إذا كان الأديب الشهيد غسّان كنفاني قد اعتبر أن خَلع الفلسطينيين عن قضيّتهم كان جريمة كبرى وبشعة لا تقلّ عن جريمة خلعهم عن أرضهم، فإن السياسات الصهيونيّة، ومَن دعمها وتواطأ معها من قوى دولية وإقليمية، حاولت خلع الفلسطينيين عن أنفسهم وتمزيقهم أيضاً، حتى أصبحنا أمام جيل كامل من الفلسطينيين "لا يعرف نفسه" ولم يرَ القدس المحتلة. وتقطّعت جسور التواصل بين الشعب الواحد داخل الوطن حتى صرنا أمام تجمعات فلسطينية مُهمّشة معزولة، وتعيش في جزر محاصرة في فلسطين والشتات تتعرض للإفقار والتهجير والسلب والتشرد... أكثر من مرّة وعلى أيدي قوى مُتعددة.يُمكن القول إن العناصر والأسباب والسياسات التي وَحّدت وجمعت الفلسطينيين اليوم هي ذاتها التي حاول عَدوّهم استخدامها لتجزئتهم وتفريقهم وعزلهم. وفي مقدمة تلك الأسباب حرمانهم من القدس المحتلة وسلبها بالقوة منهم بما في ذلك تهديد وتهويد آخر معالمهم الدينية والثقافية والتاريخية التي تدل على وجودهم. إن القدس تعني في الواقع تكثيفاً عن معنى كل فلسطين – الأرض والهوية والحقوق والقضيّة.
غير أن طريق التيه الذي سلكه الفلسطينيون طوال العقود الخمسة الأخيرة له عناصر ومسببات داخلية فلسطينية وعربية أيضاً، وهي غير منفصلة عن سياسات العدوّ الصهيوني والنظام العربي الرسمي، بل تكملها إن شئتم وتحقق الهدف الصهيوني ذاته، سواء بقصد أو بدونه.
بدء مشروع التسوية (التصفية) الذي قبلت به قيادة منظمة التحرير الفلسطينية منذ عام 1974 ثم تعزّز أكثر بعد عام 1982 قاد إلى طريق العبث والبحث عن أوهام دولة فلسطينية أو "كيان فلسطيني في الداخل" كان هدفه الحقيقي تأمين مصالح وامتيازات البورجوازية الكبيرة في الضفة المحتلة ورساميل ومصارف وشركات طبقة الـ 1%.
وعليه، فإن مواجهة المخطط الصهيوني – الأميركي المُعادي لا تنفصل بدورها عن مواجهة "الذّات" و"تطهيرها" وتجاوز المُعوّقات والكوابح الداخلية، وتحديداً نتائج المرحلة التي بدأت مع مؤتمر مدريد 1991 ثم أوسلو 1993 وما تبع هذا المسار الانهزامي التصفوي من كوارث كبرى لها أول وليس لها آخر. إن اتفاقيات أوسلو كانت نتيحة لما سبقها من مقدمات وليست سبباً. وإن أي تقدمٍ حقيقيّ على مسار المقاومة الفلسطينية وعبور الجسر نحو مرحلة نضالية جديدة يستوجب مساراً ثورياً بديلاً بالضرورة.

يعرف الشعب الفلسطيني أن الطليعة الثورية الفلسطينية والعربية التي وجدت نفسها بعد هزيمة وعدوان 1967 تُفجّر العمل الفدائي وتبشّر بالثورة وتؤسّس لمرحلة نضالية نوعية، تعرّضت للاغتيال والتصفية الجسدية على يد العدو، وللتهميش والعزل على يد "قيادة الثورة". فالدور الذي كان يقوم به أنيس صايغ، كمال ناصر، كمال عدوان، غسّان كنفاني، باسل الكُبيسي، وائل زعيتر، محمد بوديّا، أبو يوسف النجار، وديع حداد، محمود الهمشري، عز الدين قلق، راشد حسين، وغيرهم وغيرهم لم يكن مجرد دور لــ"أفراد" و"كفاءات وطنية" وحسب، بل كان أيضاً دوراً حاسماً مُقرراً يرسم معالم الطريق والثورة نحو الهدف.
العجوز الصهيونية غولدا مائير رئيسة وزراء حكومة العدو هي التي فهمت أن على "إسرائيل" التخلّص من هؤلاء أولاً ومن "الرؤوس الحامية" وتصفية الأجهزة والمؤسّسات والبرامج التي يقفون عليها. هذه السياسة الصهيونية سيقابلها مسار داخلي فلسطيني مواز ومكمل كان هدفه السيطرة والهيمنة على المؤسسات الفلسطينية والقرار السياسي في "المنظمة" على يد "مجموعة" أطلقت على نفسها "العرفاتيون" نسبة إلى ياسر عرفات. وهؤلاء ارتكبوا جريمة كبرى حين أعدموا الحوار الداخلي الفلسطيني واغتالوا أبسط قواعد الديموقراطية والعمل الجماعي في المؤسسة الفلسطينية وأسّسوا لإدارات فاسدة ورفعوا الزعيم إلى ما فوق النقد وإلى مرتبة الأنبياء.

