لا يزال الحديثُ هنا عن كتاب سليمان تقي الدين، «اليسار اللبناني وتجربة الحرب: منظمّة العمل الشيوعي (اللحمة والتفكّك)». وهو بحقّ من أهم الكتب التي نُشرت عن اليسار في الحرب (أدين لأطروحة نيت جورج عن تاريخ الحرب الأهليّة، والذي أعدّها في جامعة رايس في تكساس، لأنها عرّفتني إلى أهميّة الكتاب من زاوية تاريخ الحرب) ويذكّرنا تقيّ الدين بمرحلة جميلة من الأدب السياسي: كان هناك جهد حقيقي لصياغة شعارات سياسيّة رنّانة، لكن كانت كتابات الحائط تأتي مركزيّاً من المكتب السياسي (ويا ويل الرفاق الذين قرّروا ذات يوم ملء جدران بيروت بشعاراتٍ من قريحتهم لأن المركزية الديمقراطيّة في الحزب لم تكن تسمح بالعفويّة السياسيّة). وكان هناك كرّاسات تنشرها الأحزاب لنشر أفكارها بين الطلّاب. أما اليوم، فهناك شعارات تويتريّة والأحزاب التقليديّة لا تزال تجد صعوبة في التعامل معها. والأحزاب السياسيّة العريقة مثل الحزب الشيوعي اللبناني والحزب السوري القومي الاجتماعي تعبّر عن ارتباك ما في كتاباتها على المواقع. والتحرّك اليساري في زمن سليمان تقيّ الدين كان بالفعل عروبيّاً وأمميّاً. كان الناس يتظاهرون وبحماس شديد مناصرين ليس فقط لشعب فلسطين بل أيضاً لقضايا عربيّة مختلفة وللصراع الأممي. أين نحن من ذلك؟ كيف تقوقعت أحزاب اليسار في وطنيّة ضيّقة لم تكن أبداً منسجمة مع مسار اليسار في ذلك الحين؟ أذكر كم كنا ننفر من العلم اللبناني والنشيد في زماننا (أذكر أنني تشاجرت مع الذين دعوني قبل سنوات لإلقاء محاضرة في نادي التضامن في صور لأنني تبرّمت من وجود علم لبناني ومن عزف النشيد اللبناني).ويذكر تقيّ الدين الدور الكبير الذي لعبته الحركة الطلاّبيّة في اليسار. هذه حقبة لا تشبه ما تلاها. كان هناك ثورات وانتفاضات مستمرّة في الثانويّات التي كانت تحتضن الطبقات الشعبيّة: مثل الشياح ورمل الظريف وراس النبع. وكنتُ ألحظ الفروقات بين النشاط الطلابي في المدارس النخوبيّة الخاصّة وبين المدارس الرسميّة: الأخيرة كانت حبلى بالثورة وكان تلاميذها مستعدين لحمل السلاح والتضحية، فيما كان نشاط المدارس الخاصّة معزولاً ومحدوداً ومحصوراً تقريباً بحركة «فتح» لأنها لم تكن تتطلّب التضحيات أو «الخدمة الثوريّة» من مناصريها (أتكلّم عن فترة أواخر السبعينيّات وأوائل الثمانينيات التي عرفتها عن كثب). وخلافاً للفترة الحاليّة، كانت انتخابات الجامعات ـــ الخاصّة واللبنانيّة ـــ تحوز اهتمام الأحزاب والمنظمات اللبنانية والفلسطينيّة. روى لي لبناني (معروف) أنه فاز في انتخابات مجلس الطلبة في أوائل السبعينيات في الجامعة الأميركيّة في بيروت فاستدعاه أبو أياد في تلك الليلة وطلب منه بلطف التنحّي لأن المرحلة كانت تتطلّب فوز طالب فلسطيني، وقبل الطالب اللبناني بذلك وكان من أنصار «فتح». ويبدو أن السفارة الأميركيّة كانت هي أيضاً ترصد عن كثب انتخابات الجامعات وتشكيل مجلس الطلبة. هناك وثيقة أميركيّة جديدة للقاء مع وزير التربية في «حكومة الشباب» في عهد فرنجية وفيها يُطمئِن غسان تويني ـــ الوزير العصري، قيلَ عنه آنذاك ـــ موظّفي السفارة الأميركيّة أنه سيتدخّل في انتخابات الجامعة اللبنانيّة كي يمنع فوز اليسار (قال إنه سيدعم اليمين في «حركة الوعي»). وينسى البعض الإرث البغيض لحزب الكتائب. من يعلم أن حزب الكتائب (و«الأحرار» و«الكتلة الوطنيّة») حارب نشر العلم والمعرفة بين المسلمين؟ كانت الأحزاب الانعزاليّة تحارب إنشاء جامعة لبنانيّة، وكانت تخشى من نشر الوعي بين المسلمين (ثم يقولون لك اليوم إن جلّ همّ حزب الكتائب كان محاربة التوطين). وحتى الشهادات الثانوية والجامعيّة من الجامعات العربيّة لم تكن دولة لبنان تعترف بها. كانت هناك مظاهرات وتحرّكات من أجل قبول شهادة «التوجيهيّة». ويذكر تقي الدين من النضال الطلابي مطلب إلغاء فرض اللغة الأجنبيّة في الباكالوريا لأن تعليم اللغات الأجنبيّة في المدارس الرسمية كان ـــ ولا يزال ـــ ضعيفاً. وكانت هناك مطالب بتعريب التعليم الذي رفضته الدولة المُتفرنجة. وكانت هتافات الحركة الطلّابيّة مُعبرة عن المعاناة: «ما بدهن ابن الفقير، أنه يتعلّم ويصير، بدهم هو يبقى صغير، عبواب الأفندية» أو «قلنالن بدنا التعريب وثقافة وطنيّة، بيقولوا هيدا تخريب والدولة الأجنبيّة» (ص. ٦٤). (كانت الكتب الأجنبيّة المقرّرة في المدارس الخاصّة تحمل مضامين صهيونيّة، وكان زاهر الخطيب أوّل من فضح ذلك في خطاب في مجلس النواب قبل الحرب، وأشار إلى مدرسة «كوليج بروتستانت»).
ومسيرة منظمة العمل الشيوعي فريدة في تاريخنا: إذ هي جهدت كي تبرّر وجودها، إزاء الجبهة الديمقراطيّة لتحرير فلسطين في البداية، ثم إزاء الحزب الشيوعي اللبناني بعد أن اضمحلّت الفروقات السياسيّة بين التنظيميْن بعد اندلاع الحرب الأهليّة. وكانت مجلّة «الحريّة» مشتركة بين المنظمة والجبهة إلى أن نشب خلاف بينهما في ١٩٧٢ وأصدر الطرفان تقريراً أدانا فيه «مرض اليسارية الطفولي»، على قول لينين. وكانت الأحزاب الشيوعية التقليديّة تستعين بلينين دائماً لوصم النقد اليساري لأحزابها. وكان اليسار ينشغل بالنقد اليساري أكثر مما ينشغل بنقد اليمين أحياناً لأن شرذمة التنظيمات وانشقاقاتها تطلّبت تبريرات نظريّة لها (لينين في كتابه «الشيوعية اليساريّة: المرض الطفولي»، يخلصُ إلى القول إن اليمينيّة هي أخطر بكثير من مرض اليساريّة الطفولي). وكانت الجبهة والمنظمة في موقع نقد «التحريفيّة السوفياتيّة» (ص. ٧٢) وتثمين التجربة الصينيّة. لكن في ظروف ليست معروفة بعد (ليس عندي على الأقل) لم يطُل الأمر بالتنظيمات والأحزاب الشيوعيّة ـــ خصوصاً الفلسطينيّة ـــ حتى انضوت في معسكر الاتحاد السوفياتي على حساب موقف قطعي ضد التسوية مع العدوّ. كانت بداية الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين مشجّعة للغاية في البداية من ناحية انتهاج خط يساري ثوري مستقل عن الاتحاد السوفياتي. وكان تحوّل الجبهة بحلول ١٩٧٢ نحو الاتحاد السوفياتي مسؤولاً عن التخفيف من ثوريّتها وعن طرد وديع حداد من صفوفها. وفي التقرير المذكور أوضحت الجبهة