«إن أعظم عقبة في سبيل تحقيق وحدتنا القومية وفلاحنا القومي هي تعلق المؤسسات الدينية بالسلطة الزمنية، وتشبث المراجع الدينية بوجوب كونها مراجع السيادة في الدولة، وقبضها على زمام سلطاتها أو بعض سلطاتها، على الأقل. والحقيقة أن معارك التحرر البشري الكبرى كانت تلك التي قامت بين مصالح الأمم ومصالح المؤسسات الدينية المتشبّثة بمبدأ الحق الإلهي والشرع الإلهي في حكم الشعوب والقضاء فيها، وهو مبدأ خطر استعبد الشعوب استعباداً أرهقها». ( أنطون سعادة، الأعمال الكاملة، بيروت، مؤسسة سعادة للثقافة، 2001. ج 8، ص 88). مع انتهاء الحرب العالمية الأولى رأى أنطون سعادة أن العلمنة غير ممكنة دون إعادة توحيد المنطقة التي تمت تجزئتها من قبل الاستعمار الغربي وفقاً لاتفاقيات سايكس ــ بيكو عام 1916، ذلك أن تحديد العلمنة على أساس «فصل الدين عن الدولة» يستتبع بالضرورة وجود دولة وطنية/ قومية، أو دولة ــ أمة (nation-state)، وهو بذلك يخالف منحى التيارات الشيوعية التي حاربت الدين على أساس أنه «أفيون الشعوب»، وحاولت إلغاءه.

نشوء الدولة الحديثة، أي نشوء الدولة الوطنية/ القومية غيّر المعادلات؛ صحيح أن تبلور فكرة الدولة-الأمة حصل بداية في الغرب، إلا أنه انتشر خلال قرن من الزمن ليعمّ العالم كله، ومن تخلّف عن الركب فاته القطار، وذوى حضوره، وأصبح مصيره مهدداً، حتى إن بعض المجتمعات البدائية انقرضت نهائياً من الوجود. في العالم العربي، فرض الغرب الأوروبي الاستعماري تقاسيم دول مصطنعة على أنقاض السلطنة العثمانية التي نُعتت بـ «الرجل المريض»، وحلّ استعمار محل آخر. فكيف واجهت دول العالم العربي هذا التحدي الغربي؟
استجابة أنطون سعادة السريعة والواضحة هي بتبني النظام الجديد ومواءمته مع حضارتنا؛ فكما نحتاج إلى بندقية لمواجهة بندقية، يتطلب منا الأمر بناء دول وطنية/قومية لدحر المستعمر، إذ إنه لا يمكننا استعمال السيف لمواجهة بندقية، والاعتقاد بأن الانتصار ممكن! ومن أجل بناء دولة-أمة لم يكن من مناص الفصل بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية (الأعمال الكاملة، ج 3 «نشوء الأمم»: ص 110). في مواجهة ذلك، نشأ تيار كبير رفض التخلي عن الدولة الدينية تحت عنوان: الإسلام السياسي، أي رفض الفصل بين الدين والدولة.
إزاء هذا الوضع، انصبّ اهتمام سعادة على دراسة الأهداف المضمرة في ترسيخ الطائفية من قبل الدول الغربية، كما التفت إلى النتائج الوخيمة المتأتية من التعصب الديني الطائفي.

اتفاق سايكس بيكو
من أهم الأسباب التي دفعت بسعادة إلى تأسيس حزب توحيدي لسوراقيا، هو التقسيمات الطائفية والتفتيتية التي قامت بها بريطانيا وفرنسا للمنطقة اثر انتصارهما في الحرب العالمية الأولى عبر اتفاقية سايكس-بيكو، حيث تم سلخ المناطق بعضها عن البعض الآخر باسم الطائفة والمذهب. فلقد استغل الغرب وجود الملل الدينية على أرض المشرق العربي، للتفرقة وإثارة الفتن بين المكوّنات الطائفية تبعاً لشعار «فرّق تسد». مارس الغرب هذه السياسة أيام الحكم العثماني، من خلال النظام الملي بدءاً من منتصف القرن التاسع عشر، حيث عمد القناصل الأوروبيون إلى الادعاء بأنهم يحمون الأقليات الدينية في الشرق، فبادرت فرنسا عبر قناصلها إلى التكلم باسم الموارنة، فيما سعت بريطانيا لمؤازرة الدروز. وفي الحقيقة لم تكن هاتان الدولتان المستعمرتان تأبهان لا للدروز ولا للموارنة المتواجدين فيما كان يسمى آنذاك «جبل لبنان»، بل كانت مصالحهما تكمن في الاستيلاء على مناطق نفوذ عبر وكلائهما وقناصلهما في أرجاء السلطنة العثمانية.
