ثمّة استحالة في حسم الصراع الدائر في مصر لمصلحة طرف بعينه. فلا الإخوان يملكون القاعدة الاجتماعية العريضة التي تتيح لهم محاصرة السلطة وشلّها، ولا النظام يستطيع الإيقاع بهم بأكثر ممّا يفعل الآن. لقد تحوّل الأمر إلى ما يشبه الحلقة المفرغة، ومن كان بيده إغلاقها تآكلت شرعيته السياسية مع سنّ قانون التظاهر، والبدء بحملات التشهير ضدّ كلّ من يعترض على «خريطة الطريق» الموضوعة في 3 يوليو.
لا يقود ذلك حكماً إلى الشارع كما يعتقد يساريون راديكاليون أمثال علاء عبد الفتاح وتامر موافي، فالشارع يتحرّك بمنطق الكتلة الاجتماعية، وهذا غائب اليوم عن مجمل التحرّكات الحاصلة، إلّا إذا أراد البعض إسباغ شرعية اجتماعية عريضة على احتجاجات الإخوان. يمكن تلمّس ذلك من بعض التلميحات التي تشير إلى مظلوميتهم، والى اكتسابهم بفعل البقاء في الشارع شرعيّة نضالية لا تتوافر لأحد في الوقت الحالي. مثلاً، يقول علاء عبد الفتاح (الناشط السياسي البارز والعضو المؤسّس في جبهة طريق الثورة «ثوار») في تغريدة له على موقع «تويتر» قبل أيّام: «وقابل بقى يا معلم لما الثورة الإسلامية تنتصر، ويبقوا في السلطة بعد نضال لوحدهم دام سنتين وتضحيات جسام». كلام الرجل لا يأت جزافاً، فهو يفترض بأنّ ثمّة سياقاً اجتماعياً يتحرّك من خلاله الإخوان، وهذا السياق يبدو له «مطابقاً» لسياقات أخرى حدثت في الماضي القريب وأفضت إلى انهيار السلطة القائمة وحلول أخرى من داخل السياق محلّها. عن هذا الموضوع أيضاً يقول عبد الفتاح في تغريدة أخرى: «حضروا نفسكم لحكم الإخوان بقى يا شباب عشان العسكر بهوقت منهم تماماً، ومش هيكملوا كتير بالطريقة دي، وربنا يستر على التفاصيل». افتراض علاء لهذا الأمر أو ذاك ليس صحيحاً بالضرورة، ولكنه يعتمد على منهج في التحليل، وبالتالي يمكن بالاعتماد على المنهج نفسه محاججته ودحض النظرية التي يقول بها.
لا الغرب سيصبح
صديقنا يوماً ولا روسيا ستبقى مع محتجي دونيتسك وخاركوف
لا يهمّ هنا ماذا أريد أنا أو ماذا يريد هو، وإنّما ما الذي يتيحه الواقع المتغيّر من احتمالات. الافتراض مثلاً بإمكانية تغيير الواقع اعتماداً على التضحيات وحدها لا يجد سنداً له في أيّ انتفاضة سابقة، وإذا وجدها فبناء على معادلات تعتمد على تضافر القوّة المادية والتضحية بالنفس. وهو بالضبط ما حصل في يناير 2011 حين اتفقت «الثورة» الشعبية المعتمدة على قوّة المهمّشين التنظيمية مع مؤسّسة الجيش على نقل الاحتجاج من الشارع إلى المؤسّسات، وبالتالي الشروع في عملية «تغيير» النظام من فوق.
لنقل إنّ الاحتجاجات حينها قد «توقّفت» (بالأحرى تغيّر طابعها) بفعل تدخّل الجيش، وان كان للتضحيات الجسام التي يتحدّث عنها علاء دورها هي الأخرى. في الحقيقة هي ديناميّة متكاملة لا ينفصل فيها ما هو ذاتي عمّا هو موضوعي، وإذا اعتبرنا التضحية عاملاً ذاتيّاً فسيكون المعادل الموضوعي لها هو القوّة المادية التي تفرض التغيير. التضحية هنا تصبح عبثية إن لم تجد من يقدر على ترجمتها وتحويلها إلى قوّة ضغط على السلطة، والعكس صحيح في ما يتعلّق بالقوّة المادية الخشنة التي تغدو عاتية عندما لا تجد من يضبطها ويردعها أخلاقياً. حالة الإخوان اليوم لا تشبه هذه المعادلة، ولا تدخل في أيّ من الأطر التي عرفتها الثورة منذ اندلاعها. فهي لا تعتمد على قوّة مادية تحظى بالإجماع وتمنع صدام شرائح المجتمع مع بعضها بعضاً كما كانت عليه حال الجيش قبل المواجهات الحالية. كما أنّ تضحياتها لا تجد حتّى الآن صدى مقبولاً لدى شرائح واسعة من المجتمع المصري، وهذا يصعّب التضامن معها ويبقي احتجاجاتها بعيداً عن نقطة الإجماع التي وصلت إليها لحظة يناير 2011.
