأحوال ملحقين بروسيا سياسيا و»ثقافياً»، ومن هنا نفهم تصعيدها الكبير ضدّهم بعدما رفضوا الإذعان للتوافق الدولي الأميركي الروسي الأوروبي الأوكراني. هذا الاحتقار لمطالب الناس لا يقتصر على حكّام أوكرانيا وحدهم، ولكنه هنا يصبح أكثر وضوحاً نظراً لحجم العصيان الحاصل في البلاد. والحال أنّه عصيان قابل للتمدّد، وتمدّده قد ينتقل إلى الخارج، ويطرق أبواب دول لا تخفي حاليّاً خشيتها منه وممّا يمثّل شعبياً. بالطبع، دول البلطيق وأوروبا الشرقية سابقاً تعتبر في طليعة هؤلاء، وإلّا لماذا تستقدم في غضون أقلّ من يومين مئات الجنود الأميركيين إلى قواعدها، بغرض «إجراء مناورات» أو ما شابه. لا تحتاج دول مثل لاتفيا وبولندا وليتوانيا وأستونيا إلى هذا الكمّ من الحشد العسكري الأميركي لولا الخوف من انتقال الاحتجاجات المدعومة من روسيا إليها، وخصوصاً أنها تعاني من مشاكل اقتصادية واجتماعية لا تقلّ أبداً عن مشاكل أوكرانيا. لنتذكّر أنّ ثمّة نزوعاً إلى الحكم الذاتي لدى مجموعات سكّانية بعينها تسكن تلك المناطق ولا تعترف كثيراً بالحدود التي أعيد ترسيمها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق. لدينا على سبيل المثال منطقة «ترانسدنيستريا» التي تحظى بحكم ذاتي، وتخوض منذ استقلالها عام 1990 نزاعاً على وضعها القانوني مع مولدوفا التي تعتبر هذه «الجمهورية» الصغيرة جزءاً من أراضيها، وهي ليست الحالة الوحيدة في المناسبة، وإن تكن الأكثر إشكالية وبروزاً من الناحية القانونية. لنتخيل كيف ستكون عليه الحال في تلك الدول لو امتدت احتجاجات شرق وجنوب أوكرانيا إلى هناك، وخرجت الأوضاع «كلّياً» عن السيطرة. هل ستسمح أوروبا ومن ورائها الولايات المتحدة بهذا التمدّد، أم ستلوّح بسحقه كما فعل السوفيات سابقاً مع انتفاضتي المجر وتشيكوسلوفاكيا السابقة في عامي 1956 و1968؟ الوضع الآن لا يشبه تلك الحقبة، إضافة إلى أنّ أداوت تعامل الدول والأجهزة السلطوية مع الاحتجاجات أصبحت أقلّ فاعلية من ذي قبل، ومع ذلك يمكن التكهّن بما سيقوم به الغرب في ما لو فشلت السلطات المحلّية التي تتبع له في إخماد الاحتجاجات. على أيّ حال، سلطة كييف تتولّى حالياً هذه المهمّة، فهي لا تتصرّف فقط كدولة معنيّة بضبط الأمن و«فرض الاستقرار»، بل أيضاً كجهاز أوليغارشي موكل بتأمين مصالح الامبرياليات الغربية التي تعتبر الاحتجاجات الحالية تهديداً مباشراً لها. هكذا نفهم زجّ الجيش في العمليات على أراضي دونيتسك، فهو يقوم هنا بمهمات القوّات الخاصة، وينفّذ عمليات تعجز عن تنفيذها ميليشيات «القطّاع الأيمن» الموالية لسلطة كييف. حتّى يانوكوفيتش الفاسد والمرتشي والعميل لموسكو لم يفعل ذلك مع احتجاجات المعارضة، واكتفى باستعمال قوّات مكافحة الشغب (بيركوت) ضدّ المحتجين، محيّداً الجيش عن المواجهة، ليس لأنه حريص على وحدة الشعب، بل لعلمه بتأثير هذا الزجّ على مستقبله السياسي.
