صندوق النقد الدولي مؤسّسة دولية مهمّتها الحفاظ على الاستقرار النقدي وتسهيل عمليّات التجارة الدوليّة ومساعدة الدّول على معالجة مشاكلها الاقتصادية المستجدة ومحاربة البطالة والفقر. يقدّم الصندوق قروضاً ميسّرة لمعالجة الخلل في ميزان المدفوعات، شرط أن تقدّم الدولة المعنيّة ما يلزم لتصحيح أوضاعها بالتعاون مع الصندوق أو بتوجيه منه. ويصدر الصندوق تقارير سنوية عن اقتصادات البلدان المنضوية بعد زيارات معاينة، وأبحاث مع السلطات النقدية والمالية. تلك التقارير تعتبر مرجعاً من المجتمع الدولي لقياس سلامة الاقتصاد المعني، وتسهّل له في حال كانت إيجابية، الحصول على قروض ميسّرة من بلدان مقتدرة وراغبة لأسباب مختلفة في مساعدة هذا البلد لتخطّي مشاكله أو أزماته. ليس من عادة الصندوق تقديم هبات مالية، إنّما يقدّم مساعدات تقنيّة وعلميّة وقروضاً ميسّرة محدودة، كما يقدّم (S.W.R) حقوق سحب خاصة إذا تلقّى طلباً بذلك.
إيمانويل بولانكو (فرنسا/ السويد)

صندوق خاضع للنفوذ الأميركي
صندوق النّقد كان على علاقة بالحكومة اللبنانية ومؤسساتها طيلة الفترة الماضية الممتدة من حكومات الطائف الأولى حتى اليوم، وسنويّاً كان لبنان يستقبل بعثات من الصندوق تضع في ختام زياراتها تقارير تنتظرها الأسواق وينتظرها الرأي العام لفهم ما يجري والبناء عليه.
لكن هذه التقارير كما يُشير إيلي يشوعي لم تعترض على تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية أو الفوائد العالية التي كان يهندسها حاكم البنك المركزي بالتفاهم مع السلطة السياسية. فالصندوق الواقع تحت النفوذ الأميركي تغاضى عن المخالفات الفاضحة التي كان البنك المركزي يقترفها ولم يضغط مرة على الحكومة بهدف التصحيح، وإنّما كان غالباً يحتفي بالحاكم والجوائز التي كان يتلقّاها من جهات «معينة». وإذا كان موقف الصندوق مثيراً للشكوك فإن موقف البنك الدولي لم يكن أفضل حالاً بل غالباً ما كان يغض النظر عن الأخطاء والتصرّفات الحكوميّة باستثناء مرة يتيمة أشار فيها باستحياء لضرورة تعديل الدولة اللبنانية لسياساتها الاقتصادية.
أمام هذه اللوحة القاتمة التي لا تكذّب خبراً ترى الحكومة اللبنانيّة ومعها مجلس النواب والمنظومة الحاكمة أن الخروج من الأزمة الخانقة التي يعيشها الاقتصاد اللبناني إنما يكمن في تكريس الموجود من مؤسسات وسياسات والتماس الترياق من صندوق النقد الدولي. وإذا كان من الصحيح أن الصندوق يستطيع تقديم بعض المساعدات التي هي حق للبنان - مثل حقوق السحب الخاصة – أو تحفيز الدول الأجنبية والعربية المانحة على إقراض لبنان من جديد، أو تقديم إرشادات فنية، فالصحيح أيضاً أن لدى الصندوق لائحة مطالب يطرحها كشروط لحصول لبنان على هذه المساعدات المادية والمعنوية المحدودة.

