دمشق
«هادا آخر الخط أخييي!»، يُنبّهني سائق «السرفيس» بلهجته الشامية العتيقة بعدما وجدني ساهماً عن النزول. لا تستغرق المسافة بين منطقة «الشيخ سعد» في المزّة، حيث صَعَدتُ، ومنطقة «جسر الرئيس» في وسط المدينة، حيث ينزل الجميع، أكثر من ربع ساعة. «رجّعني معك!»، قلتُ له ومددت يدي إلى جيبي أبحثُ عن عشر ليرات أُخرى. كان بشار الأسد يخطب في المذياع من تحت قبّة البرلمان - وأنا لم أرغب في قطع الاستماع - قال إن سوريا «تتعرض لمؤامرة كبيرة، خيوطُها تمتدّ من دول بعيدة ودول قريبة، ولها بعض الخيوط داخل الوطن».

يوقظني «شوفير» السرفيس مجدداً من استغراقي: «مزّة 86 خزّان، آخر الخط أبو الشبااااب»، أُوقظ عشرَ ليرات أخرى نائمة في جيبي: «رجّعني عَوسط البلد». تلْفِتُني خارجَ النافذة لافِتةٌ مكتوبةٌ بخطّ اليد تتأرجح معلقةً على جذع شجرة بجانب الطريق كي يقرأها جميعُ سكّان «مزة جبل 86» رُكّاباً ومشاة: «لا تأخذ مواد غذائية من غرباء». تنتشرُ شائعاتٌ في طول البلاد وعرضها، ثمة شيءٌ ما، يقول الرئيس في المذياع: «وَأْدُ الفتنةِ واجبٌ وطني وأخلاقي وشرعي... فكل من يتورّطُ فيها عن قصد أو غير قصد فهو يعمل على قتل وطنه، وبالتالي لا مكانَ لمن يقف في الوسط». تتدحرج سيارة السرفيس مرّات عدة في الأثناء بين «مزة جبل 86» و«جسر الرئيس». خلا الجيبُ من الليرات، فنزلت في وسط المدينة، ولي في ذمّة القصر الجمهوري خمسون ليرة على الأقل. من تحت الجسر إلى أعلاه، ومن هناك إلى مبنى البرلمان مروراً بثانوية جودت الهاشمي وفندق الشام ونادي الضباط القديم، لا يستغرق المسير أكثر من عشر دقائق. وصلتُ قبل خروج الرئيس وصحبه بقليل، وقفتُ بين عشرات الواقفين، صرخ أحدهم: «يا بندر ويا ديّوث، على راسك ِبدنا (سوف) ندوس». صرخ الجمع خلفه وخلف كثيرين غيره ممن تفتّقت أذهانُهم عن هتافاتٍ جديدة على من غادر البلاد مثلي قبل حوالى عشرين عاماً، هتافات من قبيل: «يا جزيرة ويا حقيرة... تعي غَطّي هالمسيرة». خرج رئيس البلاد بعدها من بوابة البرلمان ملوّحاً بيمناه الممدودة، ورأسه أعلى بِشبرٍ على الأقل ممن حوله من مرافقين ومواطنين. أصبح الشبر أشباراً حين وقف على حافة سيارته المفتوحة من جهة السائق. تقفز «مواطنةٌ» فجأةً من مَكْمَنِها بليونة وتصلُ إلى نافذة السيارة التي جلسَ رئيسُ البلاد للتوّ خلفَ مقودِها. تُعطيه ورقةً مطوية، يسود هرجٌ ومرج، يسدّ الجمعُ طريقَ الموكب الرسمي دقائق طويلة، ويتصبّب العرق من جبهات رجال الأمن. في المساء ستتحدث محطة «سي إن إن» الأميركية عن محاولة اغتيال الرئيس السوري.

