«الحرب امتداد للسياسية، وإن بوسائل أخرى» (كارل فون كلاوزفيتز). مقولة تُعبّر عن جوهر الحروب التي كان ضحيتها ووقودها على الدوام المضطهدون من الفقراء والمهمشين، فيما أمراؤها يحصدون انتصارات صنعتها شعوب لا تدرك في كثير من الأحيان الدوافع الحقيقية لصانعي الحروب، التي تتكشّف أهدافها ومآلاتها النهائية في أغلب الأحيان، عن مزيد من الاضطهاد والتمزق. فهل نحن في سوريا أمام لوحة مشابهة؟
أم أن الحرب فيها تحولت إلى مدخل يحدّد من خلاله القادة والأمراء ومن هم خارج الحدود، مصير سوريا والسوريين، بعيداً عن أي ضوابط أو معايير أخلاقية؟ لأن السياسية من وجهة نظر هؤلاء، لا تجتمع في حقل واحد مع الأخلاق، إلا من أجل تلميع صورة حروبهم القذرة!
إن الحرب السورية لا تعدو كونها ممارسة قهرية وتدميرية، تتحكم في مجرياتها وتديرها من الخارج قوى دولية تعمل على إعادة رسم مناطق النفوذ، والقضاء على إمكان التغيير الوطني الديمقراطي الذي يمكن أن يفتح سوريا على الحرية والتحرر. لكن ثمة مفارقة تجمع بعض السوريين الذين يرون في العنف مدخلاً إلى تحقيق أهدافهم التي يدّعون أنها تمثّل الشعب السوري، مع أطراف دولية وإقليمية داعمة لهذا التوجه. هذا التقاطع يتموضع ظاهرياً، في حقل الأهداف التي يطمح إلى تحقيقها الشعب السوري، أي الحرية والديمقراطية والكرامة. لكن تحقيقها، يحمل معاني وغايات متباينة ومتناقضة تبعاً للأطراف والآليات والأدوات الحاملة لهذه الأهداف.
غالبية السوريين
تؤيد إنهاء الصراع والعودة إلى العقلانية التي تم قهرها واستبعادها
إن آليات اشتغال السوريين الذين حملوا السلاح لتحقيق تلك الأهداف وغيرها تتقاطع مع مصالح وآليات الدول الداعمة والممولة للصراع الدائر في سوريا وعليها. هذه الدول وتحت يافطة الشعارات «الثورية» ذاتها، تشتغل على تهديم كيان الدولة السورية واستباحة أسواقها وتفتيت النسيج الاجتماعي وإخراج الجيش العربي السوري من المعادلة الإقليمية. وفيما تتقاطع مصالح حملة السلاح، فإن أهدافهم السياسية العابرة للحدود والجغرافية والهوية، تزداد تناقضاً، وتهدد في أشكال تجلياتها ومضمونها وآلياتها حاضر سوريا ومستقبلها. وإذا سلّمنا مع المستيقظين متأخراً، أن حل الأزمة السورية وتجاوز تناقضاتها يكمن في الحقل السياسي، فهذا يعني أن خيار العسكرة، سواء كان خياراً مستقلاً أو نتيجة ضغوط دولية وإقليمية أو غير ذلك، كان كارثة وطنية على المستويات والأشكال كافة. إضافة إلى ذلك فإننا نرى أيضاً، أن إدخال السوريين في دوامة صراع متعدد الأبعاد والمستويات، لم يكن نتيجة سياسات خاطئة، أو غير مدروسة من قبل الأطراف الدولية والإقليمية ذات الصلة بالصراع، أو تحوّل فرضته سياسات النظام فقط، بل كان تعبيراً عن مصالح هذه الأطراف مجتمعة. وكان المدخل إلى تحقيق هذه المصالح هو تحميل الحرب على شعارات وأهداف يدّعي كل طرف من الأطراف المتصارعة أنها تمثّل إرادة السوريين. لكن الأنكى، أن بعض الأطراف ترى في إسقاط النظام المدخل الوحيد إلى إنجاز أهداف «الثورة»، وتدّعي تمثيل الشعب والمعارضة و«الثورة». فيما مآلات الحرب النهائية تتربع على هدف أساس هو إيقاف عجلة التغيير الوطني الديمقراطي السياسي السلمي، وتحويل السوريين إلى أشلاء ممزقة ومتناقضة على ركام وطن منهوب ومضيّع. من هذا المنظور، فإن الدول الداعمة للصراع ترفض فعلياً إيقاف الصراع حتى تحقق أهدافها في تهديم الدولة الكيانية وتحويلها إلى أنقاض تعلوها مجموعات متصارعة على جذر هويتها القبْلية.
