تعرفت إلى الأستاذ حمدين صباحي في مؤتمر «حركة الكرامة» في القاهرة عام 2007 بتسهيل من الصديق الاستاذ نجاح واكيم رئيس «حركة الشعب». منذ اللقاء الأول ذاك بدا حمدين صباحي صاحب كاريزما محببة تغذيها وتكرسها ملكة خطابية لا جدل في قوة تأثيرها.
لم يقرأ حمدين، وهو الذي يشغل الموقع الاول في الحركة انذاك، كلمة أو تقريراً مكتوبين كما جرت العادة (وكما يفترض ويستحسن)، بل ألقى خطاباً متماسكاً جمع فيه ما بين عمق المحتوى وجمالية العبارات والقفلات، بطريقة اثارت حماسة اعضاء المؤتمر واعجاب الضيوف على حد سواء. بعد ذلك التقيت الاستاذ حمدين مراراً في القاهرة، طبعاً، وفي بيروت حين زارها مرشحاً للانتخابات الرئاسية، إذ نظّمت «حركة الشعب» لهذا الغرض، لقاء تضامن ودعم وتعريف في نقابة الصحافة اللبنانية. في بيروت أيضاً، كان صباحي واضحاً ومقنعاً ومؤثراً. كان، كما في المرات السابقة، يجمع ايضاً، ما بين عمق المعاني وجزالة الالفاظ وتراصف العبارات ومضيها، معاً، الى قفلاتها السعيدة!
يسترجع حمدين، بشكل واع وعفوي معاً، اكثر ايجابيات التجربة الناصرية تجذراً في التاريخ والذاكرة العربيين المعاصرين. لا يتردد ورفاقه في تأكيد وتكرار الاعتراف بأخطاء وسلبيات تلك التجربة. يؤكدون على اندراجها في موقع الدفاع عن الفقراء والمهمشين، وضمن اولوية النهوض باقتصاد مصر وتحريره من التبعية، واستنهاض التوحد القومي ضد الهيمنة الاستعمارية والعدوانية والصهيونية...
منذ دوره القيادي في الجامعة، إلى النيابة والسجن والملاحقة والمساهمة في تأسيس «حركة الكرامة»، الى خوض المعارك السياسية والانتخابية وآخرها معركة رئاسة الجمهورية عام 2012، كانت مسيرة حمدين تتكامل وبرنامجه يتوسع ويتعمق ويتعقلن، حتى بات بالفعل، عنواناً بارزاً من بدايات تجديد وتطوير الفكر القومي واليساري والديمقراطي العربي. هو ورفاقه في الواقع، وبشكل مثابر وواع، يحاولون اشتقاق تيار جديد يشكل امتداداً للتجارب اليسارية والقومية والتقدمية السابقة. يقترن ذلك بالتزام وممارسة الديمقراطية، وبالقيام بالمبادرات واستحداث الصيغ السياسية والتنظيمية الآنية الضرورية والمناسبة (تأسيس «التيار الشعبي»، المساهمة في قيام حركة «كفاية». المشاركة في «جبهة الإنقاذ» مع الدكتور محمد البرادعي وعمرو موسى وآخرين)...
ينبغي ملاحظة ان حمدين ورفاقه قد اظهروا قدرة لافتة في التعامل مع ما تطلبته، خصوصاً، مسألة الترشح لرئاسة الجمهورية. كان على حمدين وفريقه الذهاب الى ابعد مدى ممكن في رحلة البحث عن الاجوبة الأنسب لمشكلات وواقع شديدي التعقيد في «أرض الكنانة». برزت في مجرى ذلك افكار وتوجهات تؤكد دور مصر الضائع منذ انحراف أنور السادات، والذي ينبغي اعادة صياغته، رائداً ينسجم مع ثقل مصر وتاريخها وقدراتها، ومتكاملاً في نطاق تعاون عربي فعّال يضع إمكانات مصر في خدمة امن جيرانها الذين يبحثون عن حمايات مكلفة على حساب ثروتهم وسيادتهم (تكامل الأمن والتنمية). صاغ حمدين وفريقه مواقف دقيقة وحساسة من مسائل متفجرة اخرى من نوع الازمة السورية والعلاقات مع إيران ودول من الخليج وتركيا والولايات المتحدة والغرب... وفي كل ذلك كان الهاجس المصلحة المصرية والعربية على يقظة واتزان والتزام.
