ما هي الخُدَع التي يعتمدها نظام الزعماء في لبنان من أجل الهروب من تحمّل المسؤولية وبغية إبقاء اللبنانيين في حالة انقسام دائم كي يتمكن من تفكيك تضامنهم الاجتماعي والاستفراد بهم؟ ولا شك أنّ نظام الزعماء، تمرّس خلال العقود الماضية في تطوير هذه الخدع وبثّها، عبر وسائل الإعلام وتردادها من قبل مجموعة من «المثقفين»، بحيث باتت تشكل اليوم إلى حدّ كبير الخطاب السياسي المهيمن الذي يُبقي اللبنانيين أسرى سلطة الزعيم. لذلك كان لا بد من استعراض أبرز هذه الخدع المضلّة والتنبيه منها نظراً إلى خطورتها، ولا سيما في ظل الانهيار الشامل الذي يعيشه المجتمع:• الانتقال من التحليل الداخلي إلى مناقشة السياسة الإقليمية والدولية: يعمد نظام الزعماء دائماً إلى حرف النقاش من المستوى الداخلي والهروب نحو تحليل العلاقات الدولية وصراع المحاور الإقليمية، بحيث يتنصّل من مسؤوليته المباشرة عن الانهيار عبر لوم القوى الخارجية. ولا شك أن هذا التكتيك له فوائد جمّة إذ يسمح للزعيم بتعزيز شرعيته عبر لعب دور البطل الذي يتصدى للمؤامرة الخارجية التي لا تنتهي، ومواجهة الحصار السياسي والاقتصادي الذي يتعرض له لبنان. فبغضّ النظر عن وجود هذه المؤامرة والدور المشبوه للدول الكبرى التي تسعى دائماً لخدمة مصالحها، لا يمكن لنا تفسير استشراء الفساد والزبائنية وانحلال مؤسسات الدولة من خلال الركون فقط إلى التحليلات الطنّانة التي تصدر عن جهابذة العلاقات الدولية التي يمكن من خلالها تبرير الشيء ونقيضه. وما يزيد من تهافت هذه الخدعة اليقين بأن نظام الزعماء هو الذي يستجدي تدخّل الخارج وينتظر التسويات الدولية والإقليمية من أجل ترتيب أموره الداخلية. فالمؤامرة الخارجية إن وجدت لا تُكتب لها فرص النجاح إلا في نظام لا دولة فعلية فيه، بحيث يسهل تدخل الدول الأجنبية التي تجد في الزعماء أفضل أداة لتنفيذ مشروعها. المؤامرة أقوى بكثير لأن نظام الزعماء دمّر الدولة.
• خدعة جعل أزمة لبنان مجرد مشكلة تقنية: يشيع نظام الزعماء أن النصوص القانونية في لبنان تحتاج إلى إصلاح وتعديل أو تبنّي تشريعات جديدة عصرية تمنع الفساد وتعزز الرقابة والشفافية والحوكمة ومن هذه التعابير التي تستهلكها منظمات المجتمع المدني. وهكذا يتم الهروب من السياسة إلى التقنيات والاعتبارات الجزئية التي تمنع مقاربة الشأن السياسي بوصفه مجموعة من القرارات التي يتحمّل مسؤوليتها من هو في سدة السلطة. ومن تفرعات هذه الخدعة أوهام الخبراء والتكنوقراط الذين يجب أن يتولوا حقائب وزارية كي يتمكنوا من اكتشاف المرض وتطبيق العلاج المناسب. تؤدي هذه الخدعة إلى تحويل السياسة إلى علم يشبه العلوم الطبيعية إذ ينبغي فقط اكتشاف القواعد الرياضية والحسابية من أجل الوصول إلى الحل المنشود. والهدف الحقيقي لهذا التكتيك هو منع المواطنين من إدراك أن السياسة هي في ماهيتها صراع مصالح ما يحتّم اتخاذ قرارات لا يمكن اكتشافها عبر تطبيق مبادئ رياضية مجردة. وبالتالي الانهيار هو نتيجة قرارات سياسية ونهج مقصود تتحمّل مسؤوليتهما مجموعة محدّدة من الأشخاص. وتتجلى أيضاً هذه الخدعة في عدم التمييز بين الفساد البيروقراطي والفساد السياسي. فالفساد البيروقراطي هو استغلال الموظفين لثغرات النظام القانوني لتحقيق مصالحهم الشخصية، وهذا النوع من الفساد هو تقني بطبيعته ويمكن معالجته عبر تعديل التشريعات النافذة وتطبيق خطط إصلاحية محدّدة. أما الفساد السياسي فهو عندما تتحول القوانين والنظام السياسي برمّته إلى ذريعة من أجل تكريس مصالح الزعماء المالية والسياسية بغية تعزيز نفوذهم. فمجرد التصويت على قانون لا يعني أن المصالح الذي يكرسها هذا القانون هي مشروعة أو بعيدة عن الفساد. فكم من قانون أو مرسوم أقرّه مجلس النواب أو مجلس الوزراء وهو يكرس في الحقيقة التحاصص بين الزعماء دون أي اعتبار للمصلحة العامة أو حاجات المجتمع الفعلية. الأزمة في لبنان هي سياسية بامتياز تحتاج إلى سلطة قادرة على تحديد الأولويات واتخاذ قرارات سياسية تدافع عن مصالح المجتمع ضد مصالح تحالف الزعماء والمصارف.