لقد بات واضحاً أن لغة الحرب في سوريا فقدت أي علاقة لها بالجذر السياسي للحراك الشعبي. فأهدافها المخفية وحتى المعلنة تناقض آمال الشعب السوري وقواه السياسية الوطنية. فالمواطن السوري يدرك جيداً أن أهدافه السياسية والاجتماعية لن تحققها القوة العسكرية. كونها لا تعني بالنسبة إليه، إلا مزيد من دمار. وهذا يدلّ على أن المتضررين من الصراع يدركون جيداً، أن المدخل إلى حل سياسي يحدد من خلاله السوريين مستقبلهم بأنفسهم، يكمن في إيقاف القتال. لكن هذا لا ينطوي على إغفال ضرورة وأهمية تجفيف بؤر الجهاديين، أو مواجهة التدخل الخارجي. في هذه اللحظة فقط، يتحول شكل الصراع من صراع عنفي مدمّر، إلى عمل سياسي يؤسس لسوريا المستقبل. لكن هذا الخيار حتى اللحظة لا يعبّر عن إرادة ومصالح الأطراف المتصارعة والداعمة للصراع. فأطراف الصراع ما زالت ترى، أن أي حل سياسي يجب أن يكون محمولاً على القوة العسكرية. وهذا في نظر غالبية السوريين يعني تدمير العمق التكويني لبنية الإنسان السوري وكينونته الإنسانية، وكذلك البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، ويساهم في تحديد أشكال التفكير والممارسة السياسية. إضافة إلى ذلك فإنه سوف يفتح سوريا من بوابة الحريات التي يدّعى قادة الدول الرأسمالية التمسّك بها، على دمار شامل وعميق، ويحوّل سوريا والسوريين إلى رهينة ومطيّة لقوى دولية وإقليمية. وهذا لن ينتج إلا ديكتاتوريات أشد قمعاً وتخلفاً، وأكثر شهوة إلى القتل والتدمير المتعدد الأبعاد والمستويات. وأياً يكن شكل الانتصار، فإنه لن يكون إلا مدخلاً إلى تدمير الآخر، الآخر الذي سيكون مستهدفاً بذرائع سياسية إثنية عرقية طائفية قومية. وجميعها تساهم في تهديم التنوع وتكريس الانقسام والصراع العمودي، ليبقى الإنسان هو الخاسر الوحيد من هذا الصراع الذي حوّله إلى وقود وأدوات يتحكّم بها ويقودها تجار الحروب وأمراؤها الذين يجمعون بين الدين الإسلامي والجماعات الجهادية والحركات الإخوانية، في سياق الاشتغال على إجهاض أي تحوّل وطني ديمقراطي. من المؤسف أن يسهم بعض السوريين في رسم وتحديد وضبط مخارج هذا المصير، متجاهلين أو غير مدركين للأهداف والغايات التي تشتغل على تحقيقها مراكز صناعة وإدارة الحروب. وهذا يفتح المستقبل على أشكال ومستويات التناقض ومعانيه الاجتماعية كلها.
أياً تكن أسباب هذه الحرب وأهدافها: مؤامرة خارجية وإقليمية لإخراج سوريا من المعادلة الإقليمية وتأمين أمن إسرائيل وتحقيق مصالح أقطاب الصراع الدولية، أو حرباً تقودها أطراف دولية تدّعي الحرص على تحقيق أهداف السوريين في الحرية والكرامة، أو حرباً من أجل الانتقال بسوريا إلى كانتونات وإمارات إسلامية... الخ. فإن مآلات هذه المشاريع لن تكون إلا على أنقاض الدولة الكيانية وأشلاء شعب ممزق.
وفي ظل مناخ دولي، تسعى أطرافه الداعمة إلى التصعيد العسكري مع المحافظة على توازن القوة بين الأطراف المتصارعة لمنع أي من الأطراف من تحقيق انتصار عسكري شامل. يتساءل المواطن السوري، ماذا سيبقى من مقومات القوة لدولة المقاومة عندما تنهار الدولة ويتمزق الشعب؟! أو ماذا تعني الحرية والكرامة والديمقراطية عندما تنهار الدولة ويتمزق الشعب وتتقسم الجغرافية السياسية، في وقت تقود كتائب الموت العابرة للجنسية والقومية عنفاً وقهراً معمماً من أجل تأسيس دولة الخلافة الإسلامية؟! فيما الواقع الملموس يكشف عن ممارسات موغلة في التخلف والعنف. إن استمرار الصراع في سوريا وعليها يكشف عن خطورة المستقبل الذي من الممكن أن ينتهي إلى إنشاء إمارات دينية وكانتونات جهوية عرقية طائفية وقومية. بالتأكيد فإن هذا المستقبل يرفضه السوريون المتشبثون بوحدة وطنهم ووطنيتهم.
