يعاني لبنان من أزمة متعددة الأبعاد على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية كافّة. فأزمة نظام الطائف وصلت إلى مداها، مع فشل السلطات التنفيذية والتشريعية وشللها، وازدياد مخاطر التشظي الوطني ومخاطر التدخلات الخارجية، السياسية منها والعدوانية، فضلاً عن مخاطر تفشّي جائحة الكورونا التي لم تكتمل فصولها بعد. ويبرز، على الصعيد الاقتصادي، تفاقم الأزمة النقدية والمالية كجزء من أزمة اقتصادية أشدّ عمقاً وشمولاً، وأبرز عواملها: طغيان الأنشطة الريعية والقطاعات المتدنية الإنتاجية غير القادرة على خلق الوظائف، وانهيار البنى التحتية ووظائف الدولة الأساسية، وغياب التقدم التكنولوجي والابتكار، والتفاوت الكبير في توزّع الدخل والثروة وتراجع العوائد الناتجة عن العمل بالتزامن مع ارتفاع متواصل في كلفة المعيشة. وقد أنتجت هذه العوامل على الصعيد الاجتماعي بطالة وهجرة وتهميشاً خصوصاً بين الشباب، وأضعفت بنسبة كبيرة القدرة الشرائية للعمال والأجراء والموظفين ولمروحة واسعة من الفئات الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة التي فرض عليها أن تتحمل بشكل غير متساوٍ ـــ مقارنة بالطبقات الغنية ـــ الأعباء الضريبية وتكاليف خدمة الدين العام ونفقات الصحة، والتعليم، والنقل، والسكن. وفي إطار هذه المرحلة الانتقالية، يطرح الحزب الشيوعي اللبناني برنامجاً سياسياً ـــ اقتصادياً ـــ اجتماعياً أمام اللبنانيين وأمام القوى الديمقراطية التي أعلنت منذ اكتوبر 2019 أن مرحلة جديدة من العمل السياسي قد انطلقت من أجل التغيير الحقيقي. وبالطبع لا ينطوي هذا البرنامج على مطالب موجّهة إلى السلطة القائمة، بل هو يرمي إلى تحقيق تغيير عميق يُنهي استثمار المنظومة الحاكمة للانقسامات الطائفية وما تنتجه من شلل دستوري، ويؤسس لبناء دولة ديمقراطية علمانية واقتصاد يلبي تطلّعات الشباب والمتعلمين والنساء والطبقة العاملة والفئات المتوسطة نحو التقدّم والحداثة والعدالة الاجتماعية، بدلاً من اقتصاد تسيطر عليه الاحتكارات والمصارف والرساميل الكبرى المستظلّة بنظام سياسي مذهبي تحاصصي متخلّف ورجعي لا يليق بلبنان القرن الحادي والعشرين.

سمات المرحلة الراهنة
أولاً، هي مرحلة تصاعد الطروحات الكيانية والدستورية من جانب قوى سياسية وروحية بدأت تطرح ـــ وسط استفحال الأزمة التي تتحمّل تلك القوى مسؤوليتها تاريخياً ـــ مسائل جوهرية خلافية أمام الرأي العام، وعلى رأسها قضايا الحياد والتدويل والمثالثة واللامركزية الموسّعة والفدرلة، ما يهدد الوحدة الوطنية والسلم الأهلي، خصوصاً في زمن مشاريع التفتيت الجاري تنفيذها في المنطقة.
ثانياً، هي مرحلة ركود اقتصادي طويل الأمد مترافق مع تراجع الاستثمار العام والخاص وانهيار مصرفي ومالي ونقدي، إضافة إلى ترسّخ التضخم وانهيار سعر صرف الليرة اللبنانية والتراجع القياسي في الاحتياطات الخارجية، ما سوف يفرض في القريب العاجل وقف دعم المواد الأساسية. ومع تداعيات جائحة كورونا تصبح الأزمة مرشّحة للتحوّل إلى أزمة عامة، من عناوينها مضاعفة إفقار اللبنانيين والبطالة والتهميش وتهجير الشباب وخفض مداخيل الطبقة العاملة والفئات المتوسطة وتعميق اللامساواة، بالتزامن مع تفكّك مؤسسات الرعاية الاجتماعية وتدهور الخدمات العامة من كهرباء وماء ونقل عام وطرق واتصالات وغيرها.