التحقيق الجنائي
كما هو معروف، فإن الصندوق كان قد اشترط على حكومة الرئيس حسان دياب عام 2020 إنجاز التدقيق الجنائي في حسابات البنك المركزي للتحقّق من أرقام الخسائر قبل الشروع في المفاوضات بين الطرفين. وقد ذهب خبراء للقول إن تقصير البنك المركزي المتعمّد في تحضير الأرقام – التي يجب أن تكون جاهزة اليوم - كان أحد الأسباب الجوهريّة وراء وقف أو تأجيل المفاوضات. علماً بأنّ تلكّؤ البنك المركزي ترافق مع رفضه، (بالاشتراك مع جمعية المصارف، ولجنة المال والموازنة البرلمانية)، خطّة التعافي الاقتصادي التي قدّمتها حكومة الرئيس دياب، وطرحت فيها توزيع عبء الخسائر على القطاع المصرفي والبنك المركزي والدولة، تلك الخطة التي لاقت ترحيباً من خبراء الصندوق، واعتبرتها المديرة التنفيذية للصندوق كريستالينا جورجييفا أساساً صالحاً للانطلاق في المفاوضات التي كان يقدّر لها أن تُساهم ولو بشكل محدود في ضبط الإنفاق الجنوني وحالة الفوضى التي غاصت فيها البلاد بعد «انفجار» مرفأ بيروت واستقالة حكومة الرئيس دياب؛ من دون اتفاق على البديل. كلّ ذلك ترك دفّة القيادة في يد حاكم البنك المركزي، فاستعملها لمزيد من التسلّط على أموال المودعين، واتباع سياسات دعم ملتوية صبّت في جيوب الاحتكار، وساهمت في إطلاق معدلات التضخم من عقالها، وتجويف العملة اللبنانية من قوّتها الشرائية ممّا ساهم بانتشار الفقر وازدياد منسوب الاضطراب الاجتماعي.
وإذ دعم الحاكم مخالفات البنوك المستجدّة بعد انتفاضة 17 تشرين وخاصة فيما يعود لحجز للودائع، تحوّلت هذه الأخيرة إلى دكاكين مالية، تمنح وتحجب كما تُريد، ممّا ساهم في تقليص عمليّات التبادل التجاري وتراجع الحركة الاقتصادية عموماً وانفجار الأزمة الاقتصادية التي وصفها البنك الدولي بأنها من أسوأ الأزمات التي شهدها العالم منذ عام 1850.

أيّة ظروف للمفاوضات؟
تجري عملية المحادثات ومن ثم المفاوضات بين الحكومة اللبنانية وصندوق النقد في ظل أوضاع غير مؤاتية على مختلف الصعد.
• على المستوى الدولي يعود شبح الحرب الباردة بين الولايات المتحدة من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى ليطلّ من جديد مما يضع لبنان في شدق العقوبات الأميركية التي تحظّر عليه الاستفادة من العروض الروسية الصينيّة المؤاتية في مجالات النفط والنقل والبنية التحتية في الوقت الذي تُلحق فيه هذه العقوبات أضراراً كبيرة بالصناعة والزراعة والخدمات. هذه الأضرار نلمسها بقوة حينما نتّجه إلى الدول العربية، حيث باتت كل عملية مجزية للبنان تحتاج إلى إذن أميركيّ كما يحدث الآن في مجال النفط حيث تعرقل واشنطن عملية ترسيم الحدود البحرية على أساس الخط 29 «وتسمح» له في الوقت نفسه باستجرار الطاقة من الأردن والغاز من مصر عبر سورية. وتلك عملية لا يمكن إتمامها قبل أشهر، فيما تتوقّف محطات الكهرباء عن الإنتاج، إلا «بالقطّارة» لندرة العملة الصعبة في بلد نهبت طبقته الحاكمة أمواله وسحبتها بالتواطؤ مع المصارف والحاكم إلى الخارج تحت جنح الظلام.
