لا تزال مفاجآت الأزمة الأوكرانية الروسية المُتصاعدة تحتلّ صدارة الأخبار للشهر الثالث على التوالي، ولعل استمرار الأزمة بحدّ ذاته إلى اليوم هو أبرز تلك المفاجآت. فالتوقعات الأولية كانت تُشير إلى أنّ هذه الأزمة ستُحسم سريعاً ولن تتجاوز كونها زوبعة في فنجان. فقد توقّع مراقبونَ كُثر، كثير منهم عرب، حصول أحد سيناريوهين اثنين: (1) تراجع وانكفاء أوكرانيان أطلسيان أمام موسكو، من دون أيّ مواجهة، أو (2) مواجهة عسكرية سريعة تستغرق أياماً معدودةً على نَحو مشابه، لناحية الشكل والنتيجة، للأزمة الجورجية عام 2008.
الدافع لكلّ من هذين التحليلين هو الاعتماد على مكانة روسيا كقوة عظمى وعلى حالة الاستعدادِ للّجوء إلى الخيار العَسكريّ التي أظهرتها روسيا عندما وافق البرلمان الروسيّ «الدوما» وبسرعة على منح بوتين تفويضاً باستعمال القوّة في أوكرانيا، وطبعاً اعتماداً على ملامح العالم الجديد المتعدِّد الأقطاب الذي برزت ملامحُه خلالَ الأزمة السورية.
وهكذا عندما شرعت الولاياتُ المتّحدة والاتحاد الأوروبيّ بفرض سلسلة من العقوبات الاقتصاديّة كان الاعتقاد السائد أن هذه العقوبات لن تفتَّ في عضُدِ روسيا القادرةِ، إذا ما أرادت، شلّ الاقتصادات الأوروبيّة المعتمدة على النفط والغاز الروسيَّين. ولكنّ الأزمة استمرّت بالتصاعد، وتزايدت حزم العقوبات الاقتصاديّة الغربيّة وتكرّرت اعتداءات حكومة كييف على المؤيّدين للفيدراليّة، المؤيّدين لروسيا في أوكرانيا. ولم يحصل، حتى الآن، ما يشير إلى أنّ روسيا قادرة على إيقاف التدهور الحاصل. ولعلّ هذا ما دفع المحلّلين الغربيّين إلى القول بأنّ أزمة القرم قد تحوّلت إلى «ووترلو» لبوتين ولروسيا. هل روسيا عاجزة حقاً، اقتصاديّاً وعسكريّاً؟ وهل ستُحسم الأزمة الأوكرانيّة حقاً كما يشتهي الغرب؟ لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال من دون فهم أسبابِ التجرُّؤ الغربيّ، وفهمِ أسباب السلبيَة الروسية حتى اليوم، ومناقشة خيارات بوتين وحكومته للرد. لعلّ العاملَ الرئيسيّ الذي يؤخِّرُ ردّ الفعل الروسي هو أنّ جميعَ الخيارات المتاحة، حتى الآن، هي من نوع خيار شمشون. وشمشونُ في القصصِ الإنجيليّة هو رجلٌ ذو قوى خارقة، كان يعيش في جنوب فلسطينَ، وقعَ في أسرِ أعدائهِ، الذين قاموا بربطه إلى أعمدة معبدهم، الذي احتشدوا فيه محتفلين بأسرِ خصمهم الذي ما كان منه سوى أن جر العمودين الذين رُبطَ إليهما لينهار سقفُ المعبد عليه وعلى أعدائه، فكانت نهايتَه ونهايتَهم.

