لا يزال الحديثُ هنا عن كتابيْن جديديْن صدرا في الغرب عن إدوار سعيد: كتاب لتلميذ سعيد، تموثي برينان، «أماكن في الفكر: حياة إدوار سعيد»، وقبله صدر في فرنسا كتاب دومينيك إده، «إدوار سعيد: فكره كرواية»—والأخير لم يلقَ تغطية تُذكر على عكس الأوّل. والمعضلة في تناول إرث سعيد وكتابة سيرته ان الرجل سيتعرّض للاستغلال في مماته، وأخشى—في كتاب برينان، وحتى في كتاب دومينيك إدة—أن ذلك قد بدأ، وقد صارحتُ برينان بمخاوفي عندما تناظرنا في ندوة مركز كمبردج للدراسات الفلسطينيّة قبل أسبوع. ومراجعات كتاب برينان تكاد تلتقي في سوء تفسير سعيد السياسي أو في استخدامه في الحرب الاقليميّة الجارية حاليّاً في المنطقة. أنتَ ترى مثلا نكشاً لجملة من سعيد عن النظام الإيراني أو السوري، لكنّ هناك جملاً ضد باقي الأنظمة: أنظمة الخليج أو النظام المصري أو الأردني أو حتى نظام أمين الجميّل الذي كان سعيد شديد العداء له، لن تجدها. وعندما كنت أعدّ مقالة مراجعة لكتاب كنعان مكيّة «الوحشيّة والصمت» والذي جارَ فيه على سعيد واتهمه بالصمت عن قمع الأنظمة، علمَ سعيد وأرسل لي بالبريد السريع دستة مقالات وخطب كان قد كتبها أو ألقاها، وفيها إدانة لكل الأنظمة العربيّة من دون استثناء. واستخدام الموتى أسلوب شائع في ثقافة الطغيان السعودي-الإماراتي-القطري. لم يعد مهدي عامل الماركسي-اللينيني المقارع الشرس لليبراليّة كما كان في حياته، أي يسارياً متزمّتاً. بات أداة فقط في يد اليمين الذي يريد أن يستخدمه في معاركه الحالية ضد أعداء إسرائيل. وفي الكتاب الجديد الصادر بالانكليزيّة عن كتابات مهدي عامل («الماركسية العربيّة والتحرّر الوطني») تطالعك المقدّمة لتجزم بأن حزب الله هو الذي قتل مهدي عامل. تاريخ وسير من صراعات محتدمة لسنوات سبقت اغتياله بين «أمل» والحزب الشيوعي طمسها النسيان. لم تعد مهمة، لأن جثّة عامل تصلح في معارك اليمين ضد حركة مقاومة إسرائيل. والطريف أن كتّاب الاعلام السعودي يستخدمون عامل الذي كتب في تقريع الليبراليّة العربيّة قبل أن نتنبّه لها نحن (وكان كريم مروّة يتهم أمل باغتياله قبل أن يتذكّر أن غازي كنعان همس له بمسؤوليّة حزب الله). تعلم أن الاهتمام بعامل وبحسين مروّة ليس إلا من باب استهداف حزب الله. وهذه مثل تذكّر عائلة الجميل وشمعون والحريري حركة «جمّول» في محاولة لإبرازها كبديل (غير موجود، طبعاً) للمقاومة التي هزمت إسرائيل بالفعل. وحازم صاغية يتذكر فجأة هذا الأسبوع—في جريدة محمد بن سلمان، «الشرق الأوسط»، أن ياسين الحافظ حذّر من أن تتحوّل مقارعة الاستعمار إلى إبادة الحضارة. وبهذا تصبح جثّة ياسين الحافظ أداة هي الأخرى بيد إعلام محمد بن سلمان.
