لا يزال الحديثُ هنا عن كتابَين جديدَين صدرا في الغرب عن إدوار سعيد: كتاب لتلميذ سعيد، تموثي برينان، «أماكن في الفكر: حياة إدوار سعيد»، وقبله صدر في فرنسا كتاب دومينيك إده، «إدوار سعيد: فكره كرواية». والحملة على سعيد تتعاظم في صحافة النفط والغاز، وجريدة الصهيونية العربيّة الرسميّة، «الشرق الأوسط» (الناطقة باسم محمد بن سلمان) أفردت مقالة طويلة قبل أيّام للهجوم على سعيد ولتكرار زعم هاشم صالح بأن سعيد تراجع عن كتاب الاستشراق وأنه اعتذر عنه، وكاد أن يزعم أن سعيد وقف في حضرة محمد بن سلمان في بلاطه وأعلن ولاءه التام له. تستطيع أن تقرأ مواقف حقيقيّة ومزوّرة للأحياء والأموات، في صحف آل سعود. ومن المتوقّع أن تؤدّي حملة التحالف الخليجي الصريح مع إسرائيل إلى المزيد من التشنيع بسيرة سعيد وإرثه. الخطورة في إرث سعيد أنه وثّق للفصل المعرفي الغربي بين الشرق والغرب، وللعلاقة بين الاستعمار والحروب الغربيّة وبين الأكاديميا الغربيّة. ولم تزِد التطوّرات السياسيّة الأخيرة ملاحظات سعيد إلا ثقابة وصحّة وصوابيّة. الأنثروبولوجيا الأميركيّة ساهمت في خدمة الاحتلال الأميركي للعراق، كما أن بعض علماء النفس ساهموا في حفلات التعذيب الأميركية بعد ١١ أيلول. إن العلاقة بين المعرفة الغربيّة عن العرب وبين العداء لهم لم تكن يوماً منفصلة. وهذه الفكرة تتعارض مع محاولات الاستعمار الغربي الحالي في إيجاد صيغة مزيّفة من التعاون الإنساني العالمي الذي لا يخدم الإنسانيّة بقدر ما هو يحجب مكامن السيطرة الغربيّة على بلادنا بشعارات العولمة عن «القرية العالمية».
إدوار سعيد (عن الانترنت)

مشروع السيطرة الأميركيّة الكليّة على العالم (وليس هناك حالة سياسية يسري عليها صفة التوتاليتاريّة أكثر من الحالة الأميركية العالميّة في هذا القرن) يتطلّب إعادة تشكيل عناصر الهيمنة بكل أركانها، ولهذا الصحافة والثقافة بصورة عامة باتت من أولويات أميركا. محطة «الجزيرة» لم تتغيّر وتسير في الصراط الأميركي المستقيم إلا بعد أن باتت السفارة الأميركيّة في الدوحة تقدّم تقريراً دوريّاً للمدير العام لـ«الجزيرة» عن الاعتراضات الأميركيّة الصهيونيّة على كل برامجها ونشرات أخبارها (سمعتُ ذلك من مدير عام سابق للمحطة). وبات يسهل على الحكومات الأميركيّة السيطرة على الإعلام العربي لأنه في أغلبيته إما سعودي وإما إمارتي أو قطري ـــ وهذه سلالات مطيعة جداً للراعي الأميركي. والإعلام الجديد فرصة جديدة لدول الغرب للوصول إلى الجيل الجديد بحلّة تبدو عربيّة في الظاهر. ومكتب البروباغندا في وزارة الخارجيّة الأميركيّة (يسمونها رسميّاً «الدبلوماسية العامّة» ـــ تماماً على نسق كتاب «1984» لجورج أورويل الذي لا يجب أن ننسى رجعيّته) أعلن عن مناقصة تكنولوجية من أجل محاربة «المعلومات المزيّفة» على نطاق عالمي. والحكم على معلومة سياسية بأنها مزيّفة أو صحيحة هو حكم سياسي وليس علمياً. هل كان عام 1948 عام الاستقلال الإسرائيلي (الحقيقة الأميركية) أم عام النكبة (الحقيقة العربية قبل تلوّثها بإعلام النفط والغاز).
