تظهر أزمة العروبيين في مصر كجزء من أزمة النخبة السياسية العلمانية التي سلَّمت بـ«قدرية المؤسسة العسكرية»، وتالياً بالتحالف مع قوى النظام القديم وأجهزته الأساسية (العسكر والقضاء وحتى الداخلية) مكايدةً لتيار الإسلام السياسي، وتحديداً لجماعة الإخوان المسلمين، ورغبة في البقاء ضمن المعادلة السياسية القائمة، وإن مثَّلت انقلاباً على كل قيم ثورة 25 يناير.
لكن أزمة معظم القوى والشخصيات المنتمية إلى التيار القومي العربي في مصر لا تقتصر على هذا الانحياز الفاضح للانقلاب العسكري، بل تتجاوزه إلى أزمة خطاب ناتجة من تعاطي هذه القوى والشخصيات مع إرهاصات هذا الانقلاب ونتائجه، بما يتناقض مع الأسس الرئيسية والمبادئ التي عبر عنها الخطاب العروبي في مصر في أوقات سابقة.
لم يخفِ الانقلاب العسكري في مصر وجهه «المباركي» منذ اللحظات الأولى، في كل الملفات الداخلية والخارجية، فقد كان الإعلام المصري المملوك لرجال أعمالٍ هم جزء من المنظومة القديمة معبّراً بوضوح عن الخطاب الذي يتبناه من قاموا بالانقلاب، ولم يبذل أهل الانقلاب جهداً كبيراً في إخراج انقلابهم بصورة أكثر زخرفة، بل كانت الفجاجة والمباشرة (بل والغباء السياسي) في القمع سيدة الموقف، وكانت مفردات الخطاب المباركي داخلياً وخارجياً أوضح من احتمالات التأويل، ما يجعل إدانة موقف العروبيين المصريين وتوضيح تناقضاتهم سهلاً.
منذ الأيام الأولى للانقلاب الذي أطلق الثورة المضادة في مصر تحت شعار «30 يونيو» بدأت حملة مسعورة على العرب في الإعلام المصري استخدمت كل مفردات الشوفينية المصرية الموروثة من عهد أنور السادات، وتحديداً ضد السوريين اللاجئين في مصر، وضد الفلسطينيين في قطاع غزة. وتم ترويج مجموعة من الاتهامات المثيرة للسخرية لهؤلاء، مثل أن أهل غزة سرقوا غاز مصر كله بالتعاون مع الإخوان، وهذه نوعية من الاتهامات لا تعكس فقط التفكير القُطري، بل تؤكد حالة انعزالية ورفضاً لخطاب عروبي يتحدث عن مصالح العرب بترديد خطاب انعزالي يُعنى بمصالح المصريين وحدهم، من دون الالتفات إلى العمق العربي.
لقد كانت معظم القوى والشخصيات العروبية في مصر إما صامتة عن هذه النبرة الشوفينية وإما موافقة عليها، بل إن بعض رموز القوميين العرب في مصر خرج على الشاشات يتحدث عن الفلسطينيين والسوريين باللغة العنصرية نفسها. ما زاد الطين بلة هو خنق غزة بالحصار وإغلاق معبر رفح، وسط صمت هؤلاء، وتصنيف حركة المقاومة حماس كحركة إرهابية من القضاء المصري الذي يركع هؤلاء العروبيون احتراماً له، وهو الذي يحاكم الرئيس المعزول محمد مرسي بتهمة التعاون مع حركات المقاومة (حماس وحزب الله)، وهي تهمة اسرائيلية بامتياز.
كان العروبيون المصريون في طليعة الرافضين لحصار غزة في فترة حكم مبارك، والمساندين للمقاومة الفلسطينية ممثلة بحماس والجهاد، واليوم هم في طليعة المروجين لإشاعات من قبيل مساهمة حماس في قتل أشخاص داخل مصر بالتعاون مع الإخوان المسلمين، ليصبوا جهودهم في إطار شيطنة المقاومة (مع زعمهم أنهم مع المقاومة وأن حماس ليست كل المقاومة، مع أن نظام السيسي يحاصر كل من في غزة ولم يدعم مقاومة بديلة لحماس لنقبل هذا الزعم)، مؤيدين نظاماً ينتهج سياسات مبارك في حصار غزة وتجويعها وقصف الأنفاق لتشديد الخناق على المقاومة تحقيقاً للمصالح الاسرائيلية.
تجسد «الخطاب العروبي» عند عروبيي مصر بمثل ما تجسد عند انعزالييها وساداتييها، أي من خلال الترحيب بالدور العربي الكبير الذي قامت به الرجعية العربية في مساندة الانقلاب العسكري، وبدا منظر عروبيي مصر وهم يشكرون الرجعية العربية ويتملقونها دلالة مهمة على مدى الانحدار الذي وصل له خطابهم، ومدى التناقض مع إرثهم التاريخي وأدبياتهم.
وإذا كان التناقض بين أدبيات القومية العربية وسلوك العروبيين المصريين واضحاً في القضايا القومية المتعلقة بالنظرة إلى العرب ودعم المقاومة، فإن التناقض بين خطاب المطالبة بالتغيير الديمقراطي الذي تبنته هذه القوى في فترة حكم مبارك وبعد ثورة يناير، وخطابها الداعم للانقلاب العسكري وتأليه الحاكم الفرد ممثلاً بالسيسي والمشاركة في صناعة الطاغية بكل حماسة، أكثر وضوحاً في كل المحطات التي تلت 30 يونيو، وصولاً إلى سباق الانتخابات الرئاسية الهزلي.
حمدين صباحي هو مثال جيد على هذا النوع من التناقض، فهو اختار الوقوف إلى جانب الانقلاب منذ البداية، مروراً بمحطات أساسية مثل القمع عبر التفويض الشعبي، وقتل الناس في رابعة العدوية، وقمع الإخوان وسجن قياداتهم والقيادات الإسلامية المرتبطة بهم، وصولاً إلى الالتفات لمجموعات الشباب الثوري واعتقالهم، وفرض قوانين تحد من الحريات وتمنع التظاهر.
في كل هذا لم يجد حمدين صباحي مشكلة، فقد صفق لاعتقال الإسلاميين وفض اعتصام رابعة، ولم تجعله الاعتقالات بحق الشباب الثوري وكل الممارسات السلطوية اللاحقة يخرج عن حالة الانتقاد الناعم والاستنكار الخجول، لكنه حين تنبه إلى إمكان ترشح السيسي للرئاسة بدأ ينتفض، واعتبر أن ترشح السيسي سيحوِّل «ثورة يونيو» إلى انقلاب عسكري.
كان صباحي مناضلاً يطالب بالديمقراطية في عهد مبارك، لكنه تحوّل بعد الانتخابات الرئاسية الأولى بعد الثورة إلى مهووس بكرسي الرئاسة وفكرة الزعامة، يطالب بأن يكون رئيساً بأي ثمن، وليس مهماً أن يكون هذا عبر إلغاء التعددية السياسية وإمكان إقامة ديمقراطية حقيقية، وليس مهماً أيضاً أن يلعب دور الكومبارس في المشهد السياسي، فيكون رئيساً بلا صلاحيات في ظل هيمنة العسكر، فالمهم هو أن يكون رئيساً.
حلم الرئاسة جعله يتراجع عن تصريحه برفض ترشح السيسي، فقبل بترشحه لاحقاً مقابله، وسلم بدور «المزهرية» التي تُجمِّل مسرحية الانتخابات، وهو يعلم أنه سيخسر. يعتقد حمدين أن دخوله الانتخابات وحصوله على نسبة من الأصوات يجعل له وزناً باقياً على المستوى الشعبي وفي المعادلة السياسية. إذ إنه لم يعمل على تكوين قاعدة شعبية عبر العمل من أسفل إلى أعلى والدخول في قلب المجتمع عبر إقامة مناشط لتياره وسط الأحياء وداخل المدن والأرياف واجتذاب الناس عبر مخاطبتهم بشكل مباشر. فهو يعتقد أن مجرد الترشح للانتخابات والوجود ضمن العملية السياسية يجعل له وزناً شعبياً، وهو في هذا مخطئ تماماً.
ليس لدى صباحي موقف حاد وحاسم في برنامجه الانتخابي بخصوص إلغاء اتفاقية كامب ديفيد، وهي أحد أهم عوائق قيام مصر بدورها القومي، يضاف هذا إلى تفريطه بقيم ثورة يناير عبر تأييده لنظامٍ يناقض كل المبادئ الديمقراطية. إن هذا يجعل نقده وغيره من العروبيين السائرين على النهج نفسه والمؤيدين لنظام السيسي ضرورياً، بالنسبة لحالة عروبية تؤمن بالتحول الديمقراطي وترفض تحويل التنافس السياسي مع الإسلاميين داخل نظام ديمقراطي إلى صراع هوياتي إقصائي الطابع يبرر الوقوف مع القمع وإعادة إنتاج الاستبداد.
تلاقي العروبيين المصريين مع خصومهم السابقين من الانعزاليين والساداتيين تحت مظلة نظام السيسي جعل خطابهم واحداً تقريباً وقلص الفروقات بينهم إلى حد كبير، وجعل نقدهم على خلفية موقفهم من القضايا القومية ومن مسألة التحول الديمقراطي ضرورياً، إذ إنهم أصبحوا في خندق واحد مع الانعزاليين، يتمسحون بصورة عبدالناصر ويرددون خطاب السادات.
* كاتب سعودي