نظرة أولى إلى نتائج الانتخابات التشريعية العراقية تقول لنا الكثير، من ذلك: إن ما أراده الناخب العراقي غالباً هو ما لا يريده السياسي، وإن التقسيم الطائفي وتعبيراته السياسية التي أراد الاحتلال عبر عمليته السياسية الطائفية غرسها في المجتمع العراقي قد تغلغلت عميقاً في النسيج المجتمعي والنفسي!
جاءت نتائج الانتخابات التشريعية العراقية بالعديد من المفاجآت الثقيلة شكلاً، ولكن لم يكن جميعها من النوع غير المتوقع، بل بدا بعضها منتظراً إلى درجة أفقدته معنى المفاجأة.
ولكي نفهم بشكل صحيح عمق هذه المفارقة وأبعادها السياسية والاجتماعية والنفسية سنلقي، بدءاً، نظرة على واحد من أهم التوقعات المستقلة لهذه النتائج، وصِفَ حينها بالأكثر واقعية ومنطقية، ونشر قبل أربعين يوماً من موعد الانتخابات تحت عنوان «رؤية استشرافية بالأرقام لنتائج انتخابات مجلس النواب العراقي في 30 نيسان 2014»، بقلم د. أحمد المشهداني. ونحن حين نقتبس نتائج هذه المقالة فليس هدفنا تخطئة الزميل الكاتب، فكلنا معرضون للخطأ في هذا النوع من الدراسات الاستشرافية، إنما كي نتفهم بشكل أدق وأعمق ما وصفناه بمفارقة «المفاجآت المتوقعة».
يخلص الكاتب بعد تحليل معمق الى استنتاج أن أربع قوائم رئيسة ستتصدر نتائج الانتخابات ويمكن مقاربة نتائجها على النحو الآتي: ائتلاف دولة القانون، وسيكون معدل ما ستحصل عليه 75 مقعداً، وائتلاف المواطن (الحكيم) بمعدل 38 مقعداً، وقوائم التيار الصدري بالمعدل ذاته والتحالف الكردستاني بمعدل 28 مقعداً. ونشكّ كثيراً في وجود خطأ في الرقم الأخير فلا الرصيد من المقاعد لدى هذا التحالف آنذاك (43 مقعداً)، ولا ما حصل عليه في الانتخابات الجديدة (46 مقعداً) يجعله معقولاً. ويضيف د. المشهداني أن «ما تبقى من مقاعد ستتوزع على ائتلافات وكيانات وبنسب متفاوتة بحسب المحافظات فائتلافا العربية و«متحدون» سيحصلان على بعض المقاعد في بغداد، والموصل وصلاح الدين والأنبار. والتحالف المدني سيحصل على بعض المقاعد في محافظات وسط وجنوب العراق، إلا أنها بالمجمل مقاعد قليلة العدد لو جرت مقارنتها بالقوائم الاربعة الرئيسة المشار اليها أعلاه».
وحين نقارن هذه الأرقام المستشرَفة بالأرقام النهائية المعلنة سنعرف حجم تلك المفاجآت التي لم تغيّر كثيراً من واقع الانقسام الطائفي المجتمعي وتعبيراته السياسية؛ فما حصلت عليه القوى السياسية الشيعية أو السنية أو الكردية مجتمعة وكل مكون مجتمعي على حدة، لم يتغيّر كثيراً إلا من حيث تفاصيل التوزيع الداخلي، ولا عبرة هنا بالنتائج التي أحرزتها القوى «غير الطائفية» لأنها ظلت هامشية تماماً: أول مفاجأة كانت فوز ائتلاف المالكي «دولة القانون» بحصاد جيد من المقاعد، صحيح أنه لم يعبّر خط المئة مقعد كما توقع قادته، ولكنه لم ينحدر إلى 75 مقعداً، كما استشرف د. المشهداني، وما هو أقل بكثير من ذلك كما استشرف آخرون وراحوا يتبادلون التهاني مبكراً، بل حصل على 95 مقعداً بمفرده ومن دون إضافة أي مقعد من مقاعد حلفائه داخل أو خارج التحالف الوطني «الشيعي».