رفضت خطة التعافي التي قدمتها حكومة حسان دياب، والوفد المفاوض لصندوق النقد يتصدّره حاكم مصرف لبنان مع وزير المال الذي «أكرم» المصارف بالهندسات المالية


• أمّا على مستوى الدعم المالي الموعود من دول الاتحاد الأوروبي، فلا يُمكن الاتكال على ذلك خاصة وأن هذه الدول لم تعد قادرة في ظل الكورونا وارتفاع سعر النفط والغاز وتراجع الحركة الاقتصادية على الوفاء بتعهّداتها كاملة، وإنما سترى نفسها مجبرة على تخفيض المساعدات – القليلة أصلاً – وتخفيض القروض لا سيما وأن الناخب الأوروبي أخذ يسأل عن فائدة هذا الدعم الذي يذهب جزء كبير منه إلى جيوب الطبقة الحاكمة في لبنان ليعود فيودع باسم أعضائها في البنوك الأوروبية وجزر الكاريبي. إلى ذلك، لا يمكن تجاهل الصراع الأميركي الإيراني في المنطقة وإصرار الكيان الصهيوني على حرمان إيران من إنتاج الطاقة النووية للأغراض السلمية، فيما هو يأخذ راحته في هذا المجال رافضاً أي مساءلة أو تفتيش لمنشئاته النووية، الأمر الذي يُبقي المنطقة في حالة توتّر واضطراب، بما ينعكس على لبنان الممنوع من الاستفادة من أي عرض إيراني مناسب يتعلق بالنفط أو سواه.
• أما على الصعيد العربي، فالوضع بشكل عام غير مؤات لدعم لبنان كما يتوقّع بعض المسؤولين، لا سيّما وأن البلدان العربية كلّها تتعرّض لضغوطات أميركية متواصلة للتطبيع مع «إسرائيل»، والعديد منها له مواقف سلبية من لبنان تتّصل بمجريات الصراع في المنطقة والعلاقات مع إيران.
هذا مع العلم بأن العديد من العواصم العربية ليس لديها ثقة بالحكم في لبنان، وتعتبره منحازاً لمحور المقاومة بما يستوجب الضغط عليه، فيما العديد من المواطنين العرب المؤثّرين في بلدانهم باتوا يرتابون بالمؤسسات اللبنانية ويقطعون صلاتهم بها، خاصة المصارف التي انضمت إلى الممارسات المليشياوية المعروفة في الاستيلاء على أموال الغير وابتزازهم بشتّى الأساليب الدنيئة.

استمرار الانهيار
إذا نظرنا إلى الأوضاع اللبنانية نرى ما يُشبه الإجماع بأن الانهيار الاقتصادي قائم ومستمرّ ولم تُتخذ أي خطوة جدّية لوقفه أو البدء في معالجته في وقت تستمرّ فيه الانهيارات على أكثر من صعيد حيث يتّخذ سعر الدولار منحى تصاعدياً بالنسبة لليرة اللبنانية، وترتفع معدّلات التّضخم ومعها الأسعار، وتتوسّع دائرة الفقر والفساد وما يُرافقها من اختلالات في الأسواق، وتوتّرات في المجتمع بالتزامن مع تفاقم أزمة الكهرباء والمحروقات، وتراجع الاحتياطي الإلزامي، وتنامي الأسواق الموازية، وتعدّد أسعار الصرف وفقدان الثقة بالعملة اللبنانية، وتفاقم الخلاف بشأن التّحقيق الجاري حول انفجار المرفأ، ولجوء أحد الأطراف إلى استخدام السلاح، وتزايد الشكوك بالنسبة لمستقبل البلاد واحتمالات تفكك الدولة التي تحوّلت إلى مزارع وإقطاعات مذهبية. والكلّ يذكر أنه بعد اندلاع انتفاضة تشرين 2019 بأيّام، قال رياض سلامة حاكم البنك المركزي أن الليرة بخير وأن دولار السوق الموازي هامشي لا يؤثّر إلّا على 2% من حركة السوق. ضلّل الحاكم الناس بدلاً من أن يُطلعهم على الحقيقة. بعد أيّام تبيّن أن كلام الحاكم ليس صحيحاً فأصبح الدولار الموازي هو سيد الأسواق، بينما كان المودع اللبناني يخسر أمواله تباعاً مرة بسبب المصارف التي حجزت أمواله قسراً واستخدمت معه أسلوب التنقيط، وتارة بسبب السوق الموازية التي رفعت سعر الدولار تدريجياً بصورة لم يشهدها لبنان من قبل. فوق ذلك عمد البنك المركزي إلى إصدار تعاميم تخوّل البنوك مخالفة القانون واقتطاع نسب عالية من سحوبات المودعين أو تحويلاتهم، واعتماد أسعار صرف متعدّدة تحوّلت بدورها إلى منشار ينهش أموال الناس طلوعاً ونزولاً، حتّى وجد المواطن نفسه خالي الوفاض يلهث وراء السلع ويخفق في دفع التزاماته بعد أن خسر أكثر من 80 في المئة من دخله الشهري.
