يتضح في سياق المقارنة بين بدايات الربيع السوري ومآلاته الراهنة، أن جملة من التناقضات والتغيّرات والتحولات والانعطافات المأزومة اكتنفت مساره. وجميعها عوامل ساهم في تمكينها: تركيز السلطة في مواجهة الحراك على الآليات والسياسات الأمنية. افتقاد الحراك المدني للرأس السياسي الموجه والمدبر. افتقاد القوى السياسية المعارضة إلى العقلانية والموضوعية السياسية. تفاقم الانقسامات العمودية، إضافة إلى تراجع تأثير العقل السياسي الموضوعي، والمحاكمة العقلانية الواقعية. ركوب غير نظام عربي وإقليمي موجة الحراك وتوظيفه لمصالح لا علاقة للحراك بها. تواطؤ دولي محمول على مصالح غربية. وقد شكلت العوامل السابقة مناخاً مناسباً لنشوء وتنامي التطرف والإرهاب الذي تحوّل إلى واقع يصعب تجاوزه. كذلك فإنها ساهمت في تحويل الأوضاع في سوريا إلى أزمة إقليمية ودولية تنذر بتداعيات خطيرة على دول المنطقة ومجتمعاتها، كما وضعت النظام العربي في سياق تناقضات وتحولات تنبئ بانهيار وتداعي أنظمة لم تخرج من كنف الرأسمالية التي يُعاد إنتاج هيمنتها عولمياً في سياق تناقض مصالح القوى الدولية المتصارعة بالوكالة والأصالة في سوريا، وبلدان أخرى مثل العراق واليمن وليبيا. وقد تفاقم تأثير التحولات المذكورة في سياق تراجع الحراك السلمي، وعلى أنقاض أهدافه الأساسية «الحرية، الكرامة والعدالة الاجتماعية». أما في ما يخص الأوضاع الاجتماعية، فقد وصلت نسبة البطالة العامة إلى 54,3%، تشكل بطالة الشباب منها نسبة 70%. أي أن 3,39 مليون شخص هم عاطلون من العمل، منهم 2,67 مليون فقدوا عملهم خلال الأزمة، وارتفع معدل الفقر المدقع إلى أكثر من 75%، بينما أكثر من 20% يعجزون عن تأمين الحد الأدنى من الغذاء للبقاء على قيد الحياة. ويتزامن ذلك مع استمرار ارتفاع سعر المواد الأساسية بسبب الصراع الذي ساهم بدوره في تفاقم ظاهرة الاحتكار، وهيمنة التجار على الأسواق ومفاصل القرار السياسية والاقتصادية، وأيضاً في ازدياد مستوى الفساد والإفساد. أما بالنسبة إلى المناطق المحاصرة فإن سكانها يعانون من فقدان مقومات الحياة الطبيعية كافة. وتكشف عن ذلك أوضاع سكان مضايا ودير الزور والفوعة وكفريا، إضافة إلى مناطق أخرى لم يسلط الضوء عليها بعد.
من جانب آخر، ما زالت التحوّلات السياسية المرتقبة رهينة مصالح أطراف تدير الصراع وتهمين على مجرياته. أما في ما يتعلق بنتائجها الأولية، فإن المعطيات المتوفرة تشير إلى إمكانية تشكيل حكومة مشتركة من النظام والمعارضة بجناحيها السياسي و«المعتدل»، مع استمرار القتال ضد «المجموعات الإرهابية». وباستثناء «داعش» و«النصرة»، لم يتم التوافق على من سيصنف ضمن تلك المجموعات. وفي حال لم تصل الجهات المعنية إلى توافق بهذا الخصوص، فإن الصراع سيبقى مفتوحاً على كثير من الاحتمالات، أما مصير الرئيس، لم يعد مطروحاً إلا للاستهلاك الإعلامي. هذا في وقت لم تزل عقدة المفاوضات الجوهرية، تكمن بالنسبة إلى المعارضة في «وقف تمويل الإرهابيين وتسليحهم وتدريبهم» و«إغلاق الحدود التركية مع سورية» يشكِّل المدخل الأساس لأي تسوية سياسية.
وللخروج من الدائرة المغلقة، والدوران حول الذات يحاول دي ميستورا أن يزامن بين المسارين السياسي والعسكري لكن استمرار القتال والاستعصاء السياسي المتزامن مع قرارات أممية لم تجد لها طريقاً إلى التطبيق حتى اللحظة.
وذلك يثير تساؤلات كثيرة منها: هل هناك رغبة للوصول إلى نظام سياسي جديد في سورية، أم أنه يتم العمل على إعادة إنتاج النظام بأشكال أخرى مختلفة؟ هل تشكلت حاجة دولية تفترض البدء بعملية سياسية لإنتاج حل عميق وشامل للأزمة السورية، أم إن الدول التي تعمل على إدارة الصراع لا ترى في المفاوضات المرتقبة أكثر من بالون اختبار، فيما هي تعمل خلف الكواليس على توضيب مشاريع أخرى تختلف بشكل كامل عما يروَّج له إعلامياً؟ تلك التساؤلات وغيرها كثير لم يجد لها السوريون إجابات مقنعة بعد.
أما السياق العام للتحولات الإقليمية والعربية فإنه يدل على أن الصراع سيستمر، وربما يشتد، وتتسع رقعته، ويتجلى ذلك من خلال ازدياد مستوى الاستقطاب الذي تشتغل على تمكينه بعض الأطراف عبر تشكيلها تحالفات تُعبِّر عن مصالح سياسية وعسكرية واقتصادية، وأخرى قومية وظيفية.