إدوار سعيد

يصل برينان إلى علاقة سعيد بدومينيك إدة. والموضوع هذا محرج لي، لأنه يتعلّق بشأن شخصي في حياة سعيد، ويجب أن لا يعني أياً منا، لكن برينان تطرّق إليه، كما أن إدة نشرت كتاباً بالفرنسية عن علاقتها بسعيد، ولم تكن الإشارات فيه روائيّة كما أرادت أن توحي، من دون أن تريد أن توحي كثيراً. يقول برينان إن سعيد التقاها في عام ١٩٧٩، وإن سعيد أقام معها علاقة عابرة، لكن العلاقة تجدّدت في عام ١٩٩٥ بعد توقف طويل، وإن شقاقاً حدث بعد بضع سنوات، بعد أن استعملت اسم إدوار سعيد في عريضة لم يوافق سعيد عليها. هذا كل ما يرد في كتاب برينان. من الطبيعي أن يريد برينان، الذي اعتمد على تعاون عائلة سعيد، أن يقلّل من أهمية العلاقة، وهي ملك للراحل ولإدة. وعندما تقرأ كتاب إدة عن سعيد «إدوار سعيد: فكره كرواية»، تجد فيه اقتصاصاً شخصيّاً من سعيد، أكثر من أي شيء آخر. سعيد في كتاب إدة شخص غير جذاب بالمرة، بل هو غارف في لجّة نفسه لا يلتفت إلى أحد. لكن كانت للرجل لفتات شخصية وإنسانية، عرفتُها شخصياً. قد تكون لإدة أسبابها الشخصيّة للاقتصاص من سعيد—والأسباب الشخصيّة لا تعنينا—لكن إدة شوّهت صورة سعيد بشكل فظيع، واستخدمته بطريقة مغايرة لمقاصد سعيد وفكره وتوجّهاته. كتاب إدة ينضح باستشراق—يا للمفارقة—مبتذل وتعميمات مهينة عن الإسلام والمسلمين. هو كتاب يعكس الليبرالية الفرنسيّة الاسلاموفوبيّة. حتى عن فلسطين، يطغى على موقفها من الصراع عداؤها لما هو إسلامي. تقول إدة عن سعيد أنه كان «نقدياً بحدّة» للوهابيّة، لكنها تقول عن نفسها إنها كانت متشائمة بشأن احتمالات «غزو» الإسلام للحلبة (ماذا عن غزو المسيحيّة أو اليهوديّة لـ»الحلبة السياسيّة»؟) السياسية. لا تتورّع إدة عن الحديث عن «الجنون الإسلاموي الذي يكسب العقول الآن في كل العالم».
وإدة تريد من سعيد أن يكون، في ماضيه، أكثر اهتماماً بالنصوص القرآنية التي تقلقها والتي تريد إصلاح نصوصها، على طريقة عتاة الاسلاموفوبيّين. وتتساءل لو أن سعيد كان سيوافقها على ان «أقساماً من جسم العالم الإسلامي مصابة بمرض عضال». سأسمح لنفسي بالإجابة عن سعيد بالقول: لا، سعيد لا يمكن له أن يوافق على هذه التنميطات المتعصّبة ضد الإسلام والمسلمين. هو كرّس سنوات من حياته لمحاربة وتفنيد ودحض الكراهية الغربية ضد العرب والمسلمين. أجدى لو أن إدة احترمت سعيد ولم تقحمه في معاركها السياسية أو الشخصية على حد سواء. وتريد أن تتم هناك إعادة تفسير لآيات قرآنية تقول إنها تتحدّث عن «الكفاح المسلّح». وتزيد في تحليل يندر حتى عند بعض الغربيّين أن من الهراء الزعم أن داعش لا تمتّ بصلة إلى الإسلام، أو أن الإسلام يرى نفسه في داعش—لاحظوا ولاحظن أن حديثها عن الإسلام هو الحديث نفسه الذي فنّده ودحضه سعيد في كتاباته. الإسلام عندها شيء ثابت لا يتغيّر، أو هو المصطلح المحكي عند المتعصّبين في تاريخ لبنان عندما يشيرون إلى المسلمين بـ»الإسلام». وتضيف إدة أن القرآن «يأمر ويهدّد، وأن المنع متكرّر». هل قرأت إدة الكتاب المقدّس؟ ثم تزيد إده من عندها استنكاراً لـ»الحملة الصليبيّة ضد البيض». من يشنّ هذه الحملة ضد البيض؟ هنا تقترب إده من خطاب العنصريّين البيض في فرنسا ودول الغرب. من غير إدة يرى أن هناك حملة ضد البيض المساكين، وهم يحكمون العالم ويشنون الحروب ضدنا؟ هذا خطاب العنصرية الأبيض في الغرب، هو خطاب اليمين الجديد.