في بلاد لا تعاني ما يعانيه لبنان (مثلاً) من استخدام مفرط للطائفية والمذهبية، وفّرت فرصة الترشح لصباحي حوافز شخصية وسياسية وحزبية كثيرة. أسّس ذلك، حتى الآن، لعملية دينامية ومتنامية (وإن لم تكن حاسمة ومنتصرة بعد) ترمي الى ردم الهوة والفراغ اللذين نجما عن غياب قوى التغيير التقليدية عن ساحة المبادرة الفعل. كلف هذا الغياب الشعب المصري الكثير: مصادرة الاخوان لثورة 25 يناير. وقوع ثورة 30 يونيو تحت رحمة الجيش ومخاطر امساكه بالسلطة التي بدأت بعض بوادرها المقلقة بمشاريع الإعدامات بالجملة!
تشكل حركة صباحي وفريقه ورفاقه الجزء الأبرز الآن، من نهوض يساري وتقدمي ومصري يذكر بمرحلة اواسط الاربعينيات من القرن الماضي. يومها توحدت الحركة التقدمية مع الحركتين النقابية والطلابية، واستطاعت جميعاً (حفّزتها ايضاً انتصارات الاتحاد السوفياتي في الحرب الكونية الثانية) ان تدخل في منافسات منتصرة على حزبي «الوفد» و«الاخوان». ويذكّر بمرحلة اواخر الستينيات بعد «النكسة» وفي مواجهة سياسات السادات (خصوصاً في انتفاضة الخبر في 18 و19 كانون الثاني 1976). طبعاً، نحن الآن أمام احتمالات أكثر تفاؤلاً بسبب ما ذكرناه من استيعاب لبعض دروس الماضي، ومن نشوء لتنظيمات جديدة («الحزب الاشتراكي» و«الجبهة الشعبية الاشتراكية»...) تضم مناضلين ذوي خبرة وتصميم وبرامج جذرية وعقلانية ما يَعِدُ بتوقعات ونتائج افضل .كذلك ينبغي النظر بتقدير كبير الى شباب مصر الذين بادروا وتحركوا وصنعوا فرصة تغيير كبير، هي امتداد لما ذكرنا من مراحل الكفاح من اجل الحرية والتقدم لشعب مصر (شكل ثنائي أحمد فؤاد نجم والشيخ امام احد أهم جسور التواصل ما بين تحركات اواخر الستينيات واوائل السبعينيات، وفق ما شهدت به وشهدته الجامعات والسجون والساحات والميادين...).
في مؤتمر «حركة الكرامة» الذي اشرت اليه تحدثت عن تجربة الحزب الشيوعي اللبناني في اعادة تقويم الموقف من القضايا القومية، ومن الحركات القومية، ومنها الناصرية، بما شكل يومهاً جزءاً من اعادة صياغة صحيحة وثورية لموقف الشيوعيين من التجارب التحررية المختلفة، وبما كسر معادلتي تقديس او شيطة الماضي أو الآخر لاسباب فئوية أو ذاتية أو مفروضة من الخارج (تجتهد القيادة الحالية للحزب الشيوعي في التنكر لانجازات الحزب في تلك المرحلة وما بعدها: في الفكر والسياسية والعلاقات والتنظيم...). رحّب الحاضرون كثيراً بذلك.
في مقدمة مقابلة اجراها الصحافيان ألان غريش ومصطفى بسيوني («الأخبار»، 17 ايار 2013) ذكرا أن حمدين صباحي مثل «فرصة مهدورة في انتخابات الرئاسة المصرية عام 2012، فاحتلاله المركز الثالث فيها كشف انه كان الخيار الافضل لـ«اصوات الكراهية» التي ذهبت الى محمد مرسي» منعاً لعودة الفلول.
اليوم يواجه حمدين وضعاً اصعب. تدور اللعبة في ملعب الامن ووعود الدعم الخارجي وتهديدات الارهاب. يستحوذ المشير عبد الفتاح السيسي على تأييد اكثره ناجم عن الوهم بالانجاز الخارق!
سيكون انتخاب السيسي مغامرة غير محسوبة من شأنها تقليص الديمقراطية وزيادة الاضطرابات وتجدد الحاجة الى دور شعبي ثوري جديد! يومها، ربما، ستكون الفرصة «الطبيعية» لحمدين صباحي ورفاقه وكل تقدميي مصر من اجل قول الكلمة المطلوبة والمسموعة من الشعب المصري!
* كاتب وسياسي لبناني