نحن الذين اعتدنا على حصول المعجزات في ساحة المواجهة التاريخية خلال الأربعين عاماً الماضية، نحتاج إلى التأمّل بواقعية، لأن المعجزة التاريخية حين تحصل عادةً، تكون في ظروف يائسة أو فاقدة للأفق والأمل، وبالتالي فإن التحولات التاريخية الكبرى التي واكبت حركات المقاومة وتوافقت معها خلال العقود الماضية لم تكن بفعل قدرة المقاومة حصراً، فلذلك نحتاج إلى أن نعرف حدود القوة الذاتية، وحدود القصور والنقص كذلك، لكي ندير توقّعاتنا تجاه أنفسنا بالشكل المناسب، وندرك أن عوامل الغيب كان لها دوماً المحل الأكثر أهمية من بين المتغيّرات المؤثّرة في تاريخنا القريب.
دان بيجار (الولايات المتحدة)

تحرّكت قوة المقاومة في أغلب الأحايين والفترات دون الكثير من الضجيج، نقلت عشرات الآلاف من المقاتلين نحو سوريا بصمت، ونقلت عتادها إلى هناك بصمت، وتواجدت في العمق في دير الزور لسنوات دون ضجيج، وطوّرت خبراتها وقدراتها دون نياشين ولا أوسمة، وشاركت بشكل حاسم في سحق 250 ألف تكفيري مع دعم من 80 دولة، فما علاقة هذا الصمت بحدود القوة ومدياتها؟ وهل هذا دليل امتداد القوة أو محدوديّتها؟
قبل سوريا، غطّت المقاومة بالصمت الكثير من بنيتها وحركتها، ذلك أن العدو كان يمتلك قدرة معلوماتية استخبارية وتكنولوجية هائلة، لكن في حرب سوريا كان العدو شبه عاجز استخبارياً، وتلقّى معلومات استخبارية من الدول الداعمة في حدود ما يتعلق بالاستخبارات العسكرية في العمليات الجارية، لكنّ المقاومة حافظت على تؤدتها رغم ذلك. جزء من ذاك التأنّي كان لأسباب تتعلق بأمن العمليات بطبيعة الحال، فحتى الدول لا تحرك جيوشها بشكل علني دوماً، وجزء آخر يبرر الصمت المطبق هو تخفيف إثارة البيئة المؤيدة للقوى التكفيرية على خلفيات سياسية أو مذهبية، فلم تخرج إلا بعض المشاهد البصرية بعد سنتين من انتهاء الحرب، فيما ظلت المشاهد التوثيقية للعمليات والتحركات المختلفة مخبوءة في أدراج الإعلام الحربي، وهي قيمة إعلامية وسياسية وردعية لا تُقدر بثمن.
حتى لو تم الإعلان عن الأرشيف السمعي البصري الضخم، فإنه لن يوضح الكثير من العناوين التي تحتاج إلى شرح وتبيين، ولا يكفي السرد البسيط إن لم يوضع في إطار منهجي، يظهر جوانب مهملة أو لم تتلقَّ التركيز الكافي نتيجة تفوق عناوين أخرى عليها في الجاذبية والاهتمام وسهولة التداول.

عمليات التكيّف
اضطرّت المقاومة للدخول في مراحل متتالية من المواجهة، تنقّلت في المجالات والساحات المختلفة، حرب تحرير، تبعها نشوء جبهة سياسية لعزل المقاومة في الداخل، ثم حرب عسكرية هدفت لسحق المقاومة، ثم حصار سياسي شامل ومحاولة تفكيك شبكة القيادة والسيطرة، ومن ثم حرب مذهبية شاملة نضجت بعد سنوات من التحريض واندلعت في سوريا ووصلت إلى الضاحية بتفجيراتها، وصولاً إلى الحصار الاقتصادي، وتخلّل كل تلك المراحل التأسيس لمشاريع المجتمع المدني لتفريغ ساحة الاستقطاب الخاصة بالمقاومة، المشروع الذي كلّف الأميركي عشرة مليارات دولار بحسب تصريح ديفيد هيل العام الماضي. يمكن أن ننظر إلى هذا التحول على أنه مسار تاريخي قسري حصل بفعل تطور المواجهة، وبالتالي فإن التكيّف مع التغير هو أمر تلقائي وطبيعي، لكن إذا نظرنا من الزاوية المؤسساتية وحركية المقاومة الداخلية، فإن الاستنتاجات ستكون مختلفة، فالتغيّر في طبيعة المواجهات يحتاج دوماً إلى تغيير في البنية، الهيكليات وتوزيع الموارد المالية والكادر البشري، وكذلك إلى تغيير في التركيز والاهتمامات، وهذه التحولات التي جرت، لم تكن استبدالية، بمعنى أن كل جبهة فُتِحَتْ لم تُلغِ التي سبقتها، بل كانت تتراكم التحديات وتتنوّع الساحات بشكل متزامن أمام المقاومة.