وبالنسبة إلى فلسطين، لا يمكن لإدة إلا أن تضع موقفها في موازاة صديقتها الاسرائيليّة، إلونا. هذا مثل الذي يرفض أن يقبل إنسانية العرب من دون أن يكون الفرد العربي مصاحباً لاسرائيلي. أي إن الإسرائيلي ضروري للعرب كي يكمل إنسانيّته. هذه مثل صيغة وردت في أحد كتب إلياس خوري على أن العربي عندما يقتل إسرائيليّاً فإنه يقتل نفسه. وتذكّرنا إدة بصداقة سعيد مع دانيال بارينباوم. وفي كل إشاراتها إلى فلسطين، توازي إدة بين معاناة الشعب الفلسطيني والاسرائيليّين وهي تضع المسؤوليّة على الشعبيْن معاً—المُحتل والمطرود من أرضه—كي يجترحا حلاً للمشكلة، كأننا نتحدّث عن اختراع مصل لمعالجة مرض ما. تريد من الشعبيْن التوصّل إلى حل تقدمي لعكس حالة الصراع و»إطلاق حركة في المنطقة». يذكّر كلامها هنا بكتابات شمعون بيريز في التسعينيّات، وتلك الكتابات كانت تلقى تدويراً في جريدة خالد بن سلطان، «الحياة». لا، تؤمن دومينيك إدة بالعنصريّة ضد الشعب العربي، والشعب الفلسطيني خاصّة. بوقاحة قلّ إصدارها من قبل عرب، تقول إدة إنه يجب أن تُحصر الوزارات «الحساسة» في الدولة المشتركة العتيدة (بين العرب والاسرائيليّين) باليهود فقط، مثل وزارة الأمن الداخلي والدفاع، وذلك من أجل «جعلهم يشعرون بالأمان في وجه توسّع ديموغرافي إسلامي». من يتصوّر كيف كان إدوار سعيد سيتعامل مع هذا الكلام العنصري الذي يجترّ فكرة الغرب أن شعباً واحداً فقط يستحق الأمن والآخر يستحق—على طريقة وعد بلفور—فقط الحقوق البلديّة؟
يؤكّد بيرينان أن إدوار سعيد حرص على عدم توجيه نقد علني للاتحاد السوفياتي في سنوات الحرب الباردة لأن «السوفيات لم يفعلوا أي شيء لإيذائنا»


وتتطرّق إدة إلى خلافها مع سعيد عندما استعملت اسم إدوار سعيد في بيان كتبه مثقفون وكتاب لبنانيّون وفلسطينيّون ليبراليّون لمنع مؤتمر كان يُفترض أن يعقد في بيروت في ٢٠٠١، ويضمّ معادين للساميّة ويُكرَّس لـ»المراجعة»، وهي المصطلح الذي يستعمله ناكرو المحرقة. طبعاً، إن عقد هذا مؤتمر يشكّل في حدّ ذاته ليس فقط إهانة للتاريخ وحقائقه، بل هو يقدِّم أيضاً خدمة مجانيّة للدعاية الصهيونيّة. والبيان في حينه طالب بالمنع، ونجح المثقّفون في الحصول على موافقة راعي الثقافة والمثقّفين، رفيق الحريري (الذي قال ذات مرّة في مقابلة إنه يعتبر نفسه مثقّفاً) لمنع المؤتمر. جميل أن نتذكّر أن المثقّفين المذكورين