درعا

يقول صديقي وهو يقود سيارته الصغيرة في طرقات درعا المغبرّة: «الأمر مختلفٌ تماماً بين أن ترى وحدات مكافحة الإرهاب كصورة في التلفاز وأن تراها في شوارع مدينتك». على يسار الطريق ويمينها في درعا البلد ينتشر شبان هذه الوحدات بلباسهم القاتم ونظراتهم المرتابة. ربما يفكّرون كصديقي باختلاف الأمور بين الواقع والشاشات وينتظرون أن ينقشع سديمُ الغيب الذي يُغطّي كلَّ شيء رغم صحوةِ الربيع في سهولِ حوران. يشرحُ لي الأحداثَ التي سمعنا عنها في نشرات الأخبار، هنا تظاهر الناس، هناك يقع الجامع العمري بحجارته القديمة، وبين هنا وهناك وقع إطلاق النار. «إنشالله ما في شي!»، يُطمئنني صديقي ويُطمئن نفسَه، يُشير إلى وفودٍ من أهالي حوران بدأ الحديث عن عزم رئيس البلاد استقبالَها في الأيام المقبلة، يضحك وهو يذكُر كيف بات البعضُ يسألُ البعضَ مُتندّراً: «ومتى موعدك أنت مع السيّد الرئيس؟». «يعطيهم العافية الشباب!»، يحيّي صديقي رجالَ حاجزٍ عسكري على أطراف درعا يدقّقون في بطاقات هوياتنا قبل أن نتابع المسير عائدين إلى بيته في منطقة «السبيل». يقول: «الله يْهَدّي البال»، ثم يشعل سيجارة. في منزله تجمّع بعض رجال العائلة في «مظافة» عفوية، كما يلفظ أهل حوران كلمة مضافة. يقول أخوه الأكبر موجهاً حديثَه إليّ: «لِدّ عْلَيْ (أي انظر إليّ)! هاذول كم واحد هامل (بمعنى أزعر) اللي بيسوّوا المشاكل»، أُنِقّل نظراتي بين الجالسين باحثاً عن شعبية رأيه حول مسؤولية «الزعران» عن الأحداث. «والله في ناس بتقول إنه الحرس الثوري الإيراني اللي عم بيسوّا مشاكل»، يقول صهرٌ له بامتعاض وينقل روايات عن كتابات غير مفهومة بالخطّ العربي وجدها الناس على الجدران الداخلية للجامع العمري بعد خروج قوات الأمن السورية التي اقتحمته قبل جلستِنا بأيامٍ قليلة...

ضحك وهو يذكُر كيف
بات البعض يسأل مُتندّراً: «ومتى موعدك أنت مع السيّد الرئيس؟»

ومن غير الإيراني يكتب بخطوط عربية؟ يُقاطعه أحدُ الحاضرين ساخراً: «هاي هِيّة (هذه) آخرة الصلاة ورا (خلف) الشيخ (أحمد) الصياصنة»، ثم يمتدح إمامَ جامعٍ آخر يُصلّي هو خلفَه ويصفُه بالواعي والمعتدل. ينتقل النقاشُ إلى دور المخابرات في السنوات الماضية بين من يرى أنه تراجعَ، فيتّهمه آخرون بأنه «مؤيّد»، وبين من يرى أنه أضحى دوراً أخطبوطياً، فيتهمه آخرون غير الآخرين الأُخر بأنه يُثيرُ «الفتنة»، مستعيرين التعبير من خطاب رئيس البلاد في اليوم الذي سبق. تدور طاحونة الأسماء: عاطف نجيب، فيصل كلثوم، فاروق الشرع، رستم غزالي، هيثم مناع، معن العودات...، وتدور على عائلات درعا وعشائرها: «المسالمة»... «الزعبي»... «الجوابرة»... و«الأبازيد».