يتطرّق برينان إلى العلاقة بين الجبهة الشعبيّة وإدوار سعيد فيقول: إن محاولة سعيد ربط حركة التحرّر الفلسطيني بالثورات في العالم الثالث لاقت اعتراضاً وهجوماً من الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، وأنها (وهي التي «غازلها» سعيد ذات مرّة) أدانته لأنه بورجوازي، وأن سعيد قطع مع جورج حبش في عام 1988 لأن الأخير رفض الاعتراف بإسرائيل في المجلس الوطني الفلسطيني في عام 1988. ويضيف برينان أن الجبهة الشعبية انتقدت سعيد لأنه «مفرط في البورجوازيّة». طبعاً، المؤلف لا يقرأ العربيّة وهذه الخبرية ـــ مثل خبريّات أخرى ترد في الكتاب ـــ ينقلها عن أشخاص معادين للجبهة ولسعيد معاً (هي من المصداقيّة مثل نقل «ميغافون» لخبريّات سركيس نعّوم). هذه أخبار لا يُعتدّ بها وما كان يجب أن تُنشر أساساً. إن التعويض عن نقص معرفة الكاتب بالسياسة والثقافة والإعلام في العالم العربي لا يكون بنقل خبريّات من هنا ومن هناك بل في الحرص على عدم الركون إلى أيّ خبر ما لم يكن هناك مرجع أو مصدر له (للأمانة، أورد المؤلف الكثير من المراجع وهو جهد في بحثه لإتمام هذا الكتاب). لكن الكاتب أخطأ في تصويره للعلاقة بين سعيد وبين الجبهة الشعبية. لقد سألتُ الرفيق نوبار هوفسبيان عن ذلك وهو أكّد ما كنتُ أعرفه: لم تكن هناك أي علاقة أو عطف أو انجذاب من قِبل سعيد للجبهة الشعبيّة لأن سعيد كان، ومبكراً، من أنصار الحل السلمي. متى مالَ سعيد للجبهة الشعبية؟ في عام 1977 عندما طرحه أنور السادات رئيساً لحكومة فلسطينية في المنفى أم في سنوات كارتر عندما كان سعيد يفاوض أقطاب الإدارة للاستحصال على اعتراف بإسرائيل من قبل منظمة التحرير الفلسطينية؟ لا، كان سعيد أقرب إلى طرح الجبهة الديموقراطية التي كانت تطرح مبكراً القبول بالتفاوض بين الفلسطينيّين وبين «القوى الديموقراطية في إسرائيل» (وكانوا عندما تسألهم عن تلك «القوى الديموقراطيّة» يعطونك مثال منظمة «ماتزبن» التي كتبتُ عنها هنا قبل سنوات والتي لم تضمّ أكثر من أعضاء يُعدون على الأصابع). فيما بعد طلعت «فتح» و«الجبهة الديموقراطيّة» بأكذوبة «معسكر السلام» التي كانت كذبة احتاجها معسكر التسوية الفلسطيني لتسويغ التنازلات الجمّة التي أدّت إلى أوسلو. لكن موقف سعيد من التسوية ومن الجبهة الشعبيّة تغيّر كثيراً عبر السنوات بعد أن توصّل سعيد إلى نبذ التسويات والتنازلات الفلسطينيّة التي أدّت إلى أوسلو. لو أنسى لا أنسى خريف 1992 عندما حضر سعيد مناظرتي في مدينة نيويورك مع الصحافيّة جوديث ميلر (التي روّجت لأكذوبة أسلحة الدمار الشامل العراقيّة في «نيويورك تايمز»). وبعد المناظرة، مشينا على الجادة خارج المبنى وقال لي سعيد: بتعرف؟ أراني عبر السنوات أكثر قرباً من «جماعتك» في إشارة إلى الجبهة الشعبية وهدف تحرير كل فلسطين. هذا التطور في مسار موقف سعيد من التسوية لا يظهر في الكتاب (ربما لأن برينان أراد تدجين صورة سعيد، وجعله أكثر مقبولية للجمهور الغربي الليبرالي. وكما قلتُ للمؤلف في جلسة «مركز كامبردج»)، ولا يظهر في الكتاب اسم حسن نصر الله مرة واحدة لأن المؤلّف لم يُرِد أن يظهر هذا الجانب من شخصيّة سعيد الذي كان يؤيِّد (ويغتبط من دون إعلان لـ) الكفاح المسلّح عندما يكون موجّهاً لقوات الاحتلال الإسرائيلي. سعيد طلب وحظي بلقاء نصر الله بعد تحرير الجنوب. حكم برينان بالقاطع أن سعيد كان لا عنفياً بصورة مطلقة. هل هناك محاولة لرسم إرث سعيد السياسي بصورة لا تزعج الحاسية الليبرالبيّة الصهيونيّة في الغرب؟
وكتاب «الثقافة والإمبريالية» لسعيد أضاف كثيراً لإرث سعيد لأنه علّم أجيالاً جديدة علم التمحيص الأدبي في النصّ لانتشال العوامل العنصريّة في فكر الغرب، الليبرالي منه بصورة خاصّة. وكما يقول برينان، في الكتاب الجديد (الذي أراده سعيد مكملاً لـ «الاستشراق») سعيد «يعتبر الإمبريالية ليس امتداداً فقط لنظام قائم على سرقة الموارد وعلى فرض العمل، ولكن على دافع بدائي، أو شبق، للسيطرة والإخضاع العنصري الذي سبق الاستعمار». يقول سعيد في الكتاب عن الإمبريالية إنها «واجب مستدام وشبه ميتافيزيقي لحكم شعوب متدنيّة وخاضعة أو أقل تقدّماً». وملاحظات سعيد (من أوائل التسعينيات) جاءت لتتّسق مع ما شنّت أميركا من حروب إخضاع بعد 11 أيلول. وفي الكتاب يدعونا سعيد إلى تعدّي استبطان الاستعمار لنا فيقول: «ليس هناك أحد اليوم ممن هو شيء واحد فقط. تسميات مثل هندي أو امرأة أو مسلم أو أميركي ليسوا إلا نقاط انطلاق، يمكن لو تبعتها لبرهة فقط في مجال التجربة الفعلية أن تضعها جانباً بسرعة. الإمبريالية رصّت مزيج الثقافات والهويّات على نطاق عالمي. لكن أسوأ عطاياها، وأكثرها مفارقةً، هو في سماحها للشعوب بأن تؤمن أنها فقط، وبصورة أساسية وحصريّة، بيضاء أو سوداء أو غربية أو شرقيّة». وفي هذا يقوم سعيد بالتحذير من فصل معاكس للفصل المعرفي لفرضيّات الاستشراق الغربي، من قِبل شعوب العالم الثالث.
وفي كتاب «السلام ومعارضوه» يصل سعيد إلى رفض مبدأ حلّ الدولتَين، الذي ارتبط باسمه مبكراً وكان من أوائل طارحي المشروع بين المثقّفين العرب في الغرب، ما أسبغ عليه مقبوليّة عند أنور السادات. لكن طرح سعيد في «مجلّة نيويورك تايمز» في 10 يناير 1999 بعنوان «حل الدولة الواحدة» يعتمد على أطروحات وفرضيات غربيّة، أن التداخل بين «الشعبين» يجعل من «حل» الدولتَين استحالة، وأن النضال العربي في داخل فلسطين 1948 بات محصوراً بحق المساواة. لكن الاحتجاجات الأخيرة في فلسطين 1948 تدحض فكرة حدود المطالب الفلسطينيّة هناك. ويعترف سعيد أن إسرائيل هي التي فرضت استحالة حلّ الدولتين بسبب ممارسات الاستيطان في الضفة (وغزة أيضاً)، وأن الحكومة الأميركيّة بتساهلها شتّتت وشرذمت الشعب الفلسطيني. لكن برينان، لسبب ما، لا يستطيع أن يفكّر بسعيد من خارج الطائفة والدين الذي ولد فيه. ويقول برينان إن منطلق موقف سعيد من الدولة الواحدة ينبع من نفوره من دولة يهودية أو دولة إسلاميّة. لكن من يطرح دولة إسلاميّة؟ وهل احتلال فلسطين هو بسبب دولة فلسطينية ما؟ وكيف يمكن، في تناول القضيّة الفلسطينية وضع خطر الدولة اليهوديّة في موازاة الدولة الإسلاميّة (غير المطروحة أساساً، حتى من قِبل الحركات الإسلاميّة الناشطة في فلسطين).
جهَد تموثي برينان لجعل إدوار سعيد مقبولاً من الجمهور الليبرالي الغربي من دون الاكتراث للرجل الحقيقي الذي كان أكثر التصاقاً بالقضايا العربية مما يظهره الكتاب


ويتحدّث سعيد عن نشر مقالات سعيد بالعربيّة في جريدة خالد بن سلطان، «الحياة». لكن جهل برينان يصل به إلى وصف هذه الجريدة المنقرضة بأنها «جريدة على نطاق عربي بانتشار يبلغ المئتيْ ألف نسخة». هذه أرقام خياليّة عن تلك الجريدة. وأذكر أرقام الانتشار عندما كان جوزيف سماحة يعمل فيها، وهي أقلّ بكثير. وغير صحيح أن سعيد كان يكتب مقالاته أحياناً بالعربيّة. هو كتبها دائماً بالانكليزية.
ويرِد في الكتاب كثيراً اسم إسرائيل شاهاك، وهو أكاديمي إسرائيل نجا من المحرقة وشكّل لجنة للدفاع عن حقوق الإنسان في داخل الكيان. وكانت له مواقف شجاعة بالمقارنة مع عمل لجان الليبرالية في دولة العدو. وكان شاهاك منبوذاً من قبل صهاينة الكيان وصهاينة الغرب. وكان على صداقة ومراسلة مع سعيد. لكن في مراسلة مع إدوار سعيد يقول شاهاك ما يلي (عن كتاب لسعيد باسم «بعد السماء الأخيرة»): «لا أخفي عليك أن بعض جوانب الكتاب استفزّت اختلافي. لا أعني السياسة على الإطلاق. أعني أن الكتاب (وهو كتاب نثري لسعيد يرافق صوراً) شعريّ للغاية وغامض لذوقي، ومتأثّر كثيراً بالشعر الفلسطيني، الذي اعترف أنني أمقته بشدّة ـــ خلافاً للنثر الفلسطيني». ويسأل شاهاك عن سبب سهولة طرد الفلسطينيّين في عام 1948 ويجيب: «أحد الأسباب يمكن أن يكون شعراً فائضاً عن اللزوم خصوصاً شعراً لا يتضمن نقداً ذاتيّاً». لا ندري كيف أجابَ سعيد على رسالة صديقه شاهاك لأن برينان لا يذكر إلا رسالة شاهاك، لسعيد لكن من دون جواب الأخير. وبرينان اطّلع على كل أوراق سعيد الخاصّة التي جعلتها مريم، أرملة سعيد، بمتناول المؤلّف. لكن النفس الاستشراقي في رسالة شاهاك مقزّزة للغاية. كيف يمكن ربط الشعر الفلسطيني بأسباب النكبة في عام 1948. هل الشعر وتذوّق الشعر منع اللبنانيّين من الانتصار في حرب تمّوز مثلاً؟ ألم تكن أسباب الهزيمة ماديّة صرف؟ أي أن تسليح الصهاينة ودعمهم من قِبل الغرب، بالإضافة إلى تآمر كل الحكومات العربيّة، هو الذي أدّى إلى انتصارهم وليس غياب شعر النقد الذاتي عند العرب. وأن يسأل شاهاك (وهو ناجٍ من المحرقة النازية) عن سبب رحيل الفلسطينيّين ينمّ عن جهل بوحشيّة العصابات الصهيونيّة في فلسطين (وشاهاك خدم في جيش الاحتلال الإسرائيلي).
أما الحكم أن المثقّفين الفلسطينيّين استفظعوا حرص سعيد على ذكر معاناة اليهود في المحرقة، فهو قول مبالغ فيه ويعتمد على رسالة كتبها سعيد لواحد من أصدقائه. لقد تبلورت معرفة بالمحرقة في العالم العربي المعاصر. صحيح، هناك مَن لا يزال يشكّك بالمحرقة في العالم العربي، لكن هناك من لا يزال يشكّك بالمحرقة في دول الغرب، حتى في أميركا. وديبرا ليبستات، خبيرة المحرقة المعروفة، في كتابها «إنكار المحرقة»، تورد أرقاماً مذهلة عن استطلاعات في أميركا عن المحرقة ويرد فيها أن نحو خُمس الأميركيّين يقبلون بالتشكيك بالمحرقة، بصورة أو بأخرى. وأفكار التشكيك بالمحرقة انتشرت في إعلام العرب على مرّ العقود، لكن مراجع التشكيك كانت في غالبها مراجع غربيّة من منكري المحرقة. وإنكار المحرقة جهل وفظاعة إنسانيّة تكمن في إنكار حقيقة تاريخيّة عن معاناة كبرى. لكن ما يعترض عليه بعض المثقّفين الفلسطينيّين والعرب، هو الربط بين الوعي عن المحرقة وبين حق الشعب الفلسطيني في الحريّة. بعض المثقّفين العرب (لا أقول إن سعيد كان منهم بالضرورة) باتوا يجعلون من المعرفة العربيّة عن المحرقة شرطاً للحق الإنساني بالحريّة. أي أنّ على الفلسطيني، مثلاً، أن يدرس تاريخ المحرقة قبل أن يعترض على احتلال إسرائيل لوطنه. طبعاً، جميل أن يتمتّع المرء بمعرفة تاريخيّة عن معاناة تاريخيّة لشعوب أخرى، لكن ليس فرضاً على الفلسطيني أن يغرف في بحور المعرفة كي يكسب حقَّه في مقارعة المحتلّ. لم يُفرض على الشعب الفرنسي معرفة تاريخ ألمانيا كي يكسب حق مقاومة الاحتلال النازي، ولم يُفرض على الشعب الجزائري معرفة تاريخ فرنسا من أجل كسب حق تحرير الوطن من الاستعمار. والإصرار على مطالبة الشعب الفلسطيني بمعرفة تاريخ اليهود عبر التاريخ ـــ وهو تاريخ يتضمّن معاناة واضطهاداً وعذاباً، من دون شك ـــ يجعل من حقوق الشعب الفلسطيني حقوقاً مشروطة.