وتعدّد سعر الصرف أصبح هاجساً يؤرّق حياة اللبنانيّين ويمنعهم من تنظيمها، ويُساهم في تعطيل الإنتاج والتجارة. وبقاء الحال على هذا المنوال، سيُعرقل حتماً عملية التفاوض مع الصندوق الذي يصرّ على تصحيح الأمور والإقلاع عن هذه السياسات المبتذلة. ومن المعروف أن رياض سلامة والمصارف ولجنة المال والموازنة، كانوا قد رفضوا خطة التعافي الاقتصادية التي طرحتها حكومة دياب، بغية تمديد فترة الفوضى والانهيار وتمكين المنظومة الحاكمة من تجريد اللبنانيين، ممّا تبقّى لديهم من أموال وودائع بحيث يتحمل هؤلاء العبء الأكبر من الخسائر التي تسبّب بها الثلاثي المعروف قبل إعداد الخطة. فالخطّة كانت تعني يومذاك الامتناع عن إقرار أي خطة.

وثائق باندورا
إلى ذلك حلّت نازلة جديدة بسمعة لبنان وصدقيّته الخارجية إذ ضرب الرقم القياسي في «وثائق باندورا» المشينة، حيث حلّ في المرتبة الأولى في قائمة الأشخاص الذين «جرّدوا» بلادهم من العملة الصعبة، وأودعوها ملاذات ضريبيّة تحميها احتكارات وأجهزة دوليّة معروفة.
إذا عطفنا ذلك مع ما جرى في الداخل وطيلة الفترة الماضية من استنزاف وهدر ونهب للأموال العامة والخاصة على يد المنظومة الحاكمة بكل أطرافها، يصبح اللجوء إلى التحقيق الجنائي أمراً لا بد منه لكشف الحقائق ومعرفة السرقات وأصحابها، ومحاكمتهم بعد استبعادهم من المسؤولية كمقدمة لا بد منها لإطلاق حركة الاقتصاد وإعادة هيكلة القطاع المصرفي ومعه الدين العام، وصولاً إلى القطاع نفسه وإلزامه النهج الإصلاحي في كل الميادين، حتى يُمكن لصندوق النقد الدولي ومعه الدول الصديقة والشقيقة تقديم مساعدات وقروض ذات جدوى.
تألّفت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي من ممثّلين لأحزاب الطبقة الحاكمة فنالت ثقة مجلس النواب، وسط ترحيب من أوساط دوليّة وإقليمية من دون أن تحوز ثقة الشعب اللبناني الذي لا زال يرى المركبة تهبط إلى قعر جديد دون أن يشهد أي تطور إيجابي في المنظور المباشر.