موسكو اليوم المدركةُ لمحدودية خياراتها ستلجأ غالباً إلى اجتراح خيار جديد

صحيح أنّ روسيا هي قوّة عسكريّة هائلة، تحتل المرتبة الثانية عالمياً، وتمتلك أسلحة دمار شامل مماثلة تقريباً لما هو موجود في ترسانة أسلحة الدمارِ الشاملِ الأميركيّة، ولكنّ الأزمة الحالية لا يمكنُ حلُّها من خلال التهديد بأسلحة الدمار الشامل، ولا يبدو أنّ كييف تخشى أساساً استخدامَ تلك الأسلحة ضدّها، ولذلك لا تزال تكرِّرُ إرسالَ قوّاتها إلى الأقاليمِ المطالبة بالانفصال وتحشد قواتها على الحدود الغربيّة لروسيا. وأيّ عمل عسكريّ روسيّ تقليديّ ضدّ أوكرانيا سيواجَه بالمزيد من العقوبات الاقتصادية التي أدّت حتى الآن، بحسب وزير الاقتصاد الروسي اليكسي أوليوكاييف، إلى انكماش الاقتصاد الروسيّ بنسبة 0.5% في نهاية الربع الأوّل من هذا العام. خيار الردّ الاقتصادي الروسي الذي يتبنَّاهُ ويؤمنُ به محلِّلون كثر، هو أيضاً خيار شمشون. فروسيا القادرة على شلّ الاقتصادات الأوروبيّة من خلال إيقاف واردات الطاقة، تعلم جيِّداً أنَّها ما إن تفعلْ ذلك حتّى تنتهي قيمة تلك الورقة الاستراتيجيّة إذ ستُضطر أوروبا للبحث عن مصادر بديلة – هي أغلى بطبيعة الحال ولكنَّها متوافرة – وستتمكّن أوروبا من التعافي وإيجاد حل ما خلال بضعة أشهر قبل حلول الشتاء الأوروبيّ القارس أو في أكثر السيناريوهات تشاؤماً قبل الشتاء التالي. كذلك يجب التنبه إلى أنّ النفط والغاز الروسيَّين يشكّلان فقط 33% و39% على التوالي من واردات البلدان الأوروبيّة، التي تعتمد أيضاً بنسب متفاوتة على هذه الواردات. ففي حين تشكلّ هذه الواردات ما نسبته 100% من واردات دولِ أوروبا الشرقية مثل إستونيا وليتوانيا وسلوفاكيا فإنها تنخفضُ كلّما اتجهنا غرباً لتصل إلى 49% في حالة النمسا و36% في حالة ألمانيا و16% فقط في حالة فرنسا. وفي كلّ الأحوال إنْ فعلت روسيا ذلك ستكون قد أصبحت أسيرة العقوبات الغربيّة ومن دون أوراق ضغطٍ اقتصاديٍّ تهدِّد بها. موسكو تدرك جيداً محدوديّة خياراتِها، خياراتِ شمشون، وهي تدرك جيّداً أنّ ما يحاول حلفُ الأطلسيّ فعله هو دفع موسكو إلى الخيار الوحيد الممكن نظرياً، وهو التدخّل العسكريّ المباشر في أوكرانيا والذي سيكون تدخّلاً بقدرات تقليديَّة وفي أقاليم محددة، وهي الأقاليم ذات الغالبيَّة الروسيَّة، وتكون نتيجته تورُّط روسيا في حرب ستكون غالباً حرباً طويلةً في أوكرانيا، التي ستحارب بالوكالة عن حلفِ الأطلسيّ وتتلقى الدعمَ العسكريّ والماليّ منه. الهدفُ الأطلسيُّ هو توريط روسيا في أزمة جديدة تعيق عمليّة النهوض الروسي. فروسيا حتّى اليوم ما تزال تضعُ الخططَ وتكرّسُ الموازنات لتطوير جيشها وقدراتها العسكريّة التقليديّة التي تمكِّنها من حسم الصراعات بسرعة وبخسائر محدودة، على نحو شبيه بالعمليّات العسكريَّة الأميركيّة. وللمقارنة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، بدأت الولاياتُ المتّحدة وبعض حلفائها حديثاً استخدامَ المقاتلة الجديدة «إف 35»، التي ستمثّل في الأعوام المقبلة العمودَ الفقريّ لسلاح الجوِّ الأميركي، والتي تصل كلفة الطائرة الواحدة منها إلى أكثر من مئة وخمسين مليون دولار، وقد خصّصت الولاياتُ المتّحدةُ لمشروع تطويرها