أكثر ما توقف عنده المراقبون هو عدد الأصوات التي حصل عليها علاوي في بغداد

وكان كاتب هذه السطور قد استشرف من جانبه في مقالته الثانية عن هذه الانتخابات («الأخبار»، 2279، 25 نيسان 2014) نتائج قريبة من هذا الرقم، واستبعد حصول ائتلاف المالكي على ما كان يطمح إليه بعض قادته ويصرحون به في الإعلام، وهو 120 مقعداً. واعتبر ذلك «تفاؤلاً مبالغاً فيه»، وكتبنا حينها «سيكون صعباً على المالكي ضمان مشاركة كردية حتى إذا حقق نتائج تفوق نتائج الانتخابات السابقة، أي 89 مقعداً». ومع أنه حقق تقدماً بستة مقاعد ثمينة، ولكن الصعوبة التي تواجهه في تشكيل حكومة الغالبية السياسية ما تزال كما هي.
على هذا، يمكن اعتبار هذا التقدم الصغير للمالكي «انتصاراً كبيراً» حين نقارنه بما كان متوقعاً ومنتظراً من قبل خصومه وأعدائه الكُثر؛ فهو بمحافظته على رصيده البرلماني، وزيادته قليلاً، وفي حيازته لأكبر كتلة ناخبة في بغداد خصوصاً، حين نال زعيمه تأييداً تسونامياً فاق كل التوقعات وزاد على 721000 سبعمئة وواحد وعشرين ألف صوت بغدادي، أي أكثر مما حصل عليه في الانتخابات السابقة عام 2010 بربع مليون صوت تقريباً. وفي اختراقه لقلعة الصدريين في الحي العمالي «مدينة الثورة/ الصدر» أكد أنه المنتصر الأول في هذه الانتخابات، ولكنه سيبقى منتصراً رخواً، أو «بطة عرجاء» بالمعنى العراقي وليس الأميركي لهذا المصطلح السياسي، ذلك لأنه سيكون تحت رحمة القوى الصغيرة المبعثرة وشروطها المسبقة خلال مفاوضاته لتشكيل الحكومة المقبلة. من المتوقع أن يهرع الخصوم والأعداء السياسيون وحتى الحلفاء المقربون إلى التشكيك بنزاهة الانتخابات وتحميل حكومة المالكي ومفوضية الانتخابات مسؤولية ذلك. وهذا أمر متوقع ومفهوم وقد طُرِح الكثير من الأدلة والحجج والتساؤلات في هذا السياق، كذلك إن المفوضية العليا المستقلة للانتخابات اتخذت إجراءات حاسمة ومهمة تؤكد قسماً من تلك الشكوك. وفي الوقت نفسه تضفي على أدائها مصداقية أكبر حين ألغت نتائج 300 محطة انتخابية، وأقالت من العمل ثلاثة آلاف من منتسبيها (من مجموع 300000 ثلاثمئة ألف منتسب)، بعد ثبوت قيامهم بخروقات وعمليات غير مشروعة خلال العمليات التنفيذية في يوم الانتخابات وما تلاه، ويبدو أن ثقل هزيمة بعض الأطراف تناسب طردياً مع حجم تشكيكاتها وشكاويها. المفاجأة الثانية، كانت صمود قائمة إياد علاوي الذي ساد شبه اتفاق بين المراقبين على أنه انتهى سياسياً، وستكون هذه الانتخابات آخر إطلالة له على المشهد السياسي العراقي، وكان كاتب السطور من هذا الفريق غير الدقيق في توقعاته، رغم أنه أشار إلى أن علاوي «نجح في الحصول على وفرة جيدة من المال السياسي من دول الخليج، ونجح أيضاً في كسب بعض الأسماء المعروفة خصوصاً من العرب السنة في قائمته كالسيد محمود المشهداني، رئيس مجلس النواب الأسبق». تمكن علاوي من أن يدافع عن نفسه بشكل جيد ويكثف ظهوره الإعلامي في الفضائيات «العراقية» و«العربية»، ويدفع عن قائمته المشكلة حديثاً خطر الزوال، فحصلت على 21 مقعداً. صحيح أنه لم يعد زعيم القائمة التي جاءت في الرتبة الأولى بواحد وتسعين مقعداً سنة 2010، ونعني بها قائمة «العراقية» التي كان يتزعمها آنذاك تحت شعار «طربوش شيعي على كتلة سنية»، والتي انتهت تماماً وتفرقت أيدي سبأ، ولكن علاوي ضمن لنفسه هامشاً سياسياً يتحرك فيه بحجمه الحقيقي وبكثير من الراحة الممزوجة باليأس من لعب دور الرجل الأول أو الثاني في المشهد السياسي العراقي.