توجّهوا إلى رفيق الحريري لإصدار المنع. وثار سعيد على استعمال اسمه في البيان الذي كتبته دومينيك إدة ووقّعته الشلة المعهودة من الليبراليّين. وكشفت إدة أن جاك شيراك اتصل برفيق الحريري المُطيع، ما أدّى إلى منع المؤتمر (ظنّ المثقّفون في حينه أن الحريري اقتنع بصوابيّة رأيهم، والحريري يميل إلى المنع وهو كان يريد أن يمنع أي برنامج إخباري ينتقد النظام السعودي). طبعاً، هناك مؤتمرات كانت تُعقد—ولا تزال—في الجامعات اللبنانيّة، وهي تنكر المأساة الفلسطينيّة وتنال من حق مقاومة إسرائيل، وبعضها يشكّك في النكبة ولا تصدر بيانات بالمنع والحظر من مثقفي الحرية والانسانيّة. لكن هذا معروف: إن هؤلاء المثقّفين يستبطنون معايير الغرب العنصريّة: وإن معاداة اليهوديّة هي أفظع عندهم من معاداة الإسلام أو المسيحيّة، وإن إهانة الشعب الفلسطيني أقل فداحة من إهانة اليهود، مثلاً. وحاولت إدة أن تستحصل على اعتذار من سعيد على تنصّله من البيان الذي وقّعته بالنيابة عنه، لكنه لم يفعل إلا في كتابها، حيث تزعم أنه قال لها قبل وفاته على الهاتف: «أعذريني، دي».
وعندما تتذكّر إدة نقد سمير قصير لكتاب «الاستشراق» (لم يكتب قصير نقداً لسعيد في حياته، لكنه قال ذلك في مؤتمر في بيروت في ٢٠٠٣) تجدها أقرب من نقد «الاستشراق» منها إلى الكتاب نفسه. وكما في حالة قصير، هي بوضوح تنحاز إلى صادق جلال العظم ضد سعيد في سردها لنقد العظم وزعم أن سعيد فصل بين جوهرانيّة الشرق والغرب، فيما سعيد لم يفعل. والاستعانة بالعظم ضد سعيد، كأن هؤلاء الذين يعرفون سعيد يدركون كم كان يتقزّز من العظم ومن دوره في الساحة الأميركيّة منذ التسعينيّات في القرن الماضي (كان تنبّؤ سعيد بمسار العظم المتحوّل سياسياً صائباً). وتقول إده عن نقد صادق جلال العظم «هذا النقد يبدو لي صائباً جزئيّاً.» لا بل تقرّر عن سعيد أن العظم وسعيد كان يمكن لهما أن يتعلّم أحدهما من الآخر. أنا في هذا أروي أنني في عام ١٩٩٢ عندما كنتُ التقي بالعظم دوريّاً في واشنطن، عندما كان زميل أبحاث في معهد «ويلسن» (وكان أحياناً ينتدبني كي أمثّله عندما يكون مريضاً) امتعض سعيد من تلك العلاقة. وعندما طلب مني العظم أن أتوسّط مع سعيد من أجل عقد الصلح بينهما (وقال لي إنه «يتمنّى» أن يحدث ذلك) رفض سعيد بشدّة أي عرض للصلح بينهما. وكان يجب على إدة معرفة موقف سعيد من العظم حتى آخر أيامه.