هكذا وصلنا إلى جدران العبث والعدم، وإلى أوسلو أيضاً.

لقد نَجَح العدو الصهيوني، ومعه الفلسطيني والعربي السلطوي الجبان، المدعوم من النفط، نجح هؤلاء عبر سياسة التهميش والإقصاء (الدور المُكمِّل للاغتيالات والتصفية الجسدية التي قام بها العدو بين عامَي 1971 – 1975) في دفع المشروع التحرري الفلسطيني إلى مجاهيل وزواريب ومسالك التسوية. لا غرابة إذاً أن يبدأ "الزعيم الجديد" للشعب الفلسطيني في البحث عن دولته المستقلة من داخل أروقة الأمم المتحدة وأحضان الجامعة العربية، وخاصة الأنظمة النفطية التي وجدت في نهج ياسر عرفات خيارها المفضل ــــ أو "أقلّ خطراً من جورج حبش وجماعته" كما قال يوماً أحد وزراء النفط العرب. كما لا غرابة أيضاً أن يبدأ التساوق الفلسطيني الرسمي مع مشروع "البرنامج المرحلي" وما عُرف بــ"النقاط العشر" وغيرهما من مبادرات دفعت الشعب الفلسطيني إلى طريق التجزئة والخراب والتيه.

لماذا كانت كل انتفاضات الفلسطينيين سواء قبل أو بعد عام 1967 وهي كثيرة وليست انتفاضتين كما هو شائع، لماذا كانت تصل في نهاية الأمر إلى نهاية واحدة: حصار أكثر وأرض أقل!؟
وكيف يمكن اليوم تعلّم الدرس التاريخي من انتفاضات الشعب الفلسطيني وثوراته وانتفاضاته المتعاقبة؟ وحماية هذا الإنجاز الكبير الذي صنعه الشعب الفلسطيني بذراعيه في عام 2021 حين استعاد وحدته الشعبية وكسر حواجز العزل النفسي وأعاد الاعتبار لوحدة حقوقه وأرضه ومصيره الواحد؟
الجواب: التخلص من نهج القيادة المتنفّذة في منظمة التحرير وبرامج السلطة الفلسطينية على طريق إسقاطها وتجاوز مرحلة مدريد – أوسلو، واختيار قيادة وطنية موحدة في الوطن والشتات، قيادة ثورية وموثوقة ومجرّبة من الشعب، تقود المرحلة النضالية القادمة في الميدان، ويكون جلّها من قوى المقاومة والقوى الشبابية والحركات الشعبية، تكون قادرة على فهم واقع الشعب، وتعتبر تعزيز صموده ودعم الطبقات الشعبية هما الأولوية الوطنية الرقم واحد. قيادة وطنية قادرة على استيعاب وفهم مشكلات العصر وأسلحته الجديدة.

إن عناصر القوة الفلسطينية كثيرة ولا حصر لها، وخاصة إذا تجمّعت معاً في سياق ثوري ومشروع تحرري جديد، أطلقت الطاقات الكبرى الهائلة والكامنة لدى هذا الشعب المناضل والمجرب وصاحب التجربة الكفاحية التاريخية الطويلة. وعلى هذه العناصر (التعددية واحد منها) مجتمعة أن تقوم بدور تكميلي وتبادلي فتعزز قوة الكل وتنصهر في مجرى واحد، كجداول المياه التي تصب في النهر الواحد.
الانتفاضة الشعبية الباسلة المُتصاعدة ظاهرة شعبية نقدية لكل الواقع العربي الرسمي. وإنها بقدر ما تشكل دليلاً على فشل سياسات الكيان الصهيوني في قهر وتدجين وعزل الفلسطينيين، فإنها في الوقت ذاته بيان ثوري على فشل سياسات فلسطينية وطبقة عميلة للاحتلال والأنظمة الرجعية أخذت الشعب كله في طريق التيه والحصار عقوداً من الزمن والعذاب ولا تزال في موقعها.
سيكون من الصعب مواجهة العدو الصهيوني والإمبريالية والرجعية العربية دون أن نتعلّم الدرس التاريخي ويستعيد الشعب الفلسطيني قراره السياسي أولاً، فيكون هو القائد الحقيقي ويحرّر مؤسساته الوطنية ويعيد بناء مداميك الانتفاضة والثورة الفلسطينية ومشروعها السياسي الجامع: التحرير والعودة.

*كاتب فلسطيني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا