حين برز مقتدى الصدر على مسرح الأحداث في العراق في أعقاب الغزو الأميركي وسقوط النظام السابق عام 2003 لم يكن يتجاوز التاسعة والعشرين. وبرغم تلك السن الصغيرة إلا أنه سرعان ما تبيّن للعالم أن الشاب المعمّم مقتدى الصدر له من الشعبية والتأييد والتأثير في العراق ما يفوق قوى وأحزاب وجماعات عريقة ومعروفة. ورث مقتدى الصدر اسماً عريقاً ونسباً شريفاً. وفي المجتمعات الشيعيّة عموماً فإنّ النّسب المتّصل بآل البيت يُعطي صاحبه قدْراً وتميّزاً. ولكنّ المنتسبين إلى آل البيت، أي «السّادة»، كثيرون وليسوا سواء في المكانة والاعتبار. ينتمي السيّد مقتدى لواحدة من أعرق العائلات في العالم الشيعي، ولعلّ شجرة نسَبِهِ إلى الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب هي الأبرز على الإطلاق من حيث الصراحة والاتصال ونوعية رجالها ومكانتهم وصدارتهم العلمية والمذهبية والذين منهم السيد صدر الدين، المولود في جبل عامل في لبنان عام 1779، الذي كان من كبار فقهاء زمانه وإليه تُنسبُ عائلة الصدر ومنه تأخذ اسمها.
وللتضحية والفداء المصحوب بالمظلومية دورٌ أساسيّ في المكانة السامية التي وصلتها عائلة الصدر في العراق. ولا يُمكن فهم شعبية ومكانة مقتدى الصدر لدى العراقيين دون الالتفات إلى شخصيّتين من آل الصدر لعبا دوراً مؤثّراً في العراق في الربع الأخير من القرن العشرين. الأول هو محمد باقر الصدر (وهو حمو مقتدى، والد زوجته) الذي كان مفكراً إسلامياً عظيم الشأن نبغَ بسنّ مبكرة وأنتج تراثاً فكرياً مهماً من أبرزه كتبه «فلسفتنا»، و«اقتصادنا»، و«التفسير الموضوعي والفلسفة الاجتماعية في المدرسة القرآنية»... وهو يُعتبر الأب الروحي لحزب الدعوة الإسلامية العراقي الذي تأسّس في أواخر الخمسينيّات من القرن الماضي. وعندما اندلعت الثورة الإسلامية في إيران كان له موقف مؤيّد وداعم لها ولقائدها الإمام الخميني ممّا أثار غضب صدام حسين عليه ولكن محمد باقر الصدر رفض التراجع والخضوع لصدام وأصرّ على موقفه الصّلب تجاهه ممّا أدّى في النهاية إلى إعدامه هو وأخته معه (آمنة الصدر التي كانت أيضاً كاتبة وناشطة في العمل الخيري والاجتماعي) عام 1980. وهناك روايات وتفاصيل مُفزعة حول الطريقة التي أُعدم بها محمد باقر الصدر ودور صدام حسين شخصياً في التحقيق معه وتعذيبه وقتله. كان من الطبيعي أن يتحوّل محمد باقر الصدر إلى رمز للمظلومية والبطولة بنظر غالبية الشيعة العراقيّين في أحداثٍ تُعيدهم بالذاكرة لما جرى لجدّه الإمام الحسين – حفيد الرسول.
والشخصيّة الثانية هي والده، آية الله محمد صادق الصدر. فبعد أقل من عشرين عاماً على المصير المأساوي لمحمد باقر الصدر، شهد العراق عام 1999 حادثة قتل لا تقل فظاعة ووحشية بحق رمزٍ آخر لعائلة الصدر (ابن عمه). فقد تعرّضت سيارة السيد محمد صادق الصدر إلى كمينٍ في مدينة النجف حين أوقفها «مجهولون» مسلّحون وأمطروها بوابلٍ من الرصاص مما أدى إلى مقتله هو وابنيه اللذين كانا معه، مؤمل ومصطفى، على الفور بينما نجا الابن الأصغر، مقتدى، لأنه لم يكن معهم. وقبل ذلك كان السيد محمد صادق الصدر قد برز في العراق وتصاعدت مكانته العلمية حتى أصبح مرجعاً دينيّاً يتبعه أعداد كبيرة من الشيعة العراقيّين وله سلسلة من المؤسسات التي تقدّم مساعدات وخدمات اجتماعية وخيريّة وخصوصاً في المناطق الفقيرة والمحرومة ( الحيّ الشعبي الكبير والفقير في بغداد كان يسمّى «مدينة الثورة» في عهد عبد الكريم قاسم ثم تحوّل إلى «مدينة صدام» واستقر أخيراً بعد سقوط النظام على مسمى «مدينة الصدر»). وقد دخل السيد محمد صادق الصدر في مسار تصادمي تصاعدي مع نظام صدام الحاكم بلغ ذروته حين أصرّ السيد الصدر على إقامة شعيرة صلاة الجمعة في أرجاء العراق، بعد أن كانت معطّلة لسنين طويلة. وهذا الأمر لم يُعجب النظام الذي بدأ يستشعر خطراً أمنياً بسبب استنهاض همم الناس وحشدهم بأعداد كبيرة. وزاد من غضب النظام على السيد الصدر أنه رفض أيضاً أن يدعو للحاكم (صدام) في الخطبة. قام النظام بالضغط بشدة على آية الله الصدر وبتهديده لكي يتوقّف عن إحياء شعيرة صلاة وخطبة الجمعة ولكن السيد الصدر لم يمتثل ورفض الأمر الصادر له من صدام بل وزاد من منسوب التحدي حين بدأ يظهر في خطب الجمعة مرتدياً كفناً أبيض على كتفيه، في إشارةٍ إلى جهوزيّته للموت في سبيل قضيته وعدم خوفه. وفي النهاية قرّر النظام تصفيته ولكن صدام لم يرغب في تحمّل وزر قتله علناً (مثل ما حصل مع ابن عمه محمد باقر الصدر) فأوعز لمخابراته باغتياله ومن ثم تبرّأ من قتله بل وألقى باللّائمة في ذلك على إيران! لكن هيهات. فالعراقيون يعرفون الحقيقة التي لا يقدر النظام على إخفائها ولذلك سرعان ما تحول محمد صادق الصدر إلى أيقونةٍ ورمزٍ جديد للشهادة والبطولة والمظلومية، «الشهيد الصدر الثاني»، هكذا صاروا يطلقون عليه.