ثالثاً، هي مرحلة العجز الصريح والمطلق للمنظومة الحاكمة عن إيجاد حلول ناجعة لأزمة بنيوية تعصف بالاقتصاد ككل، وبخاصّة في القطاعين المصرفي والمالي. فالمصارف في حالة إفلاس غير معلن، وهي تتحمّل مع مصرف لبنان المسؤولية المباشرة عن تبديد ودائع اللبنانيين ومدّخراتهم. ومع ذلك، فقد تُرك لها المجال كي تفرض على الحكومة المستقيلة، بالتحالف مع القوى العميقة المسيطرة على المجلس النيابي، التراجع حتى عن تنفيذ «خطة الإنقاذ» التي تولّت الحكومة نفسها إعدادها، كما فرضت عليها التراجع عن إقرار قانون للرقابة على التحويلات كي تبقى هذه الأخيرة خاضعة لمصالحها الخاصة وسياساتها الاستنسابية. وهي فوق هذا وذاك فرضت المضيّ قدماً في إخضاع البلد لأكبر عملية هيركات للودائع مستفيدة من تعدّد أسعار الصرف وخصوصاً من تزايد الهوّة بين سعر الليرة على المنصّة (التعميم 151) وسعرها في السوق الحرّة.
رابعاً، هي مرحلة التخبّط الدستوري وعدم قدرة المنظومة الحاكمة على تشكيل حكومة لأكثر من ثمانية أشهر بعد استقالة حكومة حسان دياب، ما يؤكد ليس فقط عجز هذه المنظومة عن تأمين الانتظام العام وإعادة إنتاج أدوات الحكم التنفيذية ومعالجة الشلل الذي يطاول السلطات الأخرى، بل يؤكّد أيضاً مدى عمق أزمة نظام الطائف التي شوّهت الممارسة الديمقراطية واختزلت كل السلطات في أيدي خمس أو ستّ «زعامات»، وأوصلت القوى الطائفية الحاكمة الى حدّ الاختباء وراء حكومات تكنوقراطية.
خامساً، هي إلى جانب هذا كلّه، مرحلة ارتفاع منسوب التدخلات الخارجية – وبخاصة الأميركية – الآخذة في تشديد الضغوطات المالية والنقدية وزيادة الإجراءات العقابية ومحاولة تحميل لبنان أكثر فأكثر كلفة تبعية نظامه وارتهان منظومته للخارج والتحكّم في تشكيل حكوماته، والانحياز إلى جانب الكيان الصهيوني في ترسيم حدود لبنان البحرية الجنوبية وغير ذلك من تدخلات.

انتفاضة 17 اكتوبر
تظهر تجليّات أزمة الرأسمالية اليوم، كأزمة عالمية، في تراجع معدلات النمو وازدياد تركز الدخل والثروة في يد القلّة وتسارع انهيار الطبقة العاملة وشرائح واسعة من الطبقة الوسطى، فضلاً عن ارتفاع حدة التناقضات الطبقية سواء في الدول الرأسمالية المتقدمة أو في الدول النامية. وفي خضم هذه المرحلة الانتقالية تتفجّر الانتفاضات الشعبية رفضاً لعدم المساواة والتهميش والإفقار والاستغلال في دول عديدة من المنطقة العربية (من العراق إلى السودان) كما في أميركا اللاتينية وأوروبا.