ويعود برينان إلى خلاف سعيد مع صادق جلال العظم، لكنه ينقل فقط وجهة نظر العظم، لأن الشخص الآخر توفي. قال العظم لبرينان إن سعيد كتب له «رسالة لئيمة وخبيثة»، ويضيف أنها كانت مُخيفة في عدائيتها وغضبها. ليس هناك من أي شيء عنيف أو مخيف يمكن أن يصدر عن إدوار سعيد. ليس هناك ما هو أكثر لؤماً وخبثاً من اتهامات العظم (في مرحلته اليسارية) ضد كل المثقفين العرب الذين خالفوه الرأي بالعمالة للموساد والمخابرات الأميركيّة. يمكن العودة مثلاً إلى كتاب صادق جلال العظم «زيارة السادات وبؤس السلام العادل». والرسالة اللئيمة التي أتذكّرها بين الأطراف المعنيّين هي تلك التي كتبها اللبناني الصهيوني، فؤاد عجمي، لإدوار سعيد، في منتصف الثمانينيات، والتي قطع فيها العلاقة بينهما. والعظم، كما يذكِّر برينان في كتابه، اتهم سعيد بالعمل لصالح المخابرات الأميركيّة.

صادق جلال العظم

ويتطرّق برينان إلى ترجمة «الاستشراق» إلى العربيّة. والغريب أنه بالرغم من عدم معرفته بشؤون الشرق الأوسط وبلغاته، فإنه يُفتي بأن ترجمة كمال أبو ديب هي رديئة ـــ وهي بالفعل رديئة. ومرة في مؤتمر في جامعة «وندسور» في كندا عن أعمال إدوار سعيد (وهو حضره بالرغم من تقدّم مرضه) فقد قرأتُ على سعيد بعض مقاطع من ترجمة كمال أبو ديب كي أؤكد له أن الترجمة غير صالحة على الإطلاق، ووافق على ذلك في المقاطع التي أبرزتها له. الكتاب بحاجة إلى ترجمة جديدة، لكن بلغة تكون مفهومة للقارئ العادي ـــ وترجمة فواز طرابلسي لمذكرات سعيد هي ترجمة سلسة وأمينة. وسعيد كتب «الاستشراق» من دون تكلّف لغوي أو استعلاء نظري، بل هو جعل النص في متناول تلاميذ الجامعات، وهذا أحد أسباب نجاح الكتاب، واستعماله في صفوف مختلفة.
ويذكر برينان عرضاً أن سعيد، الذي تأثر كثيراً بكتاب جورج لوكاش «التاريخ والوعي الطبقي» (كان رفيقنا جورج جدع دائم التشديد على ضرورة قراءته في سنوات النضال المبكّر)، كان محبطاً من عدم وجود ترجمة عربيّة للكتاب. لكن هذا غير صحيح، وطبعاً برينان لا يمكنه أن يعلم ذلك. إن أول طبعة للكتاب ظهرت في بيروت في السبعينيّات من القرن الماضي. ويتطرّق برينان إلى صداقة سعيد مع الصحافي الأميركي اليساري، ألكسندر كوبرن، الذي فيما بعد أصدر مجلة «كونتر بنش» اليساريّة المتطرّفة. كان كوبرن يكتب في جريدة «فيليج فويس» الليبراليّة في نيويورك، وكانت مقالاته مغايرة للنمط السائد في التمنّع عن نقد الصهيونيّة وإسرائيل. ثم انتهت علاقته بالجريدة عندما قبل قرضاً بحثيّاً من مؤسسة قريبة من «جمعية خريجي الجامعات العربيّة-الأميركيّة»، والتي كان سعيد وثيق الصلة بها. لكن كوبرن كتب بعد ذلك في مجلة «ذا نيشن» اليسارية، وكان عموده مقروءاً، مثل عمود صديقه آنذاك—وصديق سعيد—كريستوفر هيتشنز. وخلافاً لهيتشنز الذي تحوّل نحو اليمين والرجعية (وهو ناصر حرب بوش في الشرق الأوسط) فإن كوبرن ثبت على مواقفه حتى وفاته المبكرة.