وإذ يعتبر العديد من اللبنانيين أن وجود حكومة مسؤولة أفضل من وجود حكومة تصريف أعمال تكرر تجربة الغموض والتنصّل من المسؤوليات، إلا أنهم يعتبرون أيضاً أن هذه الحكومة، إنما انبثقت من ضمن الطبقة المسؤولة كلياً عن الأزمة والمهتمة حالياً بشراء الوقت وإنقاذ مكاسبها غير المشروعة. وما يؤكّد ذلك، اعتماد الحكومة المنهج السابق الذي ثبت فشله، مع التركيز على الاستعانة بالمجتمع الدولي من دون الاتفّاق المسبق على خطة ناجعة منبثقة من رؤية اقتصادية واضحة لمقاربة الأزمة الشاملة، ومعالجة المشاكل المتفجّرة في البلد معتمدة على تفاهمات اللحظة الأخيرة التي تصلح لأزمات محدودة، وليس للأزمة الخانقة التي نختبر. وبدلاً من أن تتصرّف الحكومة كمجموعة اختصاصيّين حياديّين، تحاول معالجة الأزمة بأسلوب علمي مستقل يستبعد الأسلوب القديم وأصحابه المشكوك بنزاهتهم، وجدت نفسها أسيرة الواقع ومستندة إلى أشخاص لا ثقة بهم ويخضعون لتحقيقات دولية، يحتلّون مقاعدهم في الفريق الحكومي المفاوض لصندوق النقد الدولي. ويأتي في مقدمة هؤلاء، حاكم البنك المركزي الذي ماطل طويلاً في «إعطاء» الموافقة على إجراء التحقيق الجنائي لحسابات البنك، وعمل دائماً على إخفاء الحقائق ومساندة المصارف في انحرافاتها ورفضه إفلاس أي منها.
إذا كان صندوق النقد الدولي سيُسهم في تحريك الاقتصاد وتحفيز الدول والمؤسسات على الانفتاح على لبنان واستعادة الثقة، فإنه في المقابل يطلب من لبنان مطالب بعضها يعكس مطالب اللبنانيّين من دولتهم، كالإصلاح والشفافية والقضاء المستقل، واستعادة الأموال المنهوبة وشبكة الأمان الاجتماعي للأسر الأكثر فقراً، وبعضها الآخر يشكّل مطالب المجتمع الدولي، وفي مقدّمها التخلّي عن سياسة الدعم، وتعويم سعر الصرف وخفض الاستيراد والإنفاق وإصلاح قطاع الكهرباء والاتصالات والمواصلات والبنية التحتية واعتماد قاعدة بيانات موحدة. وبكلمة أخرى، فإن الصندوق يطلب من الحكومة اللبنانية خطة متكاملة للتعافي الاقتصادي، والتزاماً بتنفيذها ضمن برامج زمنية محدّدة تسهّل عملية المتابعة والمراجعة.

التنصّل من الإصلاحات
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هل تستطيع الحكومة اللبنانية تلبية هذه المطالب الصعبة والضرورية في آن، أم أنها ستُخفق في هذا المجال بسبب تركيبتها التي تعكس الواقع السياسي المرتبك والتمثيل الفئوي القوي داخلها؟ في مواجهة هذين الخيارين، من المرجّح أن تختار الطريق التقليديّ المعتاد في رمي المسؤولية بعيداً عنها والاستمرار في سلب أموال المودعين من خلال تعميمات الحاكم الظالمة، وزيادة الكتلة النقدية ورفع نسبة التضخم بالتلازم مع رفع الدعم بحيث يموّل الفقراء والطبقات محدودة الدخل الخسائر الكبيرة التي تسبّبت بها منظومة الهدر والطائفية والفساد، ومعها أصحاب ومدراء ومساهمي المصارف وحاكم البنك المركزي الذي يُدير لعبة الاستغلال والتضليل حتى اللحظة.
