إِنَّمَا يَجْمَعُ النَّاسَ الرِّضَا وَالسُّخْطُ وَإِنَّمَا عَقَرَ نَاقَةَ ثَمُودَ رَجُلٌ وَاحِدٌ فَعَمَّهُمُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ لَمَّا عَمُّوهُ بِالرِّضَا فَقَالَ سُبْحَانَهُ فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَنهج البلاغة

في غمرة الأحداث التي تتوالى على لبنان وآخرها مجزرة الطيّونة نهار الخميس الفائت، هناك عالمٌ سُفليّ لا تتوقّف فيه التسويات عن الحدوث والتي لن تؤدّي إلّا لتنازلات على حساب مصلحة لبنان في منطقته الاقتصاديّة الجنوبيّة الخالصة والثروات التي تستبطنها. في ظلّ انشغال الرأي العام في تداعيات تلك المجزرة وقضيّة المحقّق العدلي طارق البيطار وقبل ذلك وبعده الانهيار الاقتصادي، يطلّ علينا الوسيط الأميركي النزيه «الإسرائيلي» المولد والذي خدم في جيش الاحتلال بين سنتي 1992 و1995 آموس هوكشتاين لتكملة مهمّة سلفه لحلّ النزاع الحدودي بين لبنان و كيان العدوّ. زيارة هوكشتاين إلى بيروت تهدف لبدء المفاوضات وفق مبدأ «الدبلوماسيّة المكّوكيّة» كما وصفها وزير الخارجيّة اللبنانيّة عبدالله بو حبيب في تصريحٍ له لموقع إخباريٍّ واضعاً بذلك أساساً جديداً للمفاوضات (القائمة أصلاً على اتّفاق إطارٍ فارغٍ من أيّ مضمون) لتنطلق من جديد مهملةً الخطّ اللبناني 29 وضاربةً بعرض الحائط إنجازات الوفد اللبناني المفاوض وطرحه. يبدو أنّ ذلك الوفد مع طرحه الجريء المُدعّم تقنيّاً وقانونيّاً سيدفع ثمن صلابته إذ ليس له مكان على طاولة التنازلات التي ربّما اختمرت بين مثلّث الممسكين بملفّ الترسيم. الشركة الدوليّة المقترحة لترسيم الحدود ما هي إلّا «المُحلّل» الذي سيعتمده المسؤولون لقتل الخطّ اللبناني 29 والعودة إلى الخط البائد البائس الهجين 23.
رسم رقم 1 – صُور جوّية من Google Earth للصخور و الجزر الفلسطينيّة الصغيرة القريبة من لبنان و على رأسها صخرة تخليت و الجزر الصوماليّة (Diua Damasciaca islets) التي أُهمِل تأثيرها على خطّ الوسط في النزاع الحدودي البحري بين كينيا والصومال. الصُوَر تُظهر بوضوح بأنّ صخرة تخليت هي أصغر بكثير من الجزر الصوماليّة ومن ضمنها الجزيرة الجنوبيّة. من جهة أخرى، الجزر في الحالتين تبعُد نفس المسافة تقريباً عن الشاطئ، حوالى كيلومترٍ واحد. الخرائط تعتمد نفس المقياس.

المُعطى الجديد والذي لو وُوكِب من قِبل صُنّاعِ قرارٍ حريصين على المصلحة الوطنيّة لكان شكّل نقلة جديدة في متانة سند الخطّ اللبناني 29 هو نتيجة الحكم القضائي عن محكمة العدل الدولية بتاريخ 12/10/2021 حول نزاع الحدود البحريّة بين كينيا والصومال وهو قرارٌ صريحٌ ولا لُبس فيه حول عدم الأخذ بعين الاعتبار الصخور والجزر الصغيرة ذات التأثير الغير متناسب في تحديد خطّ الوسط وهو بالضبط المبنى الذي قام عليه الخطّ اللبناني 29. كُنّا فنّدنا في مقالٍ سابقٍ خطورة الاستعانة بشركة أجنبيّة لترسيم الحدود وضحالة الحجج وراء العزوف عن توقيع المرسوم 6433 المُعدّل وإيداع الخطّ اللبناني 29 الأمم المتّحدة. في هذا المقال نُلخّص الأساسين القانوني والتقني الذي بُني عليهما الخطّ اللبناني 29 والدعم الكبير الذي حصل عليه طرح الوفد اللبناني المفاوض عبر نتيجة الحكم القضائي الجديد عن محكمة العدل الدولية المُشار إليه.