الديمقراطيّة أنها بحاجة لتجنّب انتقاد الأنظمة في سوريا والعراق والجزائر بسبب مصالحها هناك. ووعت المنظمة أنها تواجه خطرا أكيداً في توالي الانشقاقات والانسحابات واتخذ المكتب السياسي قرارات «لوقف النقاش المفتوح وإلزام الأعضاء بالرضوخ للتوجّه السياسي الجديد» (ص. ٧٤). لكن عشرات من «القطاع العمالي» بادروا إلى الانشقاق ثم انتهوا ملتحقين بحركة «فتح». وكان عرفات شديد الترحيب ليس فقط بأعضاء جدد من تنظيمات أخرى بل بتشكيلات وأجنحة وانشقاقات بحالها. كانت «فتح» واسعة وغير أيديولوجية ـــ على طريقة عرفات ـــ إلى درجة أنها كانت تستحسن استيعاب اليمين واليسار معاً. وبدت منظمة العمل مرتبكة في التعاطي مع التطوّرات السياسيّة: إذ هي بدأت في عام ١٩٧٢ بالدعوة إلى مقاطعة الانتخابات النيابيّة ثم عادت وقررت المشاركة في دعم مرشحي القوى الوطنية والتقدميّة. كانت المنظمة في ذلك الحين تتلمّس طريقها. وكان وجود الأحزاب اليسارية مزعجاً لليسار التقليدي: كمال جنبلاط دعا من منبر مؤتمر الحزب الشيوعي اللبناني الثالث في عام ١٩٧٢ إلى «كنس الشلل اليساريّة» من ساحة العمل الوطني، فيما أعلن الحزب انتهاء ظاهرة «المغامرة اليساريّة» (ص. ٧٧). وفي عام ١٩٧٣ حصل محسن إبراهيم على تأييد الأكثريّة في اللجنة المركزيّة لفصل وضاح شرارة وعدد من أعضاء اللجنة المركزيّة بتهم الانقسام والتمرّد والمراجعة والارتداد. والتحقت المجموعة التي أصدرت وثيقة «المجموعة المستقلّة» بحركة «فتح» ويذكر تقي الدين من بين الذين انشقّوا رياض الددا ونواف سلام وتوفيق الهندي (والأخير أصبح قواتياً واتُّهم في التسعينات بالعمالة لإسرائيل).
يعدّل سليمان تقيّ الدين من نظريّة أن العمل الوطني انتهى عام ١٩٨٢، فيقول إن النهاية كانت عام ١٩٧٨ (حين فشل التصدّي لاجتياح «إسرائيل»). ووليد جنبلاط بدأ بحوار سرّي مع بشير الجميّل في عام ١٩٨٠ «بواسطة سمير فرنجيّة»


ويتحدّث تقي الدين بصراحة نادرة عن ظاهرة تهميش واستخدام الكوادر المسيحيّة في المنظمة لأهداف إعلاميّة. وتم إنشاء منظمة «المسيحيّين الديمقراطيّين» كأن المسيحيّين داخل الأحزاب اليساريّة شكّلوا ظاهرة هجينة أو غريبة وأنه من الضروري استغلالهم في الدعاية ضد الانعزاليّين. وأفرط المدعو ميشال غريّب (المعروف يومها بمحمد ميشال غريّب) في استعمال لافتة المسيحيّة ضد القوى الانعزاليّة ما رسّخ ربط القوى الوطنيّة بالإسلام.
وبعد عام ١٩٧٣، تحوّلت المنظمة إلى حزب شيوعي كلاسيكي وقلّ تباعدها عن الحزب الشيوعي اللبناني، في السياسة أقلّه. وبحلول عام ١٩٧٥، لم تكن المنظمة تعرف نظام التفرّغ الحزبي. وساعدت موارد من «فتح» ومن اليمن الجنوبي في تشكيل ميليشيا خاصّة بالمنظمة. والمنظمة، مثلها مثل كل الأحزاب الشيوعيّة في الحرب، عُرفت بانضباط مقاتليها وامتناعهم عن ارتكاب ما لحق بممارسات القتال المسلّح من موبقات في سنوات الحرب (من تشبيح إلى سرقة واعتداء وتحرّش واغتصاب). وحدها الأحزاب الشيوعية والحزب القومي التزموا بنظام صارم في المسلكية العسكريّة.