ويتطرّق برينان إلى دور سعيد خلال الحرب الباردة وقوله إن سعيد أعلن مرة أمام صديق له أنه حرص على عدم توجيه نقد علني للاتحاد السوفياتي في سنوات الحرب الباردة، لأن «السوفيات لم يفعلوا أي شيء لإيذائي، أو إيذائنا». لم يكن سعيد شيوعياً منتظماً، لكنه كان متعاطفاً مع الماركسيّة، مع أنه لم يكن يرى صوابية أو جدوى الماركسيّة خارج الغرب الذي وُلدت فيه. ويقول سعيد إنه لم يرَ ترجمة مقبولة للأدب الماركسي. لكن هذا غير صحيح، هناك ترجمات حديثة صدرت، كما أن «دار التقدم» السوفياتية التي أنعمت علينا بترجمات مجانيّة أو شبه مجانية للتراث الماركسي، لم تحتكر نشر الترجمات الماركسيّة (كانت ترجمات «دار التقدم» رديئة للغاية، وكنتُ أعتقد أنها ترجمات عربية عن ترجمات روسيّة). وقد نشر العفيف الأخضر في منتصف السبعينيّات ترجمة لـ»البيان الشيوعي»، وزها بأنها أول ترجمة غير مزّورة، لكنها كانت عن الفرنسيّة لا عن الألمانيّة. لكن هناك جهداً في إعادة ترجمات الآداب والعلوم: هناك ترجمة جديدة لكتاب «فينومينولوجيا الروح» لهيغل، الصادر عن المنظمة العربيّة للترجمة. والأدب الروسي لا يزال منشوراً بترجمات سامي الدروبي الذي اعتمد النص الفرنسي المترجم عن الروسية. لكن هل ان صعوبة انتشار الماركسية في العالم العربي كانت بسبب سوء الترجمة أم لأنه كانت هناك مشاكل ذاتيّة وموضوعيّة جمّة مثل: ١) ارتهان الشيوعية العربيّة للاتحاد السوفياتي حتى في موضوع تقسيم فلسطين. ٢) معارضة أهم مشروع وحدوي في العالم العربي المعاصر، أي «الجمهورية العربيّة المتحدة». ٣) الفساد والخلافات في صفوف الأحزاب الشيوعية وتخلّفها عن فهم مركزيّة القضيّة الفلسطينيّة. ٤) محاربة المعسكر الغربي والخليج لكل ظواهر الشيوعية والاشتراكية العربيّة. لقد عانى الشيوعيون العرب من محاربة وحشيّة من قبل أنظمة عربيّة متنوّعة الأيديولوجيّات. ٥) فاقم في مشاكل الشيوعية العربية أن ارتهانها الآلي لموسكو أدّى إلى انهيارها بالكامل بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. ٦) التحوّل الرهيب الذي أصاب قيادات الشيوعية العربية، وكان لكثيرين منها تاريخ في التحوّل من اليسار إلى اليمين. ترجمة الأدبيّات الماركسيّة لم تكن إلا مشكلة بسيطة بالمقارنة. والمفارقة أن العظم عابَ على سعيد أن ماركسيته كانت «تجميليّة» أو شكلية، فيما ان مشروع سعيد، بالمقارنة مع التحوّل الهائل الذي أصاب مسيرة العظم السياسية، كان مشروعاً راديكاليّا تزداد أهميته على مرّ السنين. سعيد مات على عقيدة مقارعة الامبريالية والصهيونيّة، فيما كان العظم في آخر سنواته من دعاة الحل السلمي للصراع مع إسرائيل، ومن مؤيّدي التدخل العسكري الغربي في سوريا. تقارن بين مسيرة الرجليْن، وبين إرثيهما، وتزداد اقتناعاً بأن سعيد ظُلم أيّما ظلم من قبل اليسار العربي—هذا من دون تبنّي كل مواقف الرجل، خصوصاً في مسألة التطبيع وخلافه.
(يتبع)
* كاتب عربي - حسابه على تويتر asadabukhalil@