إن غالبية السوريين تؤيد إنهاء الصراع، والعودة إلى العقلانية التي تم قهرها واستبعادها. فالعقلانية التي تتراجع أمام أصوات السلاح تجب استعادتها إلى مقدمة المشهد السوري. وهذا لن يكون محمولاً على القوة العسكرية، كما يدّعي البعض. إن المنطق العقلاني الذي يتمسك به السوريون، يرفض استمرار الصراع، وكذلك يرفض ربط مصير السوريين ومصالحهم الحقيقية بنتائج الصراع، وميول المنتصر الذي لن يكون حاكماً فيما لو استمر التمسّك بمنطق القوة، إلا على الخراب والدمار وبقايا إنسان منهار ومدمّر. فالحرب الدائرة لن تكون من نتائجها حلولاً سياسية ديمقراطية، بل ستؤدي إلى إجهاض أي حل سياسي ديمقراطي. وأيضاً حولت كل مواطن سوري إلى قاتل أو مقتول. لأسباب مختلفة ومن قبل أطراف مختلفة ومتعددة. فأمراء الصراع وأتباعهم، لا يرون من الإنسان إلا هويته المذهبية والطائفية والعرقية... وكونه مصدراً للنهب. ما يعني أن يتم تغييب الهوية السياسية الوطنية، والدخول في حرب يكون فيها الكل ضد الكل، وهذا هو الجنون بعينه.
كذلك، فإن قادة الصراع وأمراءه، لا يرون غير ما يمليه عليهم قادتهم ومموليهم. فالسياسة التي يحمل لواءها هؤلاء هي العنف فقط. إنهم يقودون سياسة الحرب التي تتناقض أهدافها مع أحلام وطموح المواطن سوري، الذي ما زال يرى أن ما يجري هو تدمير ممنهج.
في النهاية فإن لغة وأهداف الحرب العمياء، لا تحمل إلا الدمار، والحقد الذي يقود إلى تمزيق النسيج الاجتماعي. بالضبط، هذه هي السياسة التي تحملها الحرب السورية، لا أكثر ولا أقل. فيما الواقع الملموس يدل على أن العقلانية السياسة، تتموضع في حقل آخر مختلف، وأدواتها ليست تلك التي يتم الترويج لها في غمار هذه الحرب. ومن هذا المنطلق، يرى السوريون، أن أولى المهمات التي يجب أن يتمسك بها الجميع، هي إيقاف الحرب المدمرة، والعودة إلى العقلانية السياسية، قبل أن تدمرها آليات الحرب. ففي العقلانية السياسية والسياسة العقلانية تكمن إمكانية تحقيق أهداف ومصالح الشعب السوري. وغير هذا لن يكون إلا الدمار. الدمار المحمول على الحرب ولغة الحرب وآلياتها وأدواتها التي حولت الإنسان إلى تجليات مشوهة ومُدمّرة.
ويبقى التساؤل الأهم يراود تفكير السوريين: إلى متى سيستمر الصراع الذي أفرغ سوريا من حضارتها وأهدر تاريخها وأراق دماء مواطنيها وغيّب الاستقرار فيها؟! لكن أغلب الظن أن الصراع في سوريا مفتوح على الزمن والمجهول؟! والخروج منه لن يتم إلا بعد إيقاف التمويل والدعم الخارجي وإيقاف تدفق المجاهدين، واقتناع السوريين بعبثيّته، وبألا إمكانية للعودة إلى ما كانت عليه سوريا قبل انطلاق أول تظاهرة سلمية. حينها فقط ستتولد احتمالات جديدة، لكنها بالتأكيد ستواجه سلسلة من التحديات.
فالمدخل إلى الحل بالنسبة إلى غالبية السوريين يكمن في تغليب مصلحة الوطن وتعميق أواصر الأخوة والمحبة بينهم، وتمكين التسويات السلمية كمدخل إلى حل سياسي شامل وعميق. قد يرفض البعض ما نقول، لكن بقليل من التروي والإحساس بالمسؤولية الوطنية والإنسانية والأخلاقية، سيكتشف هؤلاء أنّ هذا المدخل هو من الضرورة بمكان. لكنه يرتبط بضرورة إدراك أطراف الصراع وقف العنف الذي أغرق سوريا والسوريين ببحار من الدماء، وكذلك التخلّص من وهم النصر والهزيمة.
فأي انتصار هذا عندما تكون في كل عائلة مصيبة وذكرى أليمة وجرح غائر؟! وأي انتصار في ظل أزمة تهشّم التنوع وتشظِّي التآلف وتفكك النسيج الاجتماعي وتُضيّع التسامح؟! وأيّ انتصار سيكون في دولة مدمَّرة ومفككة وفاشلة ومجتمع نصفه يكره الآخر ويتمنى إزالته؟! إنها الحقيقة من دون وهم أو تنميق. فالمستفيد من الصراع في سوريا، دول أخرى، أما السوريون فهم الخاسرون الوحيدون. في وقت تتعفن فيه الأزمة السورية في سراديب مساومات وصراعات إقليمية ودولية.
* كاتب وباحث سوري