وبصراحة كليّة يتحدّث المؤلّف عن أثر التفرّغ الحزبي للقيادات في المنظمة (وإن كان كلامه يسري على أحزاب وتنظيمات يساريّة أخرى). أصبح محسن إبراهيم الأمين العام التنفيذي للحركة الوطنية (كان له أكبر مكتب في مبنى الحركة الوطنيّة في وطى المصيطبة، وأذكره من زيارتي له وأنا طالب في الجامعة). ثم يتكلّم تقي الدين عن المحظور: الانتفاع وغياب الشفافية. يقول: «كانت هناك مجموعة تربطها صلة الولاء بمحسن إبراهيم وأمسك من خلالها بمواقع المالية والإدارة والتسليح. بدأت عمليّة شراء السيارات للقيادة دون أن يكون أعضاء هذه القيادة معروفين… ثم انتقل محسن من منزله إلى منزل جديد يليق بصفة الأمين العام التي اكتسبها من خارج الترتيب التنظيمي ومن قبيل التقليد. ما أثار وشوشات ونقداً لم يكبح هذا المنحى الجديد» (ص. ٨٢). وكان موكب سيارات محسن إبراهيم أكبر بكثير من موكب الرئيس الأميركي الذي رأيته هنا. وكانت تصل إلى الأمناء العامّين مخصّصات كبيرة شهريّة من النظام الليبي، وكان بعض الأمناء العامّين يحتفظون بالمخصصات لأنفسهم. (هناك تنظيم يساري أعدم ممثّله في المجلس السياسي للحركة الوطنيّة لأنه اكتشف أن الأخير كان يحتفظ بمخصّصات الحزب من الحركة الوطنية كي يقبض فائدة عليها). وهذه الامتيازات والدفع المالي كانت من أسباب انهيار اليسار اللبناني: لم يكن حزب الله هو الذي قضى على اليسار. اليسار قضى على نفسه قبل أن يولد حزب الله .
ويعترف تقي الدين أن مشاركة اليسار في الحرب كانت متواضعة لأن الاتّكال على التنظيمات الفلسطينيّة كان أسهل، كما حدث في حرب الفنادق في ١٩٧٦. وتقي الدين على حق في أن الحركة الوطنيّة لم تكتفِ بالاتّكال على قوات منظمة التحرير بل هي اتّكلت أيضاً على النظام السوري، من ١٩٧٣ حتى الخلاف في ١٩٧٦. كانت تعوِّل على القوى الخارجيّة لتأديب القوى الانعزاليّة التي كانت حربها على اليسار من أهدافها المعلنة حتى قبل نشوب الحرب. وخلافاً لروايات نبتت بعد انطلاق حركة ١٤ آذار وتتجدّد على السنة الإعلام الثاو الثاوي الإمارتي، يوضح سليمان تقي الدين أن الحركة الوطنية ـــ واليسار بصورة خاصّة ـــ انهار من تلقاء نفسه وليس نتيجة مؤامرة خارجيّة، إسلامية أو سورية. يقول المؤلف إن الحركة الوطنية انكشفت على الحل الإقليمي وانهارت أمامه وتخبّطت منذ عام ١٩٧٦ «حتى تفكّكت الحركة الوطنيّة قبل الاجتياح الإسرائيلي عام ١٩٨٢ وتهمّش اليسار نهائيّاً منذ عام ١٩٨٧ وتوقّف نشاط «المقاومة الوطنيّة»، خصوصاً بعد عودة القوات السورية إلى بيروت ووضع يدها على الحياة السياسيّة» (ص. ٨٦).
ولا يظلم تقي الدين اليسار عندما يجزم أنه لم يكن يملك «المباردة في أية مواجهة عسكريّة أو سياسيّة». ويشمل هذا الجزم اليسار الثوري الذي هو بدوره رضخ لشروط التبريد والتجميد الذي فرضه ياسر عرفات على الجبهات المختلفة، خصوصاً في الجنوب. وكان تدفّق المال من منظمة التحرير على خزائن كل التنظيمات المنضوية في الحركة الوطنيّة يقلّل من الإمكانات الثوريّة لكلّ التنظيمات المتلقّية. حزب العمل الاشتراكي العربي - لبنان عُرف بـ«الثغرة» في جبهة الشياح - عين الرمّانة في ١٩٧٥، لكنه لم يُعِد الكرّة والتزم ـــ كما غيره ـــ بضوابط اللعبة. وينتقد تقي الدين، وعن حق، هذه التبعيّة من اليسار لكمال جنبلاط من دون رسم حدود لهذه العلاقة. ويتحمّل محسن إبراهيم وجورج حاوي المسؤوليّة عن رفع كمال جنبلاط إلى مرتبة القائد اليساري. وهذا الرفع أضعف من دورهما ومن دور كل تنظيمات اليسار. وتهمّش دور اليسار بعد التدخّل العسكري السوري في عام ١٩٧٦ وشكّل النظام السوري جبهة موالية له وبديلة عن الحركة الوطنيّة، عُرفت باسم «الجبهة القوميّة» (كان أمينها العام كمال شاتيلا).