جبلة

يكاد الحاجز الأمني لا يُرى بالعين المجرّدة في الطريق من كراج المدينة إلى «ضاحية تشرين»، لكن السائق يعرف موقع الحاجز، تماماً كما يحفظ كلّ أحياء المدينة الغافية شرق المتوسط وطرقاتها. يستخدم «عنصر» المخابرات الواقف مصباحاً صغيراً لفحص الأوراق في ظلمة الليل. يشعر السائق من تلقاء نفسه أنه مدينٌ بشرحٍ ما للراكب معه، يقول إن «الأمن» يخشى وقوع صدامات بين أبناء المدينة الواحدة، يقول إن بعض زملائه من سائقي التاكسي لم يعد ينقلُ الركّابَ إلى هذا الحي أو ذاك، حَسَبَ السائقِ وحَسَب الراكبِ وحَسَبَ الحي. يخبّئ البحرُ في الليل هباتٍ من الهواء الساخن للمدينة... وشائعاتٍ. يسأل رجل جبلاوي: «قِرْد (للتعجّب) كيف بيدعوا بالمساجد للجهاد ضدّنا؟ هَلّقْ (الآن) نحنا كفّار؟»، يسأل تاجر من «جبلة أُخرى»: «لييييك... ولَكْ أنا شو ذنبي أنا إذا ابني تظاهر مع المعارضين؟ لييييش (لماذا) تَتْقاطعني الضيع اللِحْوالينا (التي حولنا) بالبيع والشِري (الشراء)؟». تتجادل جارتان على قارعة طريقٍ صار بحكم الأمر الواقع «منطقةَ تماس»، تقول ذات الثوب القروي: «لَيْكي واخيتي لَيْكي (انظري يا أختي)، إذا بناتنا بلا حجاب مو معناتا (ليس معنى ذلك) إنه أعراضنا مُلك مشاع». تقول جارتُها ذات الحجاب: «ونحنا ما منئبل (نقبل)
حبيبتي حدا يقول عِلينا مندسّين وعملاء». يقول قريبي بعدما حدّثته عن مشاهداتي: «دعكَ من هذه وتلك ومن حكي النسوان، وركّز معي على مختصر الكلام». روى لي عن جهود قامت بها «الدولة» وكثيرٌ من سكان المدينة لاحتواء التجييش الطائفي، وعن أبيه النائب في البرلمان وكيف وقف وإياه مع رجال الأمن قبل أيام قليلة لصدّ مسيرة مؤيدة لرئيس البلاد وتحويلِ طريقها قبل أن تصطدم بتظاهرة معارضة في وسط المدينة فيقع «ما لا يُحمد عقباه». يحدثني وهو يهز رأسه كيف انفجرَ أبوه غضباً في وجه «متحمّسين» يحملون العصيّ لتلقين «الطرف الآخر» درساً في الانتماء للوطن: «يلعن بَيْكِن على بَيْهِن (لعنَ الله أباكم وأباهم)، أَبَقَى فينا نِتْحَمّل بعضنا بهالأزمي (في هذه الأزمة)؟ عَيب عْلَيكِن وعْلَيهِن... والله عَيب». يحتلّ الساحل السوري تاريخياً موقعاً متقدماً في السياسة والشائعات وحكايات البحارة، لكن حكايات الأزمة تجاوزت كل خيال، وصار الحديث عن وجود «غرباء» سُمْر البشرة يطلقون النار ويُشعلون «الفتنة» على كل لسان. «كل سكان مدينة اللاذقية القريبة يعرفون أين يقع فرع المخابرات في المدينة»، يقول قريبي، «نعم»، أقول أنا، يُضيف: «تفضّل يا سيدي: سيارة كيا صغيرة فيها مسلحون أطلقوا الرصاص في منتصف المدينة ولاذوا بالهرب، تقوم قوى الأمن بمطاردة السيارة، فتدخل إلى الشارع المغلق بالحواجز الذي فيه فرع المخابرات، فيُقبضُ عليهم جميعاً مثل عصفور الدوري على الدبق». خلاصةُ قريبي واضحة: من لا يعرف موقعَ فرعِ المخابرات ليس منّا - نحن السوريين -.
* باحث وصحافي سوري ــ ألمانيا