وحتّى لو افترضنا أنّ الإطار العام قد أصبح في المتناول بعد دخول الجامعات بقوّة على خطّ الاحتجاج، فإنّ العمليات التي تحصل ضدّ الجيش وقوى الأمن سرعان ما تبدّده وتعيد فرز القوى على قاعدة الولاء للدولة من عدمه. «لا يأبه» المشكّكون بولاء الإخوان لدولتهم للاحتجاجات الجامعيّة المعتبرة أقلّ عنفاً من غيرها، ولا يعتبرونها الذراع الأساسية للإخوان حالياً، وإنّما يذهبون مباشرة إلى الجرائم التي ترتكبها الجماعات التكفيرية بحقّ الجيش والشرطة، فيدينون الإخوان على أساسها باعتبار أنّهم يقدمون الغطاء السياسي لها، وللأفعال الأخرى كافة التي يأتي بها التكفيريون. وهذا صحيح من وجهة نظر الدولة والقطاعات الشعبية العريضة التي تواليها، فالإخوان لا يملكون حالياً في مواجهة الجيش إلا هذه الأساليب، وانخراطهم بكثافة في النشاط الجامعي المناهض للحكم لا يتناقض مع تأييدهم لنشاط المجموعات التكفيرية في سيناء وغيرها. انتفاضتهم التي يتوقّع علاء عبد الفتاح انتصارها يوماً ما تعتمد على خطّين اثنين، وتسير شعبياً بموازاة المسار العسكري الذي يتكفّل به حلفاء غير معلنين للجماعة. ما ينساه علاء هنا أنّ الحلفاء التكفيريين هم الذين يقودون المسيرة الآن، ذلك أنّ موازين القوى بين الإخوان والجيش لا تتغيّر تبعاً لتوسّع رقعة الاحتجاجات فحسب، بل كذلك بالاستناد إلى الخريطة العسكرية التي يتفوّق فيها العامل التكفيري على سواه. صحيح أنّ الجيش الآن يقصف سيناء بطائرات «الأباتشي» ومن دون التمييز في أحيان كثيرة بين المدنيين والمسلّحين هناك (يجب بالفعل توثيق الجرائم التي يرتكبها الجيش ضدّ المدنيين في سيناء)، إلّا أنّه يمنى إلى جانب الشرطة وقوى الأمن بهزائم يوميّة في المدن الكبرى، ويعاني من نزيف بشري لا يقلّ أبداً عن نزيف الاحتجاجات. في هذه الحال يصبح السؤال عن مركز الثقل الذي تعتمد عليه انتفاضة الإخوان أكثر من ضروري، فما الذي يحيجني في اليسار، أو في المعسكر المنحاز للثورة عموماً إلى تفهّم (ولا أقول تبرير أو تبنّي) احتجاجات تعتمد على قتل المجنّدين الفقراء في الجيش والشرطة أكثر من اعتمادها على تظاهرات طلّابها المظلومين والمعتدى عليهم في الجامعات؟ أيّ تناقض هذا، وكيف يمكن أساساً عقد مقارنات بين انتفاضة الشعب في يناير 2011 وانتفاضة الجزء الذي طرده الشعب ذاته قبل سنة من الآن. في أفضل الأحوال يمكن اعتبار ما يحدث انتفاضة جزئية، ولكنها على ما أظن غير قابلة للتوسّع كثيراً، إذ إنّ «الجزء الجيّد» فيها (احتجاجات الجامعات الواسعة بالفعل والمتكوّنة من شرائح اخوانية وأخرى لا تتبع الإخوان بالضرورة) لن يصمد كثيراً أمام تزايد سطوة الجزء الآخر التكفيري وهيمنته على مشهد الاحتجاج برمّته. الحامل الاجتماعي هنا - وهو الضيّق أصلاً - سيزداد هشاشة وسيتآكل في ضوء تقدّم الفعل العسكري (سواء للجيش أو التكفيريين)، وإذا كانت فاعليّته باقية حالياً نظراً لاستمرار الاعتقالات الجماعية للإخوان والثوريين «المتعاطفين معهم»، فإنّ الظرف الذي تصنعه «الحرب» سيأتي على ما تبقّى منها، تماماً كما فعل هنا في سوريا. لن يهزم الإخوان بسهولة طبعاً، ولكنهم سيعانون من تبعات الاصطفاف إلى جانب خيارات تمزّق الدولة، وتدفع بالشعب دفعاً إلى الاصطفاف خلف جيش يرتكب الجرائم كلّ يوم. ليس سهلاً أن يقبل الناس بتدخّل التكفيريين في حياتهم، وهذا ما دفعهم أصلاً إلى الخروج في 30 يونيو لإسقاط الإخوان (سيعجب هذا الجزء من المقال الليبراليين المهووسين بفكرة الهويّة والكارهين للتحليل الطبقي. أطمئن هؤلاء بأنّ نسبة مشاركة العمّال والمهمّشين في 30 يونيو كانت الأكبر منذ يناير 2011).