أما الاعتراض الآخر على سعيد، حسب رسالة لسعيد يستشهد بها برينان، فهو استفظاع موقف سعيد بالنسبة لجعل الساحة الأميركيّة الساحة الأولى للعمل الفلسطيني في العالم (وقد تلقّى سعيد تمويلاً لإنشاء «المركز الفلسطيني» وقد أداره صديقه، نوبار هوفسبيان، لكنه لم يعمّر بسبب قطع التمويل من قِبل شبكة عرفات). صحيح أن أميركا هي عصب الدعم الخارجي لإسرائيل، وأنها هي التي تضمن التفوّق العسكري الإسرائيلي ضد العرب. لكن هذا الربط بين تحرير فلسطين وأولويّة الساحة الأميركيّة ليس له من مُبرّر تاريخي في سياق الاستعمار. لم يرحل الاستعمار عن بلد بسبب الاحتجاج أو المظاهرات في داخل البلد المُستعمِر. جرت مظاهرات عارمة ضد حرب فيتنام في أميركا، لكن المحتل الأميركي انسحب لأنه هُزم وطُرد من قبل الفيت كونغ. لم تنسحب القوات الأميركيّة من أفغانستان مؤخراً بسبب أيّ مظاهرات هنا. على العكس، إن شهيّة القبول ببقاء الاحتلال الأميركي في العراق وأفغانستان لم تزَل خصبة في أوساط الرأي العام. كان يمكن للاحتلالَين أن يدوما لسنوات عديدة لكن الإدارات توصّلت إلى خلاصة استحالة النصر العسكري في البلدين. وحتى لو تمّ إقناع قطاع كبير في أميركا بحقوق الشعب الفلسطيني فهذا لا يُترجم تلقائياً بعكس السياسات الأميركيّة نحو إسرائيل. هاكم الحزب الديموقراطي الذي باتت قاعدته منقسمة حول الحلّ العادل، لكن قيادة الحزب لا تزال صلبة في موقفها الداعم لإسرائيل وعدوانها.
ويصل برينان إلى رمية حجر سعيد في بوابة فاطمة في الجنوب، والتي انتشرت في الإعلام العالمي. وهنا يجب التمييز بين عالمَين مختلفَين كان سعيد يتعامل معهما: العالم العربي الذي يألفه سياسيّاً ويتعاطف معه ويحسّ بقضاياه ويدافع عنها بقوّة في الغرب، والعالم الغربي الذي هو أقرب إليه جماليّاً ومعيشيّاً وأكاديميّاً. رمى سعيد الحجر من دون تردّد لأنه كان يتعامل مع الجمهور العربي الذي يحسّ معه بنفس أحاسيسه. لم يكن يظنّ أن الجمهور الغربي سيعلم بذلك، أو لم يتوقّع ردة الفعل. لكن هنا، كانت مرّة اصطدم فيها عالما سعيد: العالم الغربي والعربي. لكن سعيد اكترث كثيراً لمواقف الغرب الليبرالي وأثّر ذلك (وإن بدرجة أقل عبر السنوات) على حدّة مواقفه من القضايا العربيّة. هذا لا يقلّل من شجاعة سعيد في الدفاع عن فلسطين في الغرب، ما فرض على إدارة الجامعة تركيز زجاج خاص مضاد للرصاص في منزله، على ما أخبرني ذات مرّة. لكن سعيد لم يكن يريد أن يقطع مع الجمهور الغربي الذي جعل منه نجماً (أكاديمياً وإعلامياً) قبل أن يكون معروفاً من الجمهور العربي.
هذه سيرة ستصبح مرجعاً عن حياة سعيد وستمرّ سنوات قبل أن تصدر سيرة تتخطّاها في شمولية الطموح الروائي. استفاد برينان كثيراً من تسهيلات عائلة سعيد ومن فتح أوراقه الخاصة أمامه. والكتاب يشدّ القارئ لكن الشوائب فيه كبيرة وليست منصفة دائماً لسعيد، كما أراد المؤلّف حسب قوله. جهد برينان لجعل سعيد مقبولاً من الجمهور الليبرالي الغربي من دون الاكتراث لسعيد الحقيقي الذي كان أكثر التصاقاً بالقضاياً العربية مما يظهر هنا. ونشاطات سعيد في الجمعيات العربيّة هنا لا تبرز في السرد. هل كتابة سيرة سعيد تحتاج إلى عربي كي يكتبها أم إلى أيّ شخص بصرف النظر عن الإثنية لو كان مطلعاً على الثقافة والسياسة العربيّة، أم أنها تحتاج إلى حساسية غير استشراقية، وهذا بديهي في كتابة سيرة عن سعيد. هذه السيرة لا تخلو من النفس الاستشراقي، ومن حسن حظّ سعيد أنه لن يقرأها.
(تمّت)
* كاتب عربي - حسابه على تويتر asadabukhalil@