ليس العالم في حقبة النظام العالمي الأحادي القطب الذي مركزه الولايات المتحدة الأميركية، كما أنه ليس في طريق العودة إلى النظام الثنائي القطب الذي يتمحور حول موسكو وواشنطن... بل نحن في حقبة النظام العالمي السعودي القطب! كدنا أن نصدّق هذا «الاكتشاف» لولا أنّ «الأسطرة» في أحد معانيها هي خروج على الشرط الانساني، فعملياتها ذات طبيعة فوق- بشرية، كما أنّ شخصياتها تمتلك صفات فوق انسانية أيضاً. على نحو دقيق نحن في حقبة أسطرة المملكة العربية السعودية بواقعها وإمكانياتها وقوتها وعلاقاتها وأشخاصها.تتجه «الأسطرة» بما هي خروج على الشرط الانساني نحو انتاج «تابو/ مقدّس» تتأتى قوته من وجوده بذاته، وبالتالي من معناه، وعلاقته بمن هم خارجه أو على مسافة منه. هذا المقدّس لا يمكنه الاستمرار إلّا بإنتاج نفسه على نحو متواصل وعلى مدار الوقت، ذلك لأنّ التوقف عن ذلك سيعني بداية انكشافه على الخارج، أي بداية عودته إلى البيئة المحكومة بالشروط الانسانية التي من ضمنها طبعاً مساحات الضعف ونقاط الارتخاء والترهّل المؤشرة على الاتجاه نحو عالم الموت. وعلى ذلك تنتج «الأسطرة» أوهامها وتسّور بها «المقدّس» وتحرسه وتحميه من خلال سيطرتها على من هم خارج الأسوار الذين يحدّقون به دائماً خشية تحركه تجاههم.
«إسرائيل» هي المثال على
الأسطرة السياسية حيث رسخت
في الخيال العام كقوة لا تقهر

«إسرائيل» هي مثال/ نموذج عن الأسطرة السياسية، حيث رسخت في الخيال العام كقوة لا تقهر، ليس فقط لكونها تمتلك جيشاً حديثاً، وليس لأنها تمتلك سلاحاً نووياً رادعاً ومدمّراً... بل لأنها تمكنت من انتاج صورة عن نفسها كقوة استثنائية خارج وَفوق الشروط السياسية المحيطة بها والعالم في آن. فـ«إسرائيل» ليست قوية في مكانها وحسب، بل موجودة ومهيمنة في مختلف بقاع الأرض دولاً ومجتمعات، فواشنطن نفسها لا يمكن أنّ تمارس عليها أي ضغط، بل في حالات التعارض بينها وتل أبيب لا بدّ أن تنصاع صاغرة، ذلك لأن البيئة السياسية الأميركية من يمينها إلى شمالها محكومة من قوة وحيدة تعود في مرجعيتها إلى «اسرائيل». وعلى هذا المنوال نرى قوة اسرائيل في فرنسا وبريطانيا واوروبا كلها. هكذا رسخت صورتها كقوة مطلقة ردحاً طويلاً من الزمن في تجلٍّ فائق الانتاجية للأسطرة السياسية، إلى أن تم تحطيم اسطورتها بانتصار المقاومة عام 2000 و2006، ومن ذلك الوقت تحاول بمختلف الوسائل إعادة ترميم صورة «التابو» التي انشطرت، من دون أن تتمكن من ذلك بفعل حضور المقاومة وقدرتها على صيانة وحراسة أهم مساحة استراتيجية اكتسبتها من خلال معاركها، وهي تحديداً «مساحات الضعف» العائدة للمشروع الاسرائيلي ودولته ومجتمعه.
المملكة العربية السعودية، بواقعها الراهن، مثال مستنسخ بكيفية خاصة عن النموذج الأصلي «اسرائيل»، فهي قوية ومدجّجة بأعتى وأحدث أنواع الأسلحة، وهي غنية بما لا يقاس عن جيرانها، وكأن مطابع الدولار ملكها. وهي تسيطر على الاعلام المرئي والمقروء والمسموع الناطق بالعربية، وهي ذات نظام اسطوري بقوة أركانه وأسراره وأهدافه تملي على دول العالم ما تشاء من باكستان إلى جيبوتي، ولا أحد يمكنه أن يجبرها على شيء... حتى واشنطن نفسها حاميتها وحارستها وحاكمتها!
في كلا المثالين يبدو الوهم كقناع ضروري لصورة «قوّة» اسطورية، وهو وهم يرتكز إلى انتاج منسوب من الخوف منهما لا يجب أن يتدنى بأية حالة من الأحوال عن الدرجة التي هو عليها. ولهذا السبب تقوم اسرائيل مثلاً باغتيال المقاوم/ الرمز سمير القنطار في شقة في مدينة جرمانا قرب دمشق، في عملية توحي بالقدرة الاسطورية المفقودة منذ عام 2006 من جهة، كما توحي باستمرار استراتيجية الحقد الأبدي الدائم الذي لا يرحم ولا ينسى ولا يغفر ولا يهادن. كما تقوم السعودية بإعدام الشيخ نمر النمر في عملية توحي بقدرتها على اقتراف ما هو ممنوع على غيرها، بعد أن كشف اليمن الفقير مساحات ضعفها، فانخفض منسوب الخوف منها بما هي «تابو» مكرس منذ تأسيسها بحد السيف.
نحن في الحقبة السعودية؟ نحن في النظام العالمي السعودي القطب؟
بلى، لولا أن الأسطرة، في معناها الأخير، تنتج وهماً!

*كاتب سوري