إنّ التجربة التعددية القائمة على العيش المشترك والسماحة في الأندلس القديمة، التي يفاخر بها بعض من جيل المثقفين الأندلسيين المعاصرين وبين علماء إناسة «إنثروبولوجيين» ومؤرخين، الذين توقفنا في مناسبة سابقة عند أسماء بعضهم (الأخبار عدد 29 تشرين الأول، 2020)، تذكرنا مباشرة بتجربة الحضارة العربية الإسلامية الأم في المشرق العربي وخصوصاً في العهد العباسي وعاصمته الزاهرة بغداد. فهذه البداية الحضارية، وخصوصاً في طورها العباسي الأول، تأسّست أصلاً على التعددية والتنوع، وشارك في بناء حضارتها ممثلون فاعلون من عدة قوميات وأديان إلى جانب العرب المسلمين، فمساهمة العلماء الفرس والترك، والأذريين والهنود وعموم الآسيويين والمسيحيين العرب واليهود المزراحيم والأفارقة البربر وغير البربر، وبلغة الثقافة عهد ذاك أي العربية إلى جانب الأعمال المترجمة للإغريق والرومان والهنود هي مساهمة فعالة وتأسيسية. هل فتح العرب المسلمون الأندلس فعلاً؟
وبالعودة إلى ما قاله دعاة استعادة الهوية الأندلسية «القديمة الجديدة» المعاصرون، نتوقّف عند ما ذكره إيمانيويلو غونزالس فيرين، وهو مؤرخ وباحث في فقه اللغة العربية، ومفاده أن الأندلس، بعد ما عُرف بحروب الاسترداد الشمالية، خضعت لعملية صناعة ذاكرة جمعية على نطاق واسع. ونفهم من السياق أنه يقصد عملية صناعة ذاكرة جمعية غير موضوعية ومنحازة ضد الهوية الأندلسية. فهو يؤكد (أن تاريخ مملكة ليون واستورياس، وتاريخ مملكة قشتالة كوريثة كُتِبَ، كما كُتِبَ التاريخ الاستعماري للأندلس في خدمة مشروع معين هو المشروع القومي الكاثوليكي، وهذا منطقي فقط في قلب شبه الجزيرة الإيبيرية، ولكنه لا ينطبق على الأندلس، ولا على أميركا اللاتينية- الناطقة بالإسبانية).
ويذهب فيرين إلى أن: «الحديث عن الاحتلال العربي لشبه الجزيرية الإيبيرية أمر مصطنع، ومجرد حكاية عُدَّتْ كتاريخ حقيقي لتبرير سقوط الحكم القوطي، ويصبح ضرورة ملحة عندما يرتبط بالفترة اللاحقة لفترة الاستعادة «حروب الاسترداد». إنَّ المحور الأساس في جوهر الفكرة القومية الكاثوليكية في إسبانيا هو أن الشر يأتي دائماً من الخارج، والآخرون هم الذين جاؤوا من الخارج لتعكير صفو شبه الجزيرة الإيبيرية. وللحفاظ على تلك الصورة الخادعة لا بدّ من الحفاظ على خرافة الاحتلال العربي، ولكن الحقيقة مختلفة عما أخبرونا به».
من الطبيعي أننا لا يمكن أن نتّفق مع فيرين في كلّ ما ذهب إليه، فحقائق التاريخ أكثر صلابة وثقلاً مما يتصوّر البعض، ولا يمكن نفي الفتح العسكري العربي الإسلامي لشبه الجزيرة الإيبيرية أو ما يسمّيه «الاحتلال العربي». ربما يكون هناك شيء من الحقيقة، في وصف وتقديم هذا الفتح من قِبل من سماهم «القوميين الكاثوليك» آنذاك على أنه «شر قادم من الخارج»، ولكن الفتح العسكري بحدّ ذاته حدث تاريخي حقيقي موثق جيداً تأريخياً كما سنوضح بعد قليل.
يقول فيرين في معرض تفنيده للحدث العربي، إن «تاريخ فتح العرب لشبه الجزيرة الإيبيرية كُتب بعد مائة وخمسين سنة من 711م، وهناك رواية عربية وأخرى لاتينية للأمر، وهي مجرد حكايات تاريخية عربية ولاتينية وليست مصدراً موثوقاً للتاريخ. هناك عملات وأختام ونقوش، لكن لا توجد وثيقة يعتدّ بها تقول كان هناك غزو عربي، بل كان هناك تعريب، ثورة ثقافية ودينية وسياسية جاءت من الشرق إلى الغرب. وإذا درس تاريخ الأندلس بترتيب وروية فلن يمكن القول حينها إن العرب غزوا الأندلس» (1).