مضافاً إلى تنوّع مجالات المواجهة وتراكمها، ثمة عنصر إضافي، هو تعدد المجالات الجغرافية للجهد، فكل ساحة جغرافية إضافية فرضتها التحديات والمحاولات الأميركية لمحاصرة المقاومة من خارج البلاد، كانت تفرض برنامجَ عملٍ جديداً، يتعلق بمعرفة البلاد وظروفها وميادينها ومدنها وعشائرها وفصائلها وأحزابها وأفرادها، وخوض تجارب غير مسبوقة في أساليب قتالية جديدة وظروف جغرافية ومناخية متفاوتة، ومع قدرات وإرادة قتال مختلفة ومتنوعة، مع ثقافة اجتماعية وعسكرية متنوعة كذلك في الطرفين. كل ذلك، وهو جزء من المشهد ليس إلا، كان يجري في ظل بقاء الساحات الداخلية والخارجية، العسكرية والأمنية والاقتصادية والإعلامية، مفتوحة كمصادر للتهديد، وتحتاج بشكل دائم إلى الانتباه وتكريس موارد احتياطية.
التغيّرات والتبدّل في التحديات لم يجريا بشكل سلس في كثير من المحطات، بل كانا مبنيّيْنِ على أساس المباغتة ونية المفاجأة من قبل العدو، كانت تحولات واستدارات متعمّدة من قبل العدو، بهدف تركيعها تحت هول الصدمة في الحد الأقصى، أو بالحد الواقعي استنزافها. لذلك كانت عملية إعادة الهيكلة وبناء القدرات المناسبة مع الميدان الطارئ موضوعياً وجغرافياً، تحتاج إلى تركيز بنيوي كامل، وقد استطاعت المقاومة، كمؤسسة، أن تطور قدرتها على التعلم والتكيّف في الظروف الصعبة والحرجة.
لم يكن مُقدراً النجاح خلال هذا الانشغال الكثيف والمعمّق والشديد الاتساع، والذي لم يكن مدبّراً ومخططاً مسبقاً، وإنما قسراً تحت ضغط البرامج الأميركية المتبدلة دوماً، هذا التكيف الذي قامت به المقاومة بالسرعة المطلوبة والضرورية لمواجهة تهديدات وجودية، بفضل انغماسها كاملاً في الميدان، وبفضل استعدادها لتغيير البنى والحركة والكفاءات والكوادر والهيكليات، لأجل اللحاق بحركة العدو، الذي يعمل ضمن تحالفات دولية إلى جانب فاعلين غير دوليّين، وبأنساق مؤسساتية متوازية تشمل كل المجالات نظراً إلى توفر الموارد. وبالتالي، لو أن المقاومة انشغلت خلال المواجهة الخارجية بشؤون الداخل، لما كان بإمكانها توفير القدرة للمواجهة الوجودية، وهي انتصرت أصلاً رغم التركيز الكامل، بصعوبة وبتضحيات هائلة.

القوّة في الداخل
الموارد لها شأن خاص يتعلق بمجالات المنافسة والمقارنة مع العدو، فلدينا المواجهة مع العدو في نقطة ضعفه، العنصر البشري كما في حالة كيان الاحتلال، أو تفكّك البنية السياسية والثقافية للمعسكر المعادي كما في حالة التكفيريين. انتصرت المقاومة في تلك المعارك ليس لأنها تمتلك موارد ضخمة، فمواردها بالمقارنة مع العدو محدودة، بل انتصرت لأنها استهدفت العدو في نقطة ضعفه.
على صعيد الداخل، تمتلك المقاومة بالمقارنة تفوقاً عسكرياً كبيراً، لكنها لا تملك التفوق الاقتصادي، ولذلك تعاني من هذا الجانب، وسنعالجه بالتحليل، ويبقى استخدام تفوقها العسكري لتعديل النظام السياسي عرضة للخطر، حيث يمكن أن يشكل فرصة للعدو الخارجي للتدخل، سواءً لناحية مشروعية ومقبولية تدخله من جزء من الشعب اللبناني والجغرافيا اللبنانية، وكذلك من الأطراف الإقليمية والدولية المختلفة، أو لناحية جدوى وفعالية ذلك التدخل حيث تكون المقاومة مستنزفة في الاشتباك الداخلي، وبالتالي يسهل استهدافها وتعريضها لمخاطر وجودية.