1. قرار محكمة العدل الدوليّة في نزاع كينيا-الصومال: سند غير مسبوق للحقّ اللبناني
لا نهدف هنا لشرح تفاصيل النزاع الحدودي الطويل بين كينيا والصومال والذي بُتّ الأسبوع الماضي لصالح الصومال من قِبل محكمة العدل الدوليّة. نريد أن نركّز على جانب من جوانب القرار والمتعلّق بتأثير الجزر الصغيرة (المعالم الجغرافيّة الصغيرة) على عمليّة الترسيم. بمحاذاة الشاطئ الصومالي هناك مجموعة جزر تبعد عن خطّ اليابسة حوالى الألف متر (الرسم التوضيحي رقم 1) و طالبت الصومال باحتساب الجزيرة الجنوبيّة منها عند تحديد نقاط الأساس التي عليها يتشكّل خطّ الوسط. قرار محكمة العدل الدوليّة فيما خصّ هذا المطلب كان واضحاً وصريحاً بعدم احتساب تلك الجزر واعتبار نقاط اليابسة فقط كنقاط أساس لتحديد خطّ الوسط. التالي ترجمة الفقرتين المتعلّقين من قرار المحكمة:
الفقرة 112 - تلاحظ المحكمة أن الطرفين لم يختارا نفس النقاط الأساسية لترسيم حدود البحر الإقليمي. أعربت كينيا عن شكوكها بشأن استخدام نقاط الأساس المبنيّة على الجَزْر والتي لم يتمّ تأكيدها من خلال زيارة ميدانية. أول نقطتين أساسيتين تقترحهما الصومال على جانبها من نهاية الحدود البرية تقعان في جزر ديوا داماسياكا (Diua Damasciaca islets). لهاتين النقطتين تأثير كبير على مسار خطّ الوسط في البحر الإقليمي، مما يدفعه إلى الجنوب. النقطة الأساسية الثالثة في الصومال، قِبالة الطرف الجنوبي لرأس كامبوني (Ras Kaambooni)، لها أيضاً تأثير كبير في دفع مسار خطّ الوسط باتّجاه الجنوب... إنّ وضع خطّ الوسط على المعالم البحريّة الصغيرة المُوضحة أعلاه (جُزر Diua Damasciaca) له تأثير على مسار خطّ الوسط لا يتناسب مع حجمها وأهميّتها بالنسبة للجغرافيا الساحلية الإجمالية.
يصل الوسيط «الإسرائيلي» إلى بيروت بعدما أخذ تعهّداً ممهوراً بتوقيع أهل السياسة بدفن الخطّ اللبناني 29، والقضاء على وَمْضة الأمل بوطنٍ لا يضحي حكامه بحقوقنا على مذبح مصالحهم