الردّ على تشكيكات فيرين:
ويمكننا القول إنَّ اعتراضات فيرين هنا على واقعة الغزو العربي، وتصغيره من شأن ما وجد من توثيقات وسجلات تاريخية وصفها بالحكايات وإهماله للعملات والنقوش والأختام رغم اعترافه بوجودها أمر لا يعتد به علمياً. وحتى مقولة «الثورة الثقافية والتعريب القادم من الشرق» يمكن وضعها في السياق التاريخي لما بعد حدث الفتح الحربي دون أن تتغير الصورة كثيراً، إذ أنَّ الفرادة لم تكن في حدث الفتح الحربي بحذ ذاته، بل في ما تمخّض عنه من قيام تجربة في البناء والتكون الحضاري الإنساني المثقفي الجديد والذي لا عهد للقارة الأوروبية الجرداء حضارياً آنذاك به، هذا أولاً. وثانياً فالرقم الذي يؤرّخ به فيرين لأول الكتابات التأريخية العربية واللاتينية الموثقة لفتح الأندلس وهو مئة وخمسون عاماً غير صحيح تماماً، ولدينا «تأريخات» ووثائق تاريخية أبكر من هذا التاريخ بكثير، ومنها كتاب أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الحكم. وهو مؤرخ مصري وُلد في القرن الثاني للهجرة وبالتحديد سنة 187 أي بعد ثمانين عاماً من سنة 107 التي اكتمل بها الفتح العربي الإسلامي للأندلس. وقد أفرد بن عبد الحكم فصلاً خاصاً هو الخامس ذكر فيه كيفية وتفاصيل الفتح العربي لشمال إفريقية والأندلس والنوبة.
وثائقي «ثلاثية الأندلس - حكاية الشاطئين» نجح في عرض واقع البحث الذي يقوم به المثقفون الأندلسيون والعلماء المتخصصين في الهوية الأندلسية، بطريقة جريئة تتحصن بالعلوم الحديثة


والأهم من هذا الدليل التأريخي، هو أن لدينا وثائق مهمة عن مجريات الفتح ومنها وثيقة الصلح المؤرخة في سنة 94 هـ والتي استسلم بموجبها حاكم إحدى المقاطعات القوطية لجيوش المسلمين بقيادة عبد العزيز بن مُوسى بن نُصير. والحاكم المقصود هو نبيلٌ قوطيّ عرفهُ المُسلمون باسم «تُدمير» ويُلفظ في لُغته الأُم «ثيوديمير». وكان ثيوديمير يعيشُ شبهَ مستقلٍ في تلك المنطقة مُنذ أيَّام لُذريق «رودريك» الذي قيل بأنَّهُ استخلفهُ على الأندلُس قُبيل اندلاع معركة وادي لكة. ويرد في هذه الوثيقة «كتابٌ من عبدُ العزيز بن مُوسى بن نُصير لِتُدمير بن عبدوس أنَّهُ نزل على الصُلح، وأنَّ لهُ عهد الله وذمَّة نبيِّه (ص) ألَّا يُقدَّم لهُ ولا لِأحدٍ من أصحابه ولا يُؤخَّر، ولا يُنزع من مُلكه، وأنَّهُم لا يُقتلون ولا يُسبون ولا يُفرَّق بينهم وبين أولادهم ولا نسائهم، ولا يُكرهوا على دينهم ولا تُحرق كنائسهم ولا يُنزع من كنائسهم ما يُعبد. وأنَّهُ صالح على سبع مدائن: أوريولة وبلتنة ولقنت ومولُه وبلَّانة ولورقة وألُه، لا يُؤوي لنا آبقاً ولا يُؤوي لنا عدُوّاً ولا يُخيفُ لنا آمناً ولا يكتُمُ خبر عدوٍّ علمه» (2).
وقد حدث الاتفاق على هذه الوثيقة بعد معارك عنيفة كبرى من أهمها معركة «لكة» الدامية سنة 92 هـ، وكانت هذه الاتفاقية التي عُقدت بعدها بأقلّ من عامين نتيجة لها بشكل من الأشكال. والتزم العرب بهذه المعاهدة رغم أنها انطوت يومها على خدعة حربية من قبل ثيوديمير، ولكن العرب المسلمين التزموا بما عاهدوا القوطي عليه. أما مصير ملك الأندلس القوطي لذريق الذي هزمه العرب المسلمون فقد بقي مجهولاً لفترة طويلة، حتى كشفت إحدى المخطوطات القوطيَّة العائدة إلى القرن التاسع الميلاديّ عنه وورد فيها أنَّهُ عُثر في قرية إقطانية (الكائنة في البرتُغال المُعاصرة) على شاهد قبرٍ نُقش عليه عبارة «هُنا يرقُد لُذريق، ملك القوط». باللاتينية: Hic requiescit Rodericus, rex Gothorum (3).
إنَّ ما يختصر تفاصيل وجهة نظر هؤلاء المثقفين الأندلسيين المعاصرين بصدد الموقف مما يسمى «حروب الاسترداد» يمكن أن نجده في ما قالته إحدى تلميذات عالمة الإنثروبولوجيا أنخيلس كاستيانو في هذا الوثائقي صراحة: «نحن نتحدث دوماً عن الاستعادة «حرب الاسترداد» ولم تكن هناك استعادة بل كانت غزوا قام به المسيحيون من الشمال للأندلس».