إذا تابعنا المؤشرات وقرأنا التطورات نكتشف من دون مشقّة أن الحكومة الحاليّة تصرّ على اتّباع النهج القديم الذي تفرضه الوقائع والصيغ والتركيبات التي جاءت بالحكومة نفسها، وكلّها تنظر بسلبية إلى مطالب انتفاضة 17 تشرين، وتختلق الذرائع للتنصّل من الإصلاحات المطلوبة، فنراها مهتمة بنفسها واستمرارها أكثر من اهتمامها بالبلد واستقراره وتقدّمه، خصوصاً أنها لا تتذكر استقلالية القضاء إلا عندما تريد تحميله العبء، ولا تأتي على ذكر الأموال المهرّبة أو المنهوبة إلا رفعاً للعتب. حتّى أنها رفعت الدعم عن السلع الأساسيّة قبل إصدار البطاقة التمويليّة خلافاً للوعد والعهد. وكما يقول الدكتور بطرس لبكي فإن المنظومة الحاكمة تلبّي شروط الصندوق قبل بدء المفاوضات، غير أن الأسوأ «تجلّى» في تشكيل الوفد المفاوض لصندوق النقد الدولي واحتلال حاكم البنك المركزي موقع الصدارة فيه، وإلى جانبه مساعده السابق وزير المالية الحالي الذي «أكرم» المصارف بالهندسات المالية التي لم توضع قيد التحقيق حتى الآن، رغم ما تنطوي عليها من سرقات لأموال المودعين ومن مخالفات جسيمة لقانون النقد والتسليف.

وحدها قوى التغيير والديمقراطية في لبنان من مصلحتها التطوير ويمكنها فرض الإصلاح واسترجاع الأموال المنهوبة والمهرّبة إلى حضن الاقتصاد اللبناني


إنّ الفريق المفاوض وإن لم يتّفق على نهج معين أو خطة موحّدة حتى الآن – وهذا أمر خطير بحدّ ذاته إذ لا يمكن الشروع في المفاوضات بدون موقف موحّد - إلّا أن أعضاءه يتشاركون في تبنّي النهج الاقتصادي الليبرالي، والاستهانة بحقوق المودعين، وتغطية كبار المتموّلين والسياسيّين الذين هرّبوا أموالهم إلى الخارج، وتلك كلّها مؤشرات لا تبشّر بالخير، ولا تنبئ بمفاوضات مجدية للبنان، إلّا إذا راهنّا على انتفاضة رئيس الفريق ومعه وزير الاقتصاد الجديد وتلك مراهنة لا تجوز عند البحث بمصير الدول.
إذا كانت الحكومة متريّثة حتّى الآن في استكمال عناصر التفاوض بحيث يتعذّر البدء بالعملية نفسها قبل أسابيع، وإذا كانت الحكومة قد حدّدت أواخر آذار 2022 لإجراء الانتخابات النيابية، فمعنى ذلك أن المفاوضات الشاقّة ستجري تحت ضغط الوقت، وضمن أجواء الانتخابات الضاغطة وخلافاتها وتداعياتها التي ستخيّم قريباً على المناخ السياسي والحكومي في البلاد.
حتّى لو استطاعت الحكومة الحفاظ على تماسكها في المرحلة القادمة، فإن صندوق النقد كما هو معروف عنه لا يحبّذ التفاوض مع حكومة أجلها محدود، ممّا يهدّد هذه المفاوضات بالتأجيل مرة أخرى. هذا ما يطرح شكوكاً برغبة الحكومة في اجراء المفاوضات، خاصة وأنها بدأت منذ الآن، تعتذر عن عجزها الوفاء ببعض تعهّداتها تجاه الصندوق والمجتمع الدولي، ولا سيّما فيما يعود إلى إعادة هيكلة القطاع العام الذي تعرّض قبيل الانتخابات الماضية إلى طوفان من التوظيفات «الانتخابية» قامت بها مختلف القوى السياسية خلافاً للقوانين التي سنّتها، وخلافاً لتعهدات قطعتها.