واقتناء حوالى 3000 طائرة منها في السنوات المقبلة أكثر من 1.45 تريليون دولار. روسيا في المقابل لا تزال تستخدم الطائرات التي تمَّ تطويرها في مطلع الثمانينيات واستأنفت حديثاً العمل على بضعة مشاريع عسكريّة كانت قد توقَّفت مع سقوط الاتِّحاد السوفياتيّ منذ ربع قرن. تمثّل الأسلحة الحديثة ما نسبته 5 إلى 10% من ترسانة الجيش الروسيّ فيما يبقى العمود الفقريّ له هو معدَّاتٌ دخلت الخدمة منذ 30 عاماً. وهذه المعدّات لناحية النوع تشابه ما تملكه كييف ولا تتفوَّق موسكو عليها إلا بفارق الكم. دخول موسكو في حرب ضدّ كييف، يعني عمليّاً الانخراط في حرب لا تنفعُ فيها أسلحة الدمار الشامل؛ وسرعان ما ستتحوّل هذه الحرب إلى حرب استنزاف لروسيا ولجيشها إذ ستُضطرّ روسيا للدفع بقوَّاتٍ كبيرةٍ لغياب فارقٍ تقنيٍّ كبيرٍ يضمن حسمَ الحرب. وهذا ما سيؤدِّي ـ إضافةً إلى العقوبات الاقتصاديَّة الغربيَّة ـ إلى إعاقة المشاريع العسكريّة الروسيّة، وربّما تجميدها لسنوات. موسكو وبوتين مدركان طبعاً لمعضلة الخيارات الحاليّة وربّما تجلّى هذا الإدراك في تلكُّؤ بوتين في استخدام تفويضِ الدوما الروسيّ له بالتدخلّ عسكريّاً في أوكرانيا. هذا التلكّؤ الروسي هو أكثر ما يميّز السياسة الروسيّة منذ وصول بوتين إلى الحكم نهاية القرن الماضي، والتي تميزت بتجنُّب الوقوع في فخاخِ العمليات العسكريّة وتحويلها، أي العمليات العسكريّة، إلى وسيلة لتحقيق أهداف سياسيّة وذلك من خلال دمج الخيار العسكريّ مع الخيار الاستخباراتيّ والدبلوماسي. ولعلّ أبرز مثال على هذه السياسة هو ما فعلته موسكو بوتين في الشيشان عندما استخدمت الخيارَ العسكريّ مع خيار خلق حلفاء على الأرض ودعمهم سياسيّاً وعسكريّاً وماديّاً ما ساهم في إلحاقِ الهزيمة بالمعسكر الشيشانيّ المناوئ. موسكو اليوم المدركةُ لمحدودية خياراتها، والمدركةُ لما يحاول الأطلسيّ فعله، ستلجأ غالباً إلى اجتراح خيار جديد يعتمد، غالباً، على تقديم السلاحِ والدعمِ السياسيّ والماليّ للأوكرانيين المؤيِّدين للفيدراليّة، ولموسكو، من دون الانخراط مباشرة في الصراع داخل الأراضي الأوكرانيَّة – إلا في حال هاجمت القوّاتُ الأوكرانيَّة الحدود الروسيّة وهذا مستبعد. موسكو غالباً لا تسعى إلى حلٍّ سريع للأزمة. فهي ستحاولُ إطالة أمدِ الأزمةِ ليس فقط من أجل تقليل خسائرها وتجنّب تقديم تنازلات بل من أجل استثمارِ الأزمة وتحويلها إلى وسيلة للمطالبة بتخصيص موازناتٍ عسكريّة أكبر تساهم في حرقِ المراحلِ وتطوير قدرات الجيشِ الروسي. هذا التصوّر ليس سرّاً إذ كان نائب رئيسِ الوزراءِ الروسي ديمتري روجوزين، وهو في المناسبة رئيسُ اللجنة الصناعيّة العسكريّة الروسيّة، قد صرَّح بأنَّ الأزمة الحاليّة لن تسمح لأحد بالاعتراض على زيادة الإنفاق العسكريّ الروسي.
هكذا يمكن القول إنّ الأزمة الأوكرانيّة ستتحوّل غالباً إلى أزمة طويلة لأنَّ أطرافها جميعاً تريد ذلك فالأطلسيّ يحاولُ استنزافَ روسيا، وروسيا من ناحيتها أيضاً ستتجنَّب المواجهة المباشرة بسبب محدوديَّةِ الخيارات وستحاولُ استثمارَ الأزمة لإقناع شعبها بضرورةِ زيادة الإنفاقِ العسكري الروسيّ الذي يعادل فقط 12.2% من نظيره الأميركيّ و8% من نظيره الأطلسي.
* كاتب سوري