ولم تكن انتفاضة اللبنانيين في تشرين الأوّل/ اكتوبر عام 2019 بعيدة عن هذا السياق العالمي، بل هي أتت ردّاً على أزمة الرأسمالية اللبنانية التابعة التي حالت دون توفير الرفاه الاقتصادي والاجتماعي لغالبية اللبنانيين. وقد بدأت هذه الانتفاضة في شكل معركة طبقية بين محورين، الأول يجمع القوى والفئات الطليعية من المجتمع من شباب وعمال وموظفين وطلاب ومتعطّلين عن العمل وراغبين في التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والثاني ينحصر في طبقة الـ 1في المئة والأطياف التي تمثل الرأسمال الريعي والاحتكاري والزعامات الطائفية التي تريد إبقاء لبنان خاضعاً للنظام الطائفي المتخلّف. ومن خلال هذه المعركة الطبقية الواضحة الأبعاد، أفرزت الانتفاضة واقعاً سياسياً جديداً في البلاد، يتوجّب على القوى الحاملة لهذه الانتفاضة أن تحوّله إلى رافعة للتغيير الجذري والشامل في بنية النظام القائم، في مواجهة حقبة الانهيار الاقتصادي والنقدي وعجز قوى السلطة عن استحداث أية حلول جديّة على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ويدرك الحزب الشيوعي واقع التنوّع والتعدّد الكبير الذي يحيط بتركيبة القوى والتيّارات والمجموعات والكتل المشاركة في الانتفاضة، والذي شجع ويشجع قوى كثيرة ـــ من داخل السلطة ومن الخارج ـــ على محاولة حرف الانتفاضة عن مسارها الطبيعي. وإلى جانب تصدّيه لمثل هذه المحاولة، يدرك الحزب أيضاً أن أهداف الانتفاضة ليست من النوع الذي يمكن تحقيقه عبر برامج مجتزأة أو فئوية أو ذات طابع مطلبي بحت، بل هي من النوع الذي يتطلّب برنامجاً متكاملاً وجذرياً يُنهي مرحلة ويبني على أنقاضها مرحلة جديدة ترسي الأسس السياسية والاقتصادية والاجتماعية لعملية التغيير.
على الانتفاضة مهمّة التحوّل الى ثورة ديمقراطية تتطلّع الى نزع الهيمنة المزدوجة للرأسمال والاحزاب الطائفية


التغيير الديمقراطي، الاقتصاد المنتج، والعقد الاجتماعي الجديد
إن الانتقال من انتفاضة أكتوبر في اتجاه التغيير يستند إلى متغيرات عميقة في أسس النظام السياسي ـــ الاقتصادي اللبناني، ما يطرح على الانتفاضة مهمّة التحوّل إلى ثورة ديمقراطية تتطلّع إلى نزع الهيمنة المزدوجة للرأسمال والأحزاب الطائفية التي تحوّل تحالفهما المتقادم إلى عائق أساسي أمام التقدم وأمام الاستجابة لمصالح القوى الاجتماعية الحيّة في لبنان، خصوصاً العمّال والأجراء والشباب والنساء. فقد برزت حقائق أساسية تحتم على قوى التغيير اعتبار أن النظام القديم قد بلغ نهايته ولا بدّ من الدفع في اتجاه تغييره وإرساء ديمقراطية حقيقية وبناء الاقتصاد المنتج والعدالة الاجتماعية:
الحقيقة الأولى تفيد بسقوط مرتكزات نظام الطائف (الداخلية والخارجية) ومرحلة ما عُرف بالديمقراطية التوافقية التي أنتجت نظام المحاصصة وشلّت الحياة العامة على الصعد السياسية والاقتصادية والتشريعية وكبحت عملية التطور في لبنان.
الحقيقة الثانية تشير إلى انتهاء النموذج الاقتصادي القديم الذي ترافق مع الحقبة النيوليبرالية على المستوى العالمي، والذي تتجلّى إحدى سماته اليوم في لبنان في بدء أفول ظاهرة الفئات الرأسمالية الريعية، ما يبرز الحاجة إلى استحداث نموذج اقتصادي جديد يتولى بشكل أساسي، استناداً إلى النظرية الماركسية، تطوير القوى المنتجة بعد سنين من تراجع القدرات الإنتاجية وتوقف التقدم الاقتصادي.