حكم «الجماعة» كان سيقود إلى مزيد من التشدّد في التشريعات الخاصّة بالأحوال الشخصية، وهو للتذكير - أي التشدّد - يتزايد حاليّاً في ظلّ تملّق الدولة والجيش للوهابيين وآل سعود من خلفهم. و«ما يطمئننا» أنّه محكوم بتوازانات لا تسمح له بأن يتسيّد المشهد وحده. من هنا تأتي الخشية من عسكرة تمرّد الإخوان، فالثورة في يناير احتكمت إلى الجيش حين وصل الصراع مع أجهزة مبارك إلى ذروته، فهو مهما بطش بالمصريين يبقى مؤسّسة تنتمي إلى النسيج الاجتماعي ذاته. حتّى اليسار الراديكالي الذي يعتبره ذراعاً للامبريالية منذ أيام السادات يتعامل معه إن لم يكن على أساس «وطنيته» (المشكوك فيها قطعاً) فعلى الأقل وفقاً لانتماء أفراده ومجنّديه إلى المجتمع ذاته. وهذا بالتحديد هو الفارق بين قوّة تخشى من تأثير الثورة «فتقف معها» مرغمة بحكم المرجعيّة الاجتماعية الواحدة، وقوّة لا تخشى على نفسها من شيء، وتستعمل في الوقت ذاته أيّ شيء بما في ذلك الاحتجاجات لتفكيك الدولة والبطش بأفرادها أيا كانت انتماءاتهم الطبقية أو الاجتماعية (يلاحظ أنها تستهدف الفقراء في الجيش والشرطة أكثر من سواهم!).
اليسار الراديكالي في مصر كما في سوريا لا يأبه بهذه التناقضات كثيراً، ولا يعتبر أنّه معني بمناقشتها من باب تأثيرها على الواقع، فتناقضه الرئيسي لا يتغيّر مهما تغيّرت المعطيات أو تعدّلت. وان كنت اتفق مع الرفاق في تناقضهم مع السلطة الفاشيّة، أيّ سلطة، إلّا أنّني أجد إصرارهم على تحييد العوامل الأخرى التي تتدخّل بها السلطة ولا تخلقها بالضرورة مبالغاً فيه، هذا إن لم يكن «ساذجاً» بالأساس. في بعض الأحيان يكون الإصرار مغرضاً كما في الحالة السورية التي يمرّ فيها اليسار الامتثالي مرور الكرام على عذابات آلاف بل مئات الآلاف من الفقراء والمهمّشين الذين لا يشاطرونه إعجابه «بالثورة». في المناسبة، «الثورة» هنا هي الصيرورة المنطقية لانتفاضة الإخوان في مصر، لكن في غياب دعم إقليمي واضح، ومع تناقضات أقلّ بكثير من الحالة السورية. علاء عبد الفتاح يتكلّم أيضاً عن «ثورة إسلامية».
أظنّه يقصد النموذج الإيراني، وهو الآخر مليء بالتناقضات، وبمفعول رجعي، لا يستحقّ أن نطلق عليه هذا الاسم. كان ثورة عندما توسّعت قاعدته الاجتماعية وقدّم آلاف الضحايا والشهداء من مختلف الشرائح الطبقية والانتماءات السياسية، وبقاؤه إلى اليوم خارج «الوعاء العريض» للمجتمع الإيراني لا يعني شيئاً غير استمرار احتكار السلطة ومركزتها بيد «القلّة». وبهذا المعنى يا علاء فإنّ الإخوان سيصلون إلى السلطة -هذا إذا وصلوا أساساً وأشكّ كثيراً في ذلك - رغماً عنّا وعن ملايين الفقراء الذين يطحنهم صراع الجيش والتكفيريين في سيناء وباقي المدن المصرية. الثورة أيّها الرفيق تحتاج إلى بديل واقعي وأخلاقي، والإخوان ليسوا هذا ولا ذاك. في رأيي، هم «خطأ تاريخي»، لا أكثر ولا أقلّ.
* كاتب سوري