وصلت نسبة البطالة
إلى 54,3%، تمثّل نسبة الشباب منها 70%

فالسعودية مثلاً تميل في سياق تحرُّكها «خارج المظلة الأميركية» إلى تشكيل تحالف إقليمي لعزل إيران ومواجهة تمددها في العراق وسوريا واليمن. وبدأ ذلك يتجلى بوضوح بعد الإقرار الدولي ببقاء الأسد لأجل «مسمى رسمياً»، وهي ترى في ذلك خسارة لها في ساحات التنافس مع إيران. في السياق ذاته، فإن بعض القرائن تشير إلى أن واشنطن تعمل على ضبط الدور السعودي. ويتزامن ذلك مع ارتفاع مستوى التنسيق بين واشنطن ودول أوروبية أخرى من جهة، وإيران من جهة ثانية. وترى الرياض في ذلك تهديداً مباشراً لنفوذها الإقليمي، كونها تدرك أن علاقة الدول الغربية مع إيران يتجاوز حدود الملف النووي ومحاربة الإرهاب، والتسوية في سوريا، إلى فك عزلة إيران، وعودتها إلى المجتمع الدولي. ويحمل ذلك من وجهة نظرها تغيُّراً ملحوظاً في نظرة واشنطن إلى المنطقة، وإلى طبيعة علاقة واشنطن بها. فعلى مدار عقود منصرمة ارتكز التحالف السعودي ـ الأميركي إلى مقايضة النفط مقابل الأمن. لكن إبرام الاتفاق النووي مع إيران يمكن أن يساهم في تقليص التحالف الموصوف. وذلك يؤكد أن محافظة واشنطن على مصالحها لا يتعارض مع تخليها عن حلفائها في لحظات معينة، وأكثر من ذلك فإنه يُعبِّر عن أحد مرتكزات السياسية الأميركية. ويندرج في السياق المذكور، تخليها عن حسني مبارك وزين العابدين وعلي عبد الله صالح من دون أن يلغي ذلك وقوفها ضد مصالح الشعوب التي انتفضت ضد أنظمتها.
ومن الواضح أن محاولات الرياض لتبوُّؤ دور قيادي من خلال تشكيلها «تحالفاً سنياً»، لم يلقَ ترحيباً حقيقياً عند الدول الغربية، ولا حتى عند بعض الجوار الخليجي. وتدرك الرياض أن مساندة تركيا ومصر لها، إضافة إلى دول أخرى مختلفة لا يتجاوز حدود المجاملات، وفي أغلب الحالات، يتعلق بحاجات تلك الدول الاقتصادية. يقابل ذلك في المقلب الآخر اشتغال إيران على بناء «تحالف شيعي». وكلا التحالفين يتحمل مسؤولية تحويل بعض من دول المنطقة إلى ساحة صراعات طائفية ودينية ومذهبية. مع ذلك، فإن جوهر التناقض بينهما لا ينحصر في إطار الصراع بين السنة والشيعة لكن يتجاوزه إلى حسابات المصالح والهيمنة الإقليمية. أما في ما يتعلق بالتراجع السعودي الاقتصادي، والذي تجلى بإجراءات رفع الدعم كلياً أو جزئياً عن بعض السلع، وتقليص الإنفاق العام وفرض ضرائب جديدة، ورفع سعر حوامل الطاقة فإنه يرتبط بشكل مباشر بانخفاض سعر النفط وزيادة تكاليف مشاركتها في الصراع السوري وحربها في اليمن، وذلك ينطبق بأشكال وسويات مختلفة على إيران. وكلاهما يعتمد في سياساته الاقتصادية، وخصوصاً الرياض، على الموارد النفطية. ومن المؤكد أنّ ذلك سينعكس على الواردات السنوية لكلتا الدوليتين، وعلى استقرارهما الداخلي، وعلاقتهما مع شعوبهما.
أما في ما يتعلق بمستقبل مصر وتونس فإنه يتم الاشتغال على إعادة إنتاج النمط السياسي الذي كان سائداً قبل الربيع العربي، وإن بأشكال مختلفة، لكن على أرضية أزمة بنيوية يبدو أن حلها لم يزل مستعصياً. ويتعلق ذلك بهيمنة نمط اقتصادي وسياسي يعبِّر عن مصالح نخب سياسية واقتصادية مسيطرة لم تستطع قوى الربيع العربي الإطاحة بها. وفي ما يخص ليبيا فإنها كما يبدو ماضية إلى صراعات أكثر تخلفاً ودماراً، ويشير إلى ذلك اشتغال «داعش» بشكل خاص، وفصائل أخرى جهادية، على رفع وتيرة الصراع، والسيطرة على الموارد الوطنية، والمرافق الحيوية. أما اليمنيون فإنهم بعد تحوَّل بلدهم إلى ساحة صراع دولية، ذاهبون إلى مزيد من الدمار والتشظي. أما في سوريا فإن تداعيات الصراع فيها تنعكس على دول متعددة مثل العراق واليمن ولبنان وتركيا، والسعودية المهددة بالتقسيم. مع ذلك فإنها ما زالت حتى اللحظة تُشكِّل مدخلاً للاستقرار في المنطقة.
* كاتب وباحث سوري