الحقيقة الثالثة تعكس انتهاء النظام التوزيعي القديم بشقيه: الشقّ الأول الذي يتولى تحويل المداخيل والثروة من المجتمع والدولة إلى الطبقة الرأسمالية الريعية عبر آليات استدانة الدولة وتكاليف سداد هذا الدين، والثاني عبر المحاصصة السياسية والزبائنية من خلال التوظيف في الدولة وتقاسم السيطرة على المؤسسات والصناديق العامة والاستئثار بصفقات وعمولات عقود الشراء العام. وهذا ما يستدعي بالتالي بلورة عقد اجتماعي جديد يقوم على أسس العدالة الاجتماعية ويؤمن صعود الطبقات والفئات التي تعتمد مداخيلها على العمل بدلاً من الاعتماد على الريع.
وقد جاء انفجار مرفأ بيروت الذي دمّر جزءاً أساسياً من العاصمة ليرسّخ فعل هذه الحقائق، نظراً إلى ضخامة الخسائر البشرية والاقتصادية والاجتماعية التي نجمت عنه ولعجز المنظومة الفاضح عن التعامل مع تبعاته بما في ذلك التقدّم الفعلي في إنجاز التحقيق الجنائي. وها نحن اليوم في مرحلة انتقالية يموت فيها القديم فيما الجديد لم يولد بعد. من هنا بات وقف هذا المسار المأزوم مهمة وطنية راهنة أمام القوى السياسية التقدمية والديمقراطية وجميع مكونات حالة الاعتراض الوطني والديمقراطي والقوى الطبقية المتقدمة في المجتمع، ومن ضمنها الطبقة العاملة والعاملون لحسابهم والمتعطّلون عن العمل وأجزاء من البورجوازية الصغيرة والبورجوازية المنتجة المستثمرة في الصناعة والزراعة واقتصاد المعرفة، للسير معاً باتجاه مسار آخر، مسار إنقاذي يطرح الحزب الشيوعي فيه تأسيس عقد اجتماعي تحت شعار «نحو دولة ديمقراطية علمانية، نحو بناء الاقتصاد المنتج، نحو العدالة الاجتماعية». وهو يدعو جميع الحلفاء والأصدقاء والهيئات الاجتماعية والمهنية وعموم الشعب اللبناني إلى دعم برنامجه في هذا المجال.
أولاً: في التغيير السياسي وبناء الدولة العلمانية الديمقراطية
ـــ إقرار قانون للانتخابات النيابية يعتمد النسبية خارج القيد الطائفي على أساس لبنان دائرة واحدة أو دوائر موسّعة، مع التوازن في نظم الدعاية والإعلام والتمويل الانتخابي والمكننة وخفض سن الاقتراع إلى 18 سنة وتطبيق الكوتا النسائية بما يحدّ من تأثير الخطاب الطائفي والنفوذ المالي في العملية الانتخابية، ويؤمن أوسع تمثيل ممكن للقوى السياسية وينتج برلماناً جديداً يعمل على إصدار القوانين الضرورية لتطوير النظام السياسي اللبناني والنهوض بالاقتصاد والمجتمع.
ـــ إجراء الانتخابات النيابية وفقاً للقانون الجديد، وإعادة تشكيل السلطة السياسية على أسس جديدة بعدما عجزت السلطة القائمة عن تأمين الانتظام العام وعن معالجة تفاقم الخلل العضوي في شرعيتها وسياساتها ومؤسساتها العامة، مع التطلّع في هذا المنعطف الخطير الذي يمرّ به البلاد نحو ترجمة روح الانتفاضة وقدراتها وطاقاتها في صناديق الاقتراع، أي في نتائج هذه الانتخابات.
ـــ استحداث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع الطوائف وتختصر صلاحياته على قضاياها الخاصة.