الفقرة 114 - في ظل ظروف هذه القضية، ترى المحكمة أنه من المناسب وضع نقاط الأساس لبناء خطّ الوسط فقط على أرض صلبة على سواحل البرّ الرئيسي للطرفين. لا يُعتبر من المناسب وضع نقاط أساسية على جزر ديوا داماسياكا القاحلة الصغيرة، والتي سيكون لها تأثير غير متناسب على مسار خطّ الوسط مقارنةً بحجم هذه المعالم الجغرافيّة...
في محاضرةٍ لوفد العدوّ لمفاوضات الترسيم مع لبنان في معهد دراسات الأمن القومي في الكيان المحتلّ بتاريخ 6 حزيران 2021 خلال مؤتمر بعنوان «العلاقات الإسرائيلية-اللبنانية من خلال منظور الحدود البحرية»، عرض وفد العدوّ المفاوض لوجهة نظر العدوّ في المفاوضات والتي على أساسها رفض رفضاً قاطعاً الحديث بالخطّ اللبناني 29، ركّز رئيس وفد العدوّ المفاوض، مدير عام وزارة الطاقة في كيان العدوّ إهود أديري، في مداخلته على أهمّ النقاط التي تدحض الخطّ اللبناني 29 وتدعم وجهة نظر العدوّ ألا وهي التأثير الكامل لصخرة تخليت على خطّ الوسط في إطار إيجاد حلّ «مُنصِف» للنزاع على الحدود البحريّة في لبنان. من أهمّ ميّزات تخليت، بناءً على ادّعاء أديري هو قربها من الشاطئ فتلك الصخرة وكذلك الجزر الفلسطينيّة الصغيرة جنوبها، تقع على مسافة حوالى الكيلومتر الواحد من الشاطئ بخلاف الحالات التي اعتمد عليها الوفد اللبناني والتي بحسب ادّعاءه، تستند على جُزر بعيدة عن الشاطئ تأتي الحالة الكينيّة-الصوماليّة لتشكّل مقتلاً لتلك الحجّة. فالجزر الصوماليّة أكبر من تلك الفلسطينيّة وهي على نفس المسافة تقريباً من خطّ اليابسة (الرسم التوضيحي رقم 1). يجدر القول بأنّ اعتبار تأثير الجزر من دونه في عمليّة تحديد خطّ الوسط تعتمد بشكل أساسي على الأثر التناسبي لتلك الجزر وليس فقط على مساحتها وقربها من الشاطئ. صخرة تخليت في المياه الفلسطينيّة المحتلّة بالتالي تجمع كلّ الأسباب التي تصبّ في مصلحة لبنان فلا مسوّغ قانونياً أو تقنياً لحسبان أيّ تأثير لها على خطّ الوسط بالتالي قوّة الخطّ اللبناني 29.
أمّا فيما خصّ المُهوّلين بأنّ قطار التنقيب والتطوير من قِبَل العدوّ شمال الخطّ اللبناني ٢٩ فات أوان إيقافه. نظرة بسيطة إلى الرسم التوضيحي رقم 2 والبلوكات التي تمّ تلزيمها من قِبل كينيا لشركات كُبرى والتي كانت كينيا تظنّ أنّها من حصّتها والتي أعطاها قرار محكمة العدل الدوليّة للصومال يدحض ذلك التهويل.

2. الأساسين القانوني والتقني للخطّ اللبناني 29
نعود للتذكير بقواعد ترسيم الحدود البحريّة الدوليّة بين الدول المتقابلة (لبنان-قبرص مثلاً) أو المتلاصقة (لبنان-فلسطين المحتلّة مثلاً) المدوّنة في المواد 15، 74 و83 من اتفاقيّة الأمم المتّحدة لقانون البحار (UNCLOS) والتي تعكس العرف الدولي في هذا المجال. التالي مُقتبس من محاظرة قدّمها عضو الوفد اللبناني المفاوض الدكتور نجيب مسيحي في معهد عصام فارس للدراسات بتاريخ 16 آذار 2021 من ضمن جولة توعويّة قام بها الوفد اللبناني المفاوض على الجامعات اللبنانيّة.
تنصّ المادة 15 من اتفاقيّة الأمم المتّحدة لقانون البحار والتي تتعلّق بترسيم حدود البحر الإقليمي الممتدّ 12 ميلاً بحرياً عن الشاطئ (حوالى 19 كلم) على التالي: «حيثُ تكون سواحل دولتين متقابلة أو متلاصقة، لا يحقّ لأيّ من الدولتين، في حال عدم وجود اتفاق بينهما على خلاف ذلك، أن تمدّ بحرها الإقليمي إلى أبعد من الخطّ الوسط الذي تكون كلّ نقطة عليه متساوية في بعدها عن أقرب النقاط على خطّ الأساس الذي يُقاس منه عرض البحر الإقليمي لكلّ من الدولتين. غير أنّ هذا الحكم لا ينطبق حين يكون من الضروري بسبب سند تاريخي أو ظروف خاصّة أخرى تعيين حدود البحر الإقليمي لكلّ من الدولتين بطريقة تخالف هذا الحكم. بالنتيجة، وفي حالة لبنان اعتُمد تطبيق قاعدة خطّ الوسط/ ظروف خاصّة لترسيم حدود البحر الإقليمي».