افتراضات مُبالغ فيها
على افتراض أن لبنان نجح في توحيد كلمته وخطّته، ونجح في توحيد سعر الصرف، وقطع دابر الهدر والفساد، وأعاد هيكلة القطاع المصرفي والدين العام، وخاض مفاوضات ناجحة مع صندوق النقد الدولي، فهل سينجح في استخدام القروض والهبات وتوظيفها لتحسين احتياطه وإنصاف المودعين، وردّ جزء من الدين باليوروبوند، وطرح شبكة أمان اجتماعي للفئات الأكثر فقراً وتحريك الاقتصاد؟ وهل سينجح في تنفيذ المشاريع المرتبطة بالانفتاح العربي والأجنبي عليه، وخاصة مشاريع «سيدر» التي يحتاج تنفيذها إلى قوانين جديدة تؤمّن الشفافية وأجهزة حكوميّة محترفة تتمكن من تنظيم العقود وإجراء المناقصات وتأمين المشتريات العامة حسب أفضل الشروط؛ وبما يساعد الصناعات المحلية على النهوض، أم أن التجربة المرّة السابقة ستتكرّر فتطغى سياسة المحاصصة على المقاييس الموضوعيّة ويخسر لبنان نهائياً فرصة يعوّل عليها وسمعة يسعى إليها.
إلى ذلك يجب التحفظ حيال إمكانات صندوق النقد التسليفية، وقدرته على تحريك الحكومات الأجنبية والعربية لدعم لبنان، فكلّ ذلك تحت الامتحان ورهن ظروف سياسية متقلّبة تشهدها المنطقة بعيداً عن حالة الاستقرار التي تحتاجها أي عملية إنقاذ اقتصادي. فالصراعات العربية لا زالت محتدمة والاتفاق النووي بين إيران من جهة وأميركا والدول الأوروبية من جهة أخرى لا زال في مهب الرياح، فضلاً عن موقف العدو الصهيوني المصمّم على تهويد القدس والتعرّض للأقصى المبارك، وحرمان الشعب الفلسطيني من أبسط حقوقه، والاستيلاء على الجولان باعتبارها «بقعة أرض جميلة»، والتحرّش بلبنان مع طلوع كل شمس. وكل هذه الأمور لها انعكاسات على الأرض، وبإمكانها أن تبدّد في برهة من الزمن أية أحلام بالنهوض أو إعادة بناء علاقات اقتصادية متوازنة بين لبنان وأشقّائه العرب، فضلاً عن بلدان الدائرة الإسلامية.
إن الجرعة التي يمكن أن يقدّمها صندوق النقد إلى لبنان هي ضرورية ومفيدة في كل الأحوال، غير أن ما يُثير التعجب والشك هو تركيز الحكومة الكلّي على هذا الأمر وإهمالها المجالات الأخرى، ولا سيّما الإمكانات اللبنانية الذاتية التي ينبغي التعويل عليها في أي عملية إنقاذ أو نهوض. إن تطويع المزاج اللبناني باتجاه الخارج وإنكار القدرات الذاتية التي تؤمّن المعالجة على المدى المتوسط كما البعيد هو عين الخطأ، وينطوي على اقتناع عميق لدى الطبقة الحاكمة بالحلّ الخارجي الذي ينقذها هي، وإن كان ذلك على حساب الأكثرية الساحقة من اللبنانيين الذين يتطلعون إلى اقتصاد منتج يعتمد على الصناعة والزراعة والمعرفة والخدمات المتخصّصة والمعرفة والحداثة والشراكة المدروسة بين القطاع العام والقطاع الخاص.