ـــ إقرار قانون مدني موحّد للأحوال الشخصية، يتم تطبيقه بشكل اختياري ومؤقت ليتحول بعد عشر سنوات حدّاً أقصى إلى قانون إلزامي.
ـــ وضع قانون وطني جديد للأحزاب السياسية يتماهى مع عملية التحرّر التدريجي من الطائفية.
ـــ استحداث قانون عصري لمفهوم الإقامة، يحدّد مكان ممارسة المواطن لحقه الانتخابي السياسي والبلدي انطلاقاً من معايير واضحة، كبديل للمكان المحدّد في سجلات النفوس، ما يتطلب إجراء مسح سكاني شامل، من دونه لا تستقيم القوانين الانتخابية والسياسات الاقتصادية والضريبية.
ـــ استكمال التغيير السياسي بتطوير معايير الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والرقابية والقضائية، والالتزام بشكل خاص بإعادة بناء القضاء كسلطة مستقلة محصّنة بمهنيّتها واستقلاليتها، كبديل لاستمرار رهنه للقوى المسيطرة سياسياً واقتصادياً.
ـــ إقرار قانون عصري نسبي للحكم البلدي مع قانون اللامركزية الإدارية في دولة علمانية ديمقراطية، يعزّز مقومات التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الإطار المحلي، ويحدّ من استمرار حصر وتركّز معظم الموارد والثروات في قبضة الحكم المركزي.
ثانياً: في السياسات الآنية الاقتصادية والاجتماعية
تقضي أولويات السياسات الآنية بالعمل على وقف تبعيات الانهيار النقدي الذي يلفّ البلاد حالياً عبر:
ـــ إجراء حساب شامل لجميع أصول ومتوجبات الدولة والقطاع المصرفي (الخاص والعام)، مع التشديد على أهمية المضيّ في التحقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان (وحسابات المؤسسات العامة الأخرى لاحقاً) كي يتمّ تقدير القيمة الإجمالية للخسائر، والتأكيد على تحميل عبئها الأكبر للقطاع المصرفي وكبار المودعين الذين استفادوا على مدى سنوات من السياسات المالية والنقدية السابقة،
ـــ إخضاع المصارف التجارية الحاملة لجزء كبير من الدين العام بالليرة اللبنانية وبالدولار الأميركي على إلغاء جزء كبير منه في إطار السعي إلى إعادة هيكلة الدين العام، على أن يترافق ذلك مع خفض مواز في قيمة الودائع الكبيرة التي تتركّز في الشطور التي تزيد عن مليون دولار والتي يمتلكها نحو واحد بالمئة من المودعين.
ـــ من ضمن قانون استعادة الأموال العامة المنهوبة والمهرّبة إلى الخارج- الذي لا يكفي إقراره بل المهمّ إصدار مراسيمه التنظيمية ومحاكمة المرتكبين - يتوجّب العمل على استرداد الثلث المتراكم (المقدّر بنحو 27 مليار دولار أميركي) من قيمة خدمة الدين المتراكمة منذ عام 1993، والذي ثبت أنه ناجم ـــ استناداً إلى دراسات محلية ودولية موثّقة ـــ عن تبعات تطبيق سياسة التثبيت النقدي المستمرّة منذ أوائل التسعينيات والتي ارتدت شكل زيادات مضخّمة وغير مبرّرة في معدلات الفائدة على رؤوس الأموال التي تمّ استجلابها من الداخل والخارج. وتتضمّن عملية الاسترداد:
أ ـــ اقتطاع نحو 75 في المئة من ثلث هذه الفوائد المتراكمة، أي حوالى 20 مليار دولار، لمرّة واحدة من خلال استهداف مصدرين أساسيين:
● عشرة مليارات دولار من كبار المودعين، عبر ضريبة استثنائية على أصحاب الودائع فوق المليون دولار، على أن تتدرّج الضريبة بمعدلات تصاعدية بحسب الشطور من 15 في المئة الى 25 في المئة؛
● عشرة مليارات دولار من كبار مساهمي المصارف، 50 في المئة منها تعويضاً عن قيمة الهندسات المالية المنفّذة بدءاً من عام 2016، و50في المئة استرداداً لربع الأرباح المصرفية المحقّقة في السنوات العشر الأخيرة. على أن يجري تحصيل هذه الأموال إما عبر تدفقات مالية ونقدية مباشرة أو من خلال تصفية ما يملكونه من موجودات وأصول على الأراضي اللبنانية وخارجها.