أما غونزالس فيرين، سالف الذكر، فيوضح هذه الفكرة مزيداً من التوضيح بقوله: «إن فكرة الاستعادة (الاسترداد)، قيلت لتبرير غزو بعض ممالك الشمال للجنوب الأندلسي وتدمير أيقونة ثقافية هي الأندلس التي كانت مثالاً للتسامح الديني وتعايش الأديان الثلاثة في ثقافة واحدة».
حرب مشاريع سياسية أم حرب قومية دينية؟
ولكن فيرين يختلف في طرحه التاريخي عن بعض زملائه المؤرخين والإنثروبولوجيين، فهو يرى في حروب الاسترداد حرباً بين شمال وجنوب، لكل منهما مشروعه، وليس غزواً مسيحياً» لجنوب غير مسيحي، فيقول: «ثمة شيء وُلد مع احتلال إشبيلية عام 1248م. إذا نظرنا إلى احتلال فرناندو الثالث كاحتلال إسباني، فسنفهم ماذا كان يحدث في الجنوب وهو مشروع سياسي لمملكة قشتالة وملكها فرناندو، وإذا بدأنا بتوصيفه كاحتلال مسيحي فسيكون ذلك تفسيراً أيديولوجياً، فكيف يكون غزواً مسيحياً وستون بالمئة من جنود فرناندو من المسلمين، وكان الحليف الأساسي لفرناندو هو ابن الأحمر ولي عهد مملكة غرناطة المسلم، وكانوا يغزون تلك الأراضي في الجنوب لغايات سياسية ولم يكونوا يطردون المسلمين لأنهم مسلمون» (4). والواضح أن الأرقام التي يذكرها فيرين تحتاج إلى تمحيص وتدقيق، وخصوصاً زعمه القائل إن ستين في المئة من جنود فرناندو كانوا من المسلمين.
والواقع التأريخي يقول لنا شيئاً آخر مختلفاً: إن ابن الأحمر حاكم غرناطة، كان قد عقد صلحاً أقرب إلى الاستسلام مع فرنادنو الثالث في ظروف شديدة التعقيد. فقد كان فرناندو الثالث ملك قشتالة يرى في ابن الأحمر بعد هزيمة ووفاة ابن هود حاكم قرطبة، زعيمَ الأندلسِ الحقيقي والخصم الذي يجب تحطيمه. وكان ابن الأحمر يحاول توطيد مملكته الناشئة في غرناطة، ويشعر بخطر دائم من الإسبان، ولكنه انتهى بأن ضمن عدم سقوط حكمه مؤقتاً، مقابل أن يُضحى باستقلاله، بل وأصبح دمية بأيدي الإسبان، فشاركهم في محاصرة اشبيلية وهو يقود العرب المسلمين، وهو ما سار على منواله حكام وأمراء أندلسيون آخرون غير ابن الأحمر لاحقاً فتحالفوا مع فرناندو القوي مخافة سقوط ممالكهم، وقاتلوا ضد بني قومهم 1236! فهل قرأ فيرين هذه الأحداث والتحالفات بين أمراء عرب مسلمين تحالفوا مع فرناندو واستسلموا له بفعل منطق الغلبة والقوة، فاعتبر فيرين أنهم أصبحوا جزءاً من قوات الشمال الإسباني؟ وهل يعقل أن هؤلاء الحلفاء شكلوا ستين بالمئة من قوات فرناندو الثالث، ولم يحاولوا أن يوحدوا قواهم ويقفوا بوجهه ويهزموه؟ أعتقد أن من الصعب جداً الأخذ بهذا المنطق، والموافقة على هذه الاستنتاجات المؤسسة عليه والتي يخرج بها فيرين.
خلاصة القول، هي أن هذا الفيلم التلفزيوني الوثائقي «ثلاثية الأندلس - حكاية الشاطئين» نجح إلى حد بعيد في عرض واقع حال البحث الذي يقوم به المثقفون الأندلسيون وفي طليعتهم العلماء المتخصصون في الهوية الأندلسية اليوم وبطريقة جريئة تتحصّن بالعلوم الحديثة وأساليبها.
* كاتب عراقي

المراجع:
(1) الوثائقي التلفزيوني «ثلاثية الأندلس: حكاية الشاطئين»:
رابط الجزء الأول:
https://www.youtube.com/watch?v=EgTHuEwtLA8
رابط الجزء الثاني:
https://www.youtube.com/watch?v=bAdy6TgYLlA
(2) ابن قُتيبة الدينوري، أبو مُحمَّد عبدُ الله بن عبدُ المجيد بن مُسلم; تحقيق: مُحمَّد محمود الرافعي (1322هـ - 1904م). الإمامة والسياسة، الجُزء الأوَّل (الطبعة الأولى). القاهرة - مصر: مطبعة النيل. صفحة 136.
(3) Thompson, E. A. (1969). The Goths in Spain. Oxford: Clarendon Press. صفحة 250. ISBN 0-19-814271-4.
(4) الوثائقي التلفزيوني «ثلاثية الأندلس: حكاية الشاطئين» – مصدر سابق.