لا يستطيع أحد أن يُزايد على «عراقيّة» التيار الصدري الذي لا تنبع شعبيّته من التراث العائلي فحسب، بل أيضاً من مواقفه الوطنية وانحيازه للطبقات الأكثر فقراً وحرماناً في المجتمع العراقي


ولذلك اليومَ حين يرى عامة العراقيّين صورة مقتدى الصدر أو يشاهدونه وهو يتحدّث على الشاشة تقفز في أذهانهم ولا وعيهم ذكريات «الشهيدين الصدرين»، الأول والثاني ومخزون الحزن الشيعي على شهداء وأبطال آل البيت المظلومين وينعكس ذلك على السيد مقتدى ويُكسبه هالة ونوعاً من القدسيّة ويمنحه حصانة ليست لغيره من الزعماء و السياسيين.
لكنّ شعبية «التيار الصدري» في العراق لا تنبع فقط من التراث العائلي لآل الصدر، بل أيضاً من مواقفه الوطنية وانحيازه للطبقات الأكثر فقراً وحرماناً في المجتمع. ولا يستطيع أحد أن يُزايد على «عراقيّة» التيار الصدري ولا أن يشكّك في عروبته. وجميع قيادات الصدريّين الآن هم ممن بقوا في العراق أيام حكم صدام الصعبة ولم يغادروه ولم يهاجروا إلى الخارج لعشرات السنين مثلما فعل كثيرون من المعارضين الذين انتهى بهم المقام في دمشق أو طهران أو لندن ولم يعودوا إلى العراق إلا بعد الاحتلال الأميركي.
والسيد مقتدى الصدر تميّز منذ اليوم الأول للاحتلال الأميركي بمواقفه القوية والجريئة في مناهضته وتحدّيه الذي وصل إلى حد الاشتباك العسكري المباشر معه (من خلال جيش المهدي التابع له). كما أنه رفض تماماً الالتقاء بالأميركيّين، بريمر وخلفائه، ورفض الانخراط في ترتيباتهم لعراق ما بعد صدام. والسيد مقتدى ابن النجف وعاش فيها طوال حياته ولا يقدر أحد أن ينعته بأنه «جاء على ظهر دبابة أميركية»، أو أنه «من صنائع الاحتلال» كما يُتّهم غيرُه. وقد نأى السيد مقتدى بنفسه وتيّاره عن الحكومات العراقية التي نشأت بعد الاحتلال وترك مسافة تفصله عنها. وحتى عندما شارك ممثلون عن تياره في مرحلةٍ لاحقة في حكومة حيدر العبادي فإن مشاركته كانت محدودة ومحكومة بشروط لها علاقة بتحسين الخدمات للطبقات الأقل حظاً وبمناهضة مشاريع الاحتلال. وبالإجمال بقي تيار الصدر بعيداً عن شبهات الفساد الكبيرة التي طالت الممسِكين بزمام الحكومات منذ 2003 وما بعدها.
ولا بدّ أيضاً من الإشارة إلى مواقف السيد مقتدى العروبية والإسلامية تجاه القضية الفلسطينية وإصراره على جعل العداء للكيان الصهيوني من أدبيات الحركة الصدرية في العراق، وتنظيمه لمسيرات شعبية كبيرة تحت شعارات تحرير القدس. وآخر تلك المواقف كانت معارضته الشديدة لمؤتمر التطبيع مع «إسرائيل» الذي عُقد في أربيل ووصفه لمن شاركوا فيه بـ«النماذج القذرة» وتأكيده أن العراق «عصيّ على التطبيع».
بهذه الخلفيّة وبتلك المواقف خاض السيد مقتدى الانتخابات الأخيرة في العراق، وبها حصل على ثقة العراقيّين الذين جعلوه اليوم، بتصويتهم له، أكبرَ وأهمّ قادة بلاد الرافدين.
* كاتب وباحث من الأردن