ب ـــ اقتطاع ما يوازي 7 مليارات دولار أميركي (أي ربع الثلث المصطنع من فاتورة خدمة الدين) من الزعماء الذين تعاقبوا على السلطة منذ 1992، ومن كبار موظفي الإدارات والمؤسسات العامة والمصالح المستقلة وكبار المتعهدين لدى مجلس الإنماء والإعمار والتكتلات الاحتكارية الكبرى في قطاعات المحروقات والدواء والإسمنت وغيرها، وذلك استرداداً لما سطوا عليه من أموال عامة. وتتمّ استعادة هذه المبالغ بعد إصدار قانون رفع السرية المصرفية والحصانة الإدارية عن هؤلاء وتخييرهم بواحد من خيارين:
● إما القبول الطوعي بالتخلّي عن جزء من رصيد حساباتهم الدائنة من دون مساءلة عن المصادر التي تكوّنت عبرها ثرواتهم الشخصية، على أن يتحدّد هذا الجزء بمعدّلات تصاعدية وفق شطور تصل إلى 25في المئة من تلك الثروات؛
● أو الخضوع ـــ إذا ما رفضوا الحلّ الطوعي ـــ لتحقيق قضائي ومالي شفّاف من قبل هيئة قضائية ومالية مختصّة ومستقلة حول مصادر ثرواتهم للتأكّد من طابعها النظامي وعدم تورّط أصحابها بأعمال الرشوة والفساد والإثراء غير المشروع خلال فترة عملهم في قطاع الدولة (السياسيون والموظّفون) أو خلال تعاقدهم مع هذا القطاع (المتعهّدون، وأصحاب التكتلات الاحتكارية). وتتمّ في هذه الحالة مصادرة كل الثروات التي لا يجري تدعيمها بإثباتات موثّقة نظامياً.
ـــ الشروع في تغيير منظومة السياسات الاقتصادية المعتمدة منذ عام 1992، وترجمة هذا التوجّه عبر مواقف وإجراءات تؤكد للأسواق والعملاء الاقتصاديين أن تلك المرحلة انتهت ولن يعود لبنان إليها. والمهمّة الأساسية في هذا الاطار تقضي بتقويض أساس النموذج القديم القائم على الاستدانة الحكومية وتراكم الرأسمال الريعي الناتج عنها، بعدما أفضى الإنفاق العام الكبير وغير المنتج الذي حصل منذ بداية التسعينيات - بالتزامن مع خفض الضريبة على الرأسمال - إلى تراكم الدَّيْن العام وأعبائه على عموم المواطنين من جهة وتركّز الثروة لدى القلّة من جهة أخرى. ومن دون هذا التعديل، لا طائل من المراهنة على أي سياسات ولا فائدة من الاتّكال فقط على النموّ أو على التدفّقات الخارجية.
ـــ استحداث خطة إنقاذ اقتصادية واجتماعية في مواجهة أزمة الكورونا التي أكّدت أن النموذج الاقتصادي النيوليبرالي الذي اتُّبع في العقود الأربعة السابقة قد فشل في تحقيق التعاقد المجتمعي وزاد الفوارق الاقتصادية والاجتماعية وأضعف النُّظم الصحية والتعليمية التي تشكل العصب الرئيسي لقوة المجتمع.
(غداً جزء ثانٍ وأخير)
المكتب السياسي لـ «الحزب الشيوعي اللبناني»
بيروت، 16 حزيران/ يونيو2021