التفكير خارج الصندوق
صحيح أنّ للأزمة الخانقة التي يعيشها لبنان جانباً اقتصادياً مهماً، إلا أنها في العمق أزمة سياسية بامتياز تتقاطع فيها العوامل الدولية مع الإقليمية مع المحلية، دون أن يستطيع أحد التنصّل من المسؤولية. فإذا كان حكّام لبنان من سياسيّين ومصرفيّين ومارقين قد استهتروا بأملاك الدولة وممتلكات الناس، واستماتوا في حماية أموالهم وأرباحهم غير المشروعة فإن المحيط الإقليمي – وخاصة «إسرائيل» – يتحمّل مسؤولية كبيرة في شحن الأجواء وبثّ الشقاق وضرب الاستقرار وتشجيع الفوضى مستنداً إلى العقوبات والتدخلات الأميركية.
إذا كانت الولايات المتّحدة تدّعي الاهتمام بلبنان وتُبدي رغبتها في إنهاضه من أزمته، فإنّها على الصعيد العملي لا تقدّم سوى مساعدات محدودة مقابل حصارات تفرضها وأضرار تتسبّب بها وتطال مختلف جوانب الحياة، وكل ذلك يضطر الحكومة إلى توسّل المساعدة الأميركية سواء على الصعيد المالي أو المصرفي أو على صعيد المواصلات والتجارة. من دون أن ننسى الحماية التي توفّرها واشنطن لأصدقائها وأتباعها بغض النظر عن ولغهم في بحر الفساد.
لكل ذلك نقول إن المنظومة الحاكمة بحكم تفكيرها التقليدي وخوفها من أي مبادرة للتفكير خارج الصندوق ترهن نفسها للعوامل الخارجية، وتعزو أي نجاح يتحقق لرضى أو تأييد هذا المرجع الأجنبي أو ذاك. وحتى فرنسا التي تعتبر أن لها دوراً تاريخياً في لبنان، دوراً تعترف به الدول الأوروبية مجتمعة، لم يكن لها أن تتحرك بشيء من الفاعلية النسبية على المسرح اللبناني لولا الضوء الأخضر الذي تلقته من واشنطن المهتمة بالحفاظ على مصالحها ونفوذها والعمل على احتواء المارد الصيني والتخلّص من الأعباء الكبيرة التي تتكبّدها في الشرق.
بالاستناد إلى ذلك وإلى موارد الصندوق ونفوذه فإن الصندوق مضطر أن يدخل حلبة المعالجة والإنقاذ من دون أن يعني ذلك تجاوز خطوط مرسومة «تمنع» لبنان من الانهيار وتضن عليه بالمعافاة. فالمفاوضات التي يجري التحضير لها حتى لو نجحت – وهذا الأمر ليس بديهياً على الإطلاق – فهل ما سيقدّمه الصندوق كافٍ لإخراج لبنان من المأزق الذي يتخبّط فيه؟ بالتأكيد لا، وكلّ ذلك يبرهن على أن لبنان، مهما قيل في أهمية الصندوق ومركزيّته ومرجعيّته، يجب أن يتّكل على نفسه أولاً فيستثمر موارده وثرواته بشكل فعال، ويحارب الهدر، ويحاصر الفساد، ويسترجع الأموال والحقوق، ويُعيد الاعتبار للمواطن العادي الذي يشعر بالإهمال والانسحاق، بعدما تطاول عليه المحتكر والمستغلّ والفاسد، وكلّهم يتمتّع بحماية قوانين متخلّفة وسلطة غاشمة.
أختم بعبارة للدكتور زياد حافظ أستنها من واقع الحال والتجربة المريرة التي يعيشها لبنان منذ ردح من الزمن، حيث «لا إصلاح سياسياً أو اقتصادياً مع مجموعة الفاسدين الذين أوصلوا البلاد إلى الحالة الراهنة». يبقى أن الحل الحقيقي المستدام هو في عهدة قوى التغيير والديمقراطية في لبنان التي من مصلحتها التطوير، ولديها الاستعداد لفرض الإصلاح على أرض الواقع، ولديها، قبل كل شيء، تصميم على استرجاع الأموال المنهوبة والمهرّبة إلى حضن الاقتصاد اللبناني.
*كاتب وسياسي لبناني