وديع حداد (أرشيف)

ويذكّر تقي الدين أن كمال جنبلاط طرح نفسه قبل الحرب كمُنقذ النظام من الفوضى، وكالمسؤول القادر أكثر من غيره على مواجهة اليسار، كما حدث في تلك المواجهة الشهيرة في نيسان ١٩٦٩، عندما تظاهر وليد جنبلاط ضد سلطة أبيه. وطالب جنبلاط بتطبيق اتفاق القاهرة وملاحق «ملكارت» بعد ١٩٧٣، «وتشدَّد في الموقف من الفوضى الفلسطينية» (ص. ٨٩). وينتقد المؤلف عدم قدرة الحركة الوطنيّة على بلورة مشروع اقتصادي اجتماعي وذلك «لعدم المسّ ببعض مصالح فئات مثل ملاكي الأبنية والشقق أو التصدّي للمسألة الزراعية». ويكشف تقي الدين أن جنبلاط كان يعدّ لتسوية مع القوى الانعزاليّة (لماذا يقول تقي الدين «مع المسيحيّين»؟ ص. ٩٦) وأن ذلك كان عاملاً في اغتياله على يد النظام السوري. ويذكّرنا تقي الدين بفصل من فصول التدخل السوري وكيف ارتكبت القوات الكتائبيّة مجازر طائفيّة ضد الدروز في كفر سلوان وصليما وأرصون على مرأى من القوات السوريّة. ويؤكد تقي الدين أن النظام السوري قدّم الدعم للقوات الانعزالية في معاركها ضد المخيّمات الفلسطينيّة. (ص. ١١٤).
ويتطرّق تقي الدين وبصراحة إلى وضع فساد وظلم «سلطة الفلسطينيّين» في جنوب لبنان. لكنه يغفل أن العديد من اللبنانيّين كانوا في عداد المنظمات الفلسطينيّة وكانوا يقبضون مرتّبات منها لكن هؤلاء نسوا تاريخهم فيها بمجرّد أن انهارت المقاومة في صيف ١٩٨٢. لا شك أن سلطة المقاومة الفلسطينيّة في جنوب لبنان كانت تجربة فاشلة وفاسدة ومتسلّطة بكل المقاييس. وكان هناك إعلام رجعي ـــ كما اليوم ـــ يتصيّد الفرصة كي يؤلّب الرأي العام المحلّي لصالح العدوّ الإسرائيلي. وكانت هناك محاولات عديدة ومناشدات لياسر عرفات لتنظيم الوضع وضبط الحركات المسلّحة إلّا أنه لم يأبه لكل ذلك. أذكر أنني قبيل اجتياح ١٩٨٢ ناشدت مثقّفاً فلسطينيّاً معروفاً ـــ وكان يرى عرفات أسبوعيّاً ـــ أن يفاتحه في أمر الوضع في الجنوب. وكان المثقّف يماطل إلى أن ألححتُ عليه ووعدني خيراً. وعندما رأيته بعد أيّام سألته عن ذلك فقال: بمجرّد ما فاتحته بالأمر صاحَ وغضبَ وأقفلَ الموضوع. عرفات هذا كان القائد العام للثورة الفلسطينيّة. واليسار أصبح تابعاً للحركة الوطنيّة والحزب الشيوعي، فدفع ثمن أخطاء الطرفيْن. وخلافاً لمعظم السرديات المُستحدثة والمُغرضة عن تاريخ اليسار، يتطرّق تقي الدين إلى فصول الحرب بين حركة «أمل» وقوى الحركة الوطنيّة قبل ١٩٨٢. كل هذا التاريخ غاب لأن هناك أجندة لتحميل حزب الله (لم يكن موجوداً) مسؤوليّة الحرب على اليسار في حينه. وتقي الدين على حق في أن الصراع عكس «أزمة العمل الوطني» في بيروت والجنوب (ص. ١٣٩). وهناك فصل آخر من الحرب على الشيوعيّين: كيف تعرّض الشيوعيّون في الجبل لاعتداءات طائفيّة من قبل الجنبلاطيّين (ص. ١٥٧). وعن