بعد أكثر من ثلاث سنوات مرّت على انطلاقة شرارة الانتفاضة التونسية التي امتدت بعدها إلى بلدان كثيرة، فإن نظرة استعاديّة للحوادث العديدة والتحوّلات الكبيرة التي عصفت بمجتمعات المنطقة العربيّة خلال تلك الفترة قد تعطينا مجموعة من الدروس الأساسية التي يمكن الاستفادة منها في لحظتنا الراهنة، وفي بناء ما سيليها من لحظات.
برأيي إن الأكثر أساسيّة من تلك الدروس هو ما يلي:
الدرس الأول: الأنظمة ليست محلاً للتسويات أو التفاوض أو الإصلاح.
الأنظمة أشكال بنيوية مغلقة ذات ميكانزمات عمل محدّدة ومُتشكلة عضوياً مع نشوء وتطوّر النظام نفسه وارتباطه مع ماضيه الاستعماريّ من جهة، ومع محدّدات «الدول» التي صمّمها الاستعمار من جهة ثانية. النظام القائم على الطائفة أو العائلة أو العُصبة (وهو حال كل أنظمة المنطقة العربية) لا يمكن أن «يتحوّل» في سياقٍ نقيضٍ لتشكلّه التاريخيّ التطوّري، وإن كانت الطفرات مسؤولة بشكل عام عن تطوّر الأنواع البيولوجية في سياق لا واعٍ، إلا أن هذا النوع من التطوّر غير ممكن في سياق أنظمة واعية ترصد الطفرات الداخليّة وتصفّيها مباشرة للحفاظ على نفسها من دون تهديدات نوعيّة مستقبليّة. لهذا عملت الأنظمة على إنتاج مساحات داخلية مُفرغة بالكامل من السياسة والتنظيم، بل دمّرت إمكانات نشوء القوى السياسية من خلال تشجيع ورعاية الارتكاسات إلى العائلة والعشيرة والطائفة والدين والمنطقة والجهة والإثنية. تغيير رأس النظام لا يعني تغيير النظام. والتفاوض مع النظام أو التسوية معه ينطلق أولاً من اختلال كاسح للقوى لصالح النظام من جهة، ويطيل عمره ويعطيه شرعية تمثيلية مزورة من جهة ثانية. الخيار الوحيد مع الأنظمة هو الصراع الوجودي، وتتشابه المقاربة هنا مع المقاربة التي يجب تبنّيها مع «إسرائيل» كمشروع استعماري استيطاني.