• خدعة الطائفية هي المشكلة: من الخدع الفعّالة جداً هي اعتبار الطائفية السياسية سبب كل بلاء يعيشه لبنان. ولا شك أن هذا الاعتقاد قديم جداً في لبنان، إذ هو وُجد قبل قيام نظام الزعماء بعد انتهاء الحرب الأهلية. وتقوم هذه الخدعة على تحويل كل انتقاد يوجه إلى الزعيم إلى انتقاد للطائفية السياسية، ما يؤدي إلى منح الزعيم شرعية طائفية وتنقل المشكلة إلى الشعب اللبناني «الطائفي والمتخلّف» الذي أنتج هذه الطبقة السياسية. وتتعزز هذه الخدعة عبر تبني الزعماء لمقولة ضرورة إلغاء الطائفية، ما يعني أنهم يقرون بأن سبب المشكلة هو الطائفية وهم مجرد نتيجة طبيعية لهذه الأخيرة. لكنّ الطائفية السياسية هي فقط مجموعة من التدابير الدستورية والقانونية لتأمين مشاركة الطوائف في مؤسسات الدولة وهي لا تعني إطلاقاً الفساد والزبائنية والارتهان للخارج واستعمال وسائل الترهيب لإخضاع الخصوم. فالطائفية السياسية، بغضّ النظر عن مساوئها وحسناتها، هي نظام دستوري يعمل وفقاً لمبادئ دولة القانون، بينما نظام الزعماء هو نقيض الدولة إذ لا وجود له إلا عبر تحويل مؤسسات الدولة إلى مواقع نفوذ لشراء ولاء الأفراد وتوزيع المغانم عبر استغلال حاجة اللبنانيين والاستثمار في خوفهم. فالأولولية اليوم ليست إلغاء الطائفية السياسية بل إلغاء هيمنة الزعماء على لبنان.
• خدعة تقاذف التهم: من الأساليب الخبيثة التي طوّرها نظام الزعماء تقاذف التهم بين أركانه، ما يجعل المواطنين أسرى منطق الزعيم ويؤدي عملياً إلى تفلت هؤلاء من أي مسؤولية عبر لوم كل زعيم للزعيم الآخر. ويقوم هذا التكتيك على خلق حالة من الانقسام الدائم بين اللبنانيين، ما ينقل النقاش من حقيقة الانهيار الاقتصادي وفساد النظام برمّته إلى جدالات ثنائية لا علاقة لها بمصالح المجتمع ككل. وهكذا يفرض الزعماء جدول أعمالهم عبر تحريض اللبنانيين بعضهم على بعض بينما هم في الحقيقة يقومون بتقاسم الأدوار إذ إن حالة العداء بين المواطنين هي سبيلهم الوحيد للبقاء وللحفاظ على نفوذهم. ومن متغيّرات هذه الخدعة لوم حزب واحد وتحميله مسؤولية كل المشاكل التي تعيشها البلاد، وهو تكتيك يستفيد منه نظام الزعماء ككل إذ إن الحزب المتهم يظهر بالنسبة إلى مؤيديه كضحية مؤامرة، بينما يتمكن سائر الزعماء من تفادي كل محاسبة جدية بانتظار عقد تسوية سلطوية بين كل أركان نظام الزعماء تؤدي مجدداً إلى تكريس سيطرتهم على الدولة.
هذه كانت بعض الأساليب التضليلية التي يفتعلها نظام الزعماء بهدف تفتيت التضامن الاجتماعي بين المواطنين وضرب أي إمكانية لتوحدهم حول حقوقهم. وما يفاقم من خطورة هذه الخدع هو أنها تقود في نهاية المطاف إلى التحريض على العنف وانحلال كل مقوّمات الدولة. وهكذا يظهر لنا جلياً أن الدولة والمجتمع هما من ضحايا نظام الزعماء وخدعه التي ستشتد فتكاً كلما تعرّضت مصالح الزعماء للخطر.
* أستاذ جامعي