رسم رقم 2 – الحكم الصادر عن محكمة العدل الدوليّة حَكَم للصومال بمنطقةٍ اقتصاديّةٍ خالصةٍ ضخمةٍ كانت تدّعيها كينيا. هذه المنطقة كانت مقسّمة لبلوكات و ملزّمة لشركات دولية. من بين هذه البلوكات الظاهرة على الرسم (يسار) و التي عادت كلّها أو بعضها للصومال بناءً على الحكم: L21 و L23 الملزّمة لشركة Eni الإيطاليّة والبلوك L24 الملزّم لشركة Total الفرنسيّة. على يمين الصورة يظهر حقل شمال كريش والبلوك 72 المعروض للتلزيم من قِبل العدوّ والواقعين شمال الخطّ اللبناني 29. | أنقر على الصورة لتكبيرها

أمّا فيما خصّ ترسيم المنطقة الاقتصاديّة الخاصة والتي تمتدّ من مسافة 12 ميلاً بحرياً ولغاية 200 ميل بحري عن الشاطئ، فتحكمها المادّة 74 من اتفاقيّة الأمم المتّحدة لقانون البحار التي تنصّ على الآتي: «يتمّ تعيين حدود المنطقة الاقتصاديّة الخالصة بين الدول ذات السواحل المتقابلة والمتلاصقة عن طريق الاتّفاق على أساس القانون الدولي كما أُشير إليه في المادّة 38 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدوليّة من أجل التوصّل إلى حلّ منصف». وبما أنّ الإنصاف هو مفهوم اعتباري وليس مطلق، ومنذ عام 1993، أجمعت المحاكم الدوليّة على أنّ ضرورة التوصّل إلى «الحلّ المُنصف» الذي يفرضه القانون الدولي تقضي بتطبيق «قاعدة خطّ الوسط مع الظروف ذات الصِلة». بناءً عليه، يركّز مبدأ الإنصاف عند تحديد خطّ الوسط على إقصاء الآثار الغير متناسبة للصخور والجزر الصغيرة من بين معالم جغرافيّة صغيرة أخرى.
بالتالي، الخطّ اللبناني 29 هو نتاج استخدام طريقة خطّ الوسط مع عدم احتساب أيّ تأثير للصخور والجزر الفلسطينيّة القريبة من لبنان وأهمّها صخرة تخليت ذات التأثير الأهمّ بلحاظ الأثر الغير متناسب لهذه الجزر على نتائج الترسيم. على صغرها، يبلغ تأثير هذه الصخور/ الجزر الصغيرة حوالى الـ1800 كلم2 وهو ما يُخالف قطعاً مبدأ الإنصاف ولذلك أسانيد عديدة من جزر تمّ تجاهلها في الاجتهاد الدولي ولتفاصيلها يمكن العودة لمحاضرة الدكتور مسيحي المذكورة أعلاه.

3. هوكشتاين في بيروت – عودة لبنان صاغِراً للخطّ البائد 23
سيصل الوسيط «الإسرائيلي» بين لبنان و«إسرائيل» إلى بيروت بعدما أخذ تعهّداً ممهوراً بتوقيع أهل السياسة بدفن الخطّ اللبناني 29 والعودة إلى ما قبل وَمْضة الأمل بوطنٍ لا ينحني فيه أهل السياسة من أجل حفنة مصالح. يبدو أنّ الوفد اللبناني المفاوض سيُنحّى فلا مكان للحرفيّة والوطنيّة والشجاعة في هذا الملفّ ولا في غيره في بلد التسويات. يبدو بأنّ الخوف من الخطيئة الثالثة في ملفّ الترسيم يتحقّق أمام أعيننا. ويبدو أنّ مُصطلح الخطيئة الذي يُستخدم تلطيفاً لوصف ما حدث في الماضي القريب وما يحدث الآن هو مُصطلَحٌ مُبالِغٌ في السذاجة. إنه الارتهان بعينه والخيانة بعينها لهذا البلد وشعب هذا البلد، جهاراً نهاراً. ارتهانٌ وخيانة لا ينفعُ معهما صمْت الصامتين وتبرير المُبرّرين. كلهم قد عَقر ناقة صالح!
* باحث وأستاذ في الجامعة الأميركيّة
في بيروت – تويتر:
@KassemGhorayeb