عملياً، قوة المقاومة الضخمة بالمقارنة مع الآخرين في الداخل، هي قوة قابلة للتبدد في حال تفعيلها، خصوصاً إن استخدمت ابتداءً ومبادرةً، في حالة هجومية، بحيث تفقد مشروعيتها في نظر الكثيرين، ويتم تحميل تلك المبادرة صفات مذهبية وحزبية ودينية ومناطقية وغيرها، كما أنها ستقع تحت الاتهام بأنها سبب الاقتتال وسيل الدماء، ما يتيح الساحة الداخلية لكل أشكال التدخل الخارجي من كل المستويات. بالتأكيد، لا يعني ذلك الجمود المطلق في الداخل، الذي لا يمنع ذلك بشكل نهائي من استخدام القوة، فهناك خطوط حمراء كتلك التي تمّ تخطيها عام 2008، ففي الحالة الدفاعية تنال الحركة الحاسمة مشروعية نسبية ومقبولة بحسب درجة العدوان وتبعاً لدرجة تكافؤ الرد.

تحضير الجبهة الداخلية
البنية اللبنانية الضعيفة، هذه الأرض الطينية الرخوة، تتحول إلى رمال متحركة مع خطر الغرق حين تتعرض للحصار الاقتصادي، ذلك أن ارتباطها العضوي الرئوي بالخارج، يجعل منها حالة شديدة الهشاشة، فحين يتم رفع أنبوب الأوكسيجين عن أنفها، ستموت بالتأكيد. وبالتالي فإن الأرض التي كانت صلبة في يوم من الأيام، واستندت المقاومة إليها حين القيام بكل المهامّ التاريخية/الوجودية، تتفتّت الآن وتتحول إلى صلصال رائب وتصبح سبباً لمخاطر الانزلاق الشديد.
خلال عبور المقاومة هذه المسافة القاسية والوعرة والطويلة والمتقلّبة من التحديات، كان الفساد والفاسدون يتحركون في الداخل، إلى حدّ يميل الباحث إلى فضول السؤال: هل كان إشغال المقاومة في الحروب متوازياً مع التحضير للخراب الداخلي كخطة بديلة؟ وعموماً، ففي أي ظرف اقتصادي سيّئ، سيشكل الفاسدون جزءاً من الأزمة، حيث يزداد خوفهم ونهمهم في آن واحد.
الفساد نفسه كان يحاصر المقاومة في الداخل، لم يكن ينتظرها لتفرغ من تحدياتها الوجودية والدفاعية، بل كان يعمل ليلَ نهارَ، وبتمويل من الأميركي وتوجيه منه، وبغرف عمليات مشتركة، وبشكل أساسي منذ عام 2005 وحتى عام 2018، عبر الأحزاب، وبعد الانتخابات النيابية الأخيرة عبر المنظمات المدولرة، كفساد يرتشي من منظومة الهيمنة مقابل وعود ومشاريع. اشتغلت منظومات الفساد المختلفة في المجال الاقتصادي أولاً، مانعة أي استثمارات «شرقية» في البنى التحتية، واشتغلت إعلامياً بحرب شعواء متواصلة ضد المقاومة ليلَ نهارَ طوال ما يقرب من عقدين كاملين، مدعومة بإعلام عربي ودولي، واشتغلت على بيئة المقاومة لتفكيك قناعاتها وتغيير أولوياتها وثقتها الاجتماعية، واشتغلت على العلاقات السياسية الداخلية للمقاومة في كل الاتجاهات لتمزيقها وتفكيكها. البعض يسأل لماذا سكتت المقاومة على الفساد، والسؤال الحقيقي هو، كيف استطاعت المقاومة أن تحمي نفسها من كل هذه العدوانية في الداخل، وهي تحارب في الخارج، لقد كانت في تموضع دفاعي واضح، لم يتغير إلا نسبياً بعد 17 تشرين 2019، حيث بدأت الأحزاب الفاسدة بالقلق والتراجع، تاركة بعض المساحة للمنظمات المدولرة، وفي أحيان عدة بدأت تظهر نفسها في صورة تلك المنظمات.

الفساد جوهر النظام
دخلت المقاومة مرحلة مواجهة الفساد مع الانتخابات عام 2018، هي مرحلة تكيّف كبير، إنها مواجهة خارج المألوف بالنسبة إليها، وهي تشبه في عقباتها وعسرتها مرحلة انطلاقة المقاومة عام 1982، محاور التقدم غير مكتشفة، الأدوات والخبرات لا تزال في بداية تجربتها، الخصم المستهدف واثق من نفسه، متكتّل ويعرف مواطئ أقدامه ولديه الأدوات والسياسات والخبرات والتحالفات الكافية، متحصن بقوة وبشدة في نقاطه، الأمل بإسقاطه محدود بل شبه معدوم.