انكفاء المقاومة الشيوعية يقول تقي الدين: «خرجت منظمة العمل الشيوعي من العمل المقاوم نهائيّاً عام ١٩٨٥ واستمرّ الحزب الشيوعي حتى نهاية ١٩٨٩ عندما أدّت أزمته الداخليّة وصراعاته إلى انكفائه النهائي، وبذلك خسرت المقاومة طابعها الوطني الشامل». (ص. ١٥٩). وفي طرابلس: «تعرّض الحزب الشيوعي لحملة تصفية في صراعه مع الجماعة الإسلامية و«فتح» في عام ١٩٨٤، وفي بيروت أقفلت حركة «أمل» وحزب الله الضاحية الجنوبية في وجه اليسار». لكن الواقع أن المناطق هذه أصبحت عصيّة على اليسار لأن ناسها هجروا أحزاب الحركة الوطنيّة طوعاً وإما التزموا منازلهم أو هم انضووا في صفوف حركات طائفية متنوّعة (الحريري أو حزب الله أو «أمل» أو الحزب التقدمي). يقول تقي الدين: «فقد اليسار تمايزه واستقلاله فتوقّف عن النمو ثم أخذت تتسرّب منه العناصر التي التحقت به إلى البيئات الطائفيّة، التي جاءت منها». (ص. ١٦٦) وتقي الدين يعدّل من نظريّة أن العمل الوطني انتهى في عام ١٩٨٢ فيقول إن النهاية كانت في عام ١٩٧٨ (حين فشل التصدّي لاجتياح إسرائيل). ووليد جنبلاط بدأ بحوار سرّي مع بشير الجميّل في عام ١٩٨٠ «بواسطة سمير فرنجيّة» (ص. ١٦٦).
وعن التقصير الفظيع الذي كان كارثيّاً للقضيّة الفلسطينيّة، يقول تقي الدين إنه كان للقيادة الفلسطينيّة «نحو عشرين ألف مقاتل، فضلاً عن الأسلحة والإمكانات الأخرى»، لكن منظمة التحرير «تعاملت مع الاجتياح الإسرائيلي بشكل تكتيكي مفترضةً أن «عملية سلامة الجليل» ستقتصر على أرض الجنوب. فانكفأت دون قتال جدّي فإذ بها تُحاصَر في بيروت وتضطرّ إلى قبول خروجها من لبنان» (ص.١٦٣-٦٤). والمؤلم أن هناك اليوم من يتحدّث عن نصر مبين في التعامل مع الاجتياح الذي قضى بالضربة القاضية على الثورة الفلسطينيّة. وهناك قوى اليمين الرجعي وحلفاؤها من اليسار الغريب (هؤلاء الذين يرون في «إمبرياليّة إيران وروسيا والصين» خطراً لا يقلّ عن إمبرياليّة أميركا) الذين يشيرون بالبنان إلى تجربة منظمة التحرير والحركة الوطنية في في ١٩٨٢ كنموذج بديل وناجح عن المقاومة الحاليّة.
ويتحدّث تقي الدين بأسى عن سقوط الشيوعيّة في تجربة الحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، حيث طرح جورج حاوي مشروع «حزب يساري ديمقراطي بملامح ليبرالية»، فيما قدّم محسن إبراهيم في عام ١٩٩٠ مراجعة بأفكار «عتيقة ولم يتورّع عن استخدام قراءة إسلاميّة…مثل كتاب محمد باقر الصدر (فلسفتنا واقتصادنا)». (ص.١٦٩). لم تسقط الشيوعيّة في بلادنا نتيجة مؤامرة ضدّها: هي بالتأكيد عانت لعقود من مؤامرات غربيّة وخليجيّة وتقدميّة ضدّها، لكن السقوط الذريع، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، كان نتيجة انتحار قصير النظر.
* كاتب عربي ــ حسابه على تويتر
asadabukhalil@