روسيا في المقابل كانت أكثر واقعية (لا علاقة للأخلاق بما يفعله الروس هنا) بكثير من الغرب، فهي تعرف تماماً ماذا تريد، وتتصرّف على أساس أنها «أمّ الصبي». كذلك هي ليست بالضعف الذي يتصوّره البعض في ما خصّ الموقف من الغرب، فحالياً تعتبر المستفيد الأكبر من الاحتجاجات، وموقفها السياسي منها يتعزّز باطراد، مسنوداً بماكينة إعلامية محترفة في الدعاية السياسية (قناة rt بشقّيها العربي والانكليزي). لم يعد سرّاً أنّ إنشاء موسكو لقناة «روسيا اليوم» إنما كان بغرض خدمة مشروعها السياسي الذي يتوسّع حالياً، مستفيداً من الدعم الشعبي الذي يلقاه في المناطق الأوكرانية الناقمة على سلطة كييف. بهذا المعنى تشكّل قناة rt صوت الاحتجاجات التي يزدريه الغرب ويتعامل معه بأدوات من زمن آخر. من يقرأ تقارير البي بي سي عن أحداث أوكرانيا يفهم لماذا يحظى الإعلام الروسي الدعائي بثقة المنتفضين في شرق وجنوب أوكرانيا. ثمّة مفارقة في استعمال الغرب وإعلامه الدعائي حالياً لتعابير ومصطلحات سبق لروسيا أن استخدمتها أثناء تناول الاحتجاجات في سوريا. حينها قيل عن المحتجّين هنا بأنهم عصابات مسلّحة فحسب وإرهابيون وإنهم ينفّذون مؤامرة دولية، واعتبر ذلك بمثابة دعاية قذرة من النظام وحلفائه الروس والإيرانيين. ومع أنّ الغرب السياسي لم يفصح تماماً عن رأيه بالاحتجاجات في جنوب وشرق أوكرانيا (لا يتحدّث سياسيّوه إلّا عن احتجاجات كييف و«ثورتها» تماما كما يفعل بعض اليسار هنا!)، إلا أنّ إعلامه الرديء والمنحاز تماماً إلى سلطة كييف قد تكفّل بذلك، ووضعه في الخانة ذاتها مع روسيا. خانة الدول الرأسمالية التي «تتبنّى» الاحتجاجات عندما تتوافق مع مصالحها، وتقف في وجهها حين يحصل العكس. على هذا الأساس حصل الفرز التعسّفي في مواقف الطرفين من الانتفاضات، فأصبح الغرب صديقاً «للشعب السوري»، فيما غدت روسيا الناطق الرسمي باسم الاحتجاجات الشعبية الأوكرانية. والحال أنّهما ليسا كذلك تماماً، فلا الغرب سيصبح صديقنا يوماً، ولا روسيا ستبقى على طول الخطّ مع محتجي دونيتسك وخاركوف و..الخ. كلّ ما في الأمر أن الصراع الآن قد انحسر عسكرياً، وأصبح يخاض بالاحتجاجات وحركات التمرّد الشعبي. ومن ينجح أكثر في استقطاب هذه الحركات اعتماداً على مشتركات أو قواسم بعينها سيربح جولة في السباق ويكسب أرضاً جديدة. والواقع يفيدنا بأنّ روسيا متقدّمة حالياً على الغرب، ربطا بموقفها من الاحتجاجات في شرق وجنوب أوكرانيا، في حين تعاني سلطة كييف «الحليفة» لأوروبا وأميركا من تبعات وقوفها في مواجهة حركة التمرّد الشعبي التي يقودها ببسالة أبناء وأهالي مدينة سلافيانسك. لم يسقط من هؤلاء المقاتلين المدافعين عن المدينة من سقط حتّى تعود المنطقة صاغرة إلى حضن السلطة في كييف. لا يهمّ إذا كانت روسيا في صفّهم، فهم الآن من يقود الدفّة، وإذا هزمتهم القوّات الأوكرانية فسيصبح اصطفاف روسيا إلى جانبهم من دون رصيد. هم لا يعلمون أصلاً إن كانت جادّة في دعمهم عسكرياً، فحتّى الآن قتل منهم أكثر من ستّة أشخاص ولم يتدخّل أحد لنجدتهم. روسيا تفهم هذه المعادلة جيّداً، وتعرف أنها إذا تدخّلت فستحوّل الاحتجاجات إلى «طابور خامس»، وعندها ستفقد حركة التمرّد تعاطف العالم، ويذهب كلّ الجهد الذي بذلته إعلامياً عبر ذراعها المسمّى rt سدى. أظنّ أنّ الإمبرياليات التي يتحدّث عنها سلامة كيلة تعجز عن تقدير الموقف هكذا، فهي بحكم تكوينها معتادة على التصرّف بصلافة مع الآخرين. وحدها الدول الرأسمالية التي تبحث عن دور وهي تتوسّع اقتصادياً تقدر على فعل ذلك، وهذه بالضبط هي حال روسيا اليوم. ليست امبريالية كما يظنّ كيلة وأترابه، ولا تقود تحالف الجنوب ضدّ أوليغارشيات الولايات المتحدة وأوروبا واليابان كما يقول سمير أمين. حاليّاً تقف مع احتجاجات المهمّشين في أوكرانيا بعدما وقفت ضدّها في سوريا، وهذه سياسات يصعب تصنيفها، ولكنها حتماً لا تصبّ في مصلحة الشعوب، كل ّ الشعوب.
* كاتب سوري