لكنّ أكثر ما توقف عنده المراقبون هو عدد الأصوات التي حصل عليها علاوي في بغداد، إذ فاق 229000 مئتين وتسعة وعشرين ألف صوت. رقم سمح لعلاوي بتصعيد أكثر من خمسة نواب إضافيين وفق طريقة «سانت ليغو» المعرَّقة من فائض أصواته هو. وهذا أمر حدث في جميع القوائم تقريباً وحرم القوائم الصغيرة من الفوز بمقاعد، رغم أنها حصلت على أضعاف ما حصلت عليه شخصيات كثيرة في القوائم الكبيرة. فهل تعكس كثافة التصويت لعلاوي احتجاجاً مجتمعياً يائساً على الطائفية السياسية أخطأ العنوان، أم أن ما حدث جزء من حالة الاستقطاب الطائفي وقد جاء بهذا الشكل ليعكس غضب الناخب السني في بغداد من الساسة العرب السنة ففضل أن يعطي صوته لعلاوي كعقاب لخصومه؟
لتوضيح هذه الحالة من اللاتوازن واللاعدالة في حساب الأصوات وتقرير النتائج التي أشرنا إليها قبل قليل، نذكر هنا مثالين متعاكسين: الأول، هو حالة المرشح عبد العظيم عبد الفتاح العجمان عن قائمة البديل المدني في البصرة، والذي فاز بمقعده بعد أن جمع 13537 ثلاثة عشر ألف وخمسمئة وسبعة وثلاثين صوتاً، في مواجهة مثال آخر هو حالة المرشحة ختام كريم عبد الرحمن علك عن التيار الصدري، والتي فازت بمقعد مع أنها حصلت على 783 سبعمئة وثلاثة وثمانين صوتاً فقط ضمن الكوتا النسائية، وقد فشل مثلاً مرشح الحزب الشيوعي العراقي في بغداد جاسم الحلفي مع أنه حصل على أكثر من 17500 سبعة عشر ألف وخمسمئة صوت!
وبالعودة إلى نتائج الانتخابات نسجل أن الطرف الثاني الذي قاوم التلاشي وصمد في المعمعة الانتخابية هو حزب طالباني، والذي لم يتلاشَ كما كان متوقعاً، ولم يخسر ترتيبه الثاني – كردياً - بواحد وعشرين مقعداً بعد حزب البارزاني الذي تقدم عليه بخمسة مقاعد. فمحافظ كركوك، والقيادي فيه، د. نجم الدين كريم، منحه نصراً كبيراً في هذه المحافظة وكان لشعبيته الكبيرة بين جميع المكونات المتعددة قومياً ودينياً وطائفياً ولإنجازاته المحلية، دور كبير في هذا النصر الانتخابي، فقد حصدت قائمته نصف مقاعد المحافظة، وحصل هو شخصياًَ على أكثر من 150000 مئة وخمسين ألف صوت، وخسر العرب بعض ما لديهم بسبب خلافاتهم وتفرقهم على قوائم متصارعة عدة. وعموماً فقد حصل الأكراد في الإقليم والمناطق المختلطة خارجه على 66 مقعداً، وزادوا بذلك حصادهم من المقاعد بواقع سبعة مقاعد عن الدورة البرلمانية السابقة منها 46 مقعداً للتحالف الكردستاني بين البارزاني والطالباني. نستكمل قراءتنا هذه في نتائج الانتخابات العراقية في وقفة تحليلية أخرى قريباً.
* كاتب عراقي