عمق المشكلة في لبنان هو أن الفساد ليس حالة سلبية عارضة على النظام، بل الفساد هو جوهر النظام، حيث يعاني بلدنا من فقدان السلطة المعنوية والقانونية وهذه هي العقدة المركزية، فالمؤسسات الرسمية تملك قوانين أخرى خفية غير مكتوبة، ولذلك التغيير يحتاج إلى إحلال قانون معلن ورسمي وقابل للتقييم والتطوير، وهذا غير ممكن بدون امتلاك السلطة والتحكم لإعادة تركيب النظام بجوهر غير فاسد، فينبغي تغيير الجوهر وليس إزالة عارض سلبي جزئي أو جانبي.
مراحل انطلاقة المقاومة الأولى تعرّضت إلى انتكاسات، مثل مرحلة القبضة الحديدية، وفي نقاط وتحديات ومجالات مختلفة، وكذلك هذه المرحلة، من الطبيعي أن تكون القدرة والفعّالية محدودتيْن، خصوصاً مع وجود تدخل دولي هائل في هذه المواجهة، يهدف تحديداً إلى تحويل الاتجاه من مواجهة الفساد إلى مواجهة المقاومة. في الجانب العسكري استطاعت المقاومة بسط السيطرة على الأرض بفعل استخدام قوتَي السلاح والتضحية، والجغرافيا التي هي مورد مركزي للأمن كانت المدخل لتحقيق التحول. في الجانب الاقتصادي لم تستطع المقاومة التحكم بالدولة، للقيام بتغيير جوهرها، وبالتالي تغيير الحالة المزرية للنظام، فهي لجأت إلى حرب الاستنزاف الطويل، ذلك أن الحسم غير متيسّر في هذا النوع من الحروب في ظروف مماثلة.
العدو من جهته، الإسرائيلي ومن خلفه الأميركي، وبالمؤازرة الكافية من وكلائه من الفاسدين في الداخل، يعمل بكل قوة وفعّالية لمنع نيل المقاومة وسام الإصلاح، بعد أن نالت أوسمة التحرير والردع والدفاع، ويشتغل كذلك على استغلال الخراب الحاصل لعله ينجح في تحميل مسؤوليته للمقاومة بطريقة أو بأخرى، ولذلك يتحرك بشكل حثيث لمنع المقاومة من تحقيق أي إنجاز في أي مجال، وبأي تكلفة وبأي طريقة ممكنة، وهو في الأساس عندما قرّر ذلك، كان قد قرر التضحية بجزء من حلفائه في لبنان، كخسائر جانبية في هذه المعركة، ما يظهر مدى إصراره وإلحاحه في هذه المعركة.
مع الوقت تستطيع المقاومة التكيّف والتعرّف إلى السبل والتسابق مع الزمن ومع الخصم لكي تحقق النتائج، ولن تكون بالتأكيد طريقاً سهلة، فهناك حرب أدمغة في هذا الميدان كذلك، هناك فعل ورد فعل مقابل، وهناك سعي متواصل لاستهداف نقطة محددة، تشكل «عقب أخيل» في التصنيف الأميركي، هي مصداقية المقاومة، يريد لها أن تقول ولا تفعل، وهذه معركة متواصلة، ينتصر فيها الأكثر صبراً، وأحياناً ينتصر فيها المنهوب عن طريق المواجهة الحاسمة مع التدخل الخارجي.
الوقت ليس في مصلحة المقاومة، ذلك أن الأميركي هنا يمتلك الأدوات الحاسمة والمؤثرة بشكل كبير نتيجة توفر القابلية وهي فساد النظام في جوهره، وهو يحاول الوصول إلى النتيجة في المعركة قبل نجاح المقاومة في التكيّف، هي جولة جديدة وتتطلب تكيّفاً مختلفاً، وستكون الجراحات كثيرة ومتنوّعة في هذه المرحلة. يبقى أن النظرة الواقعية والدقيقة إلى القدرات، وتحديد مساحة الممكن بشكل منسجم مع المسارات الجارية والتحولات المرتقبة، يحافظ على التوقعات والانتظارات في حالة من الوعي الفعّال، فالمقاومة وحتى أواخر أشهر الاحتلال عام 2000 لم تكن تتوقع ذلك الانسحاب المرير، وهذا يعني أن قتامة المشهد لا تعني استحالة التغيّر والانقلاب في الصورة.
* باحث لبناني