وكما اتكل الغرب الاستعماري على نظام الملل الطائفي العثماني للتغلغل ضمن الإمبراطورية العثمانية، تابع السياسة نفسها بعد انتصاره في نهاية الحرب العالمية الأولى. فسوراقيا، ما عدا مصر، هي المنطقة العربية الأكثر تقدماً وحضارة وحداثة من بين جميع الأقاليم العربية المتواجدة في الجزيرة العربية وشمال أفريقيا، لذلك انصبّ اهتمام الاستعمار عليها، فعمدت بريطانيا وفرنسا عبر اتفاقية سايكس ــ بيكو السرية إلى تقسيم المنطقة في ما بينهما على أسس طائفية، فاخترعت فرنسا دولة لبنان الكبير كدولة تهيمن عليها الطائفة المارونية الخائفة من جوارها الإسلامي، كما باشرت إلى تقسيم سوريا إلى دويلات طائفية دينية كدولة جبل الدروز، ودولة العلويين، ودولة للسُّنة، إلا أن السوريين رفضوا الخطة الفرنسية، وواجهها سلطان باشا الأطرش مطالباً بوحدة سوريا (الأعمال الكاملة، ج 8: 253). سمّى الفرنسي لبنان دولة وجمهورية، لكن في حقيقة الأمر لم يكن دولة أو جمهورية لأنه لم يستوف شروط أي منهما. فجلّ ما حصل هو إلصاق طوائف بعضها إلى جانب بعض، ضمن حدود معينة، ومطالبتها بتدبير أمورها بناءً على نظام «الميثاقية» أو التمثيل الطائفي على الأصعدة كافة. اعتبر الفرنسي أن وجوده هو اللاصق بين هذه المجموعات، أي أنه المتحكّم بقراراتها.
والسبب الأهم لهذه التقسيمات الطائفية، هو دور بريطانيا العظمى في زرع جسم غريب رأت أنه لن يستطيع البقاء إلا إذا كان المشرق العربي بأكمله على شاكلته، ألا وهو الكيان الصهيوني، وللمفارقة، العقيدة الصهيونية عقيدة قومية عنصرية تقوم على إنشاء وطن قومي لليهود، أي أنها تريد تحويل الدين اليهودي إلى قومية يهودية على أرض فلسطين، فمن دون أرض لا مكان لأي قومية.
هنا أيضاً، أهمية فصل الدين عن الدولة بالنسبة إلى سعادة، لأن فصل الدين يفتح الباب أمام وحدة المجتمع القادر حينئذ على مجابهة الصهيونية، لذلك رأى الغرب أن التهديد الأكبر لمشروعه يكمن في الفكر الوطني/ القومي الجامع للطوائف كما أدلجه سعادة. أحد أهم أسباب إدراج سعادة لبند فصل الدين عن الدولة هو الدور المدمّر الذي تلعبه الطوائف والمذاهب في منطقة الهلال الخصيب، إذ إن هذه الطوائف تقف سداً منيعاً أمام تطور المجتمع باتجاه الوحدة الوطنية؛ فبالنسبة إلى الطائفيين والمذهبيين ملّتهم أعلى من الوطن، وهم على استعداد لبيع وطنهم في مقابل سيطرة طائفتهم. نجد أمثلة صارخة لهذا الوضع خاصة في لبنان لأن نظامه الطائفي يفتح الباب واسعاً أمام الاحتراب الديني، فالفتن الطائفية تتكرر دون هوادة ولا أحد يتعلم أي شيء منها. وفي عام 1936 اندلعت فتنة من هذه الفتن بين حزب النجادة السني والكتائب اللبنانية المارونية، فكان نداء سعادة الشاجب: «إن تحويل الوطن إلى ميدان ينقسم فيه الشعب الواحد، الموحد المصير إلى جيشين يتناطحان للوصول إلى غاية واحدة، هي الخراب القومي، عمل شائن لا يليق إلا بالشعوب البربرية» (الأعمال الكاملة، الجزء الثاني، ص 55). والمعضلة في الأحزاب الطائفية/ الدينية أن «لا برامج سياسية ولا اجتماعية ولا اقتصادية عندها» (الأعمال الكاملة، الجزء الثاني، ص 282)، بل جلّ ما تفعله هو نشر بذور الكراهية والتفرقة بين أبناء الشعب الواحد: «صارت «النجادة» حزباً سياسياً طائفياً على غرار «الوحدة الوطنية» و«الكتائب»، وباتت هذه الأحزاب الطائفية الثلاثة خطراً على مصلحة البلاد ووحدتها، وسبباً في تقوية العصبيات الطائفية الهدامة» (الأعمال الكاملة، ج 2، ص 323). ويرفض سعادة الحلول التي يقدمها البطريرك الماروني، ومنها مثلاً توزيع غنائم السلطة على الطوائف كما أكد في خطبته عام 1937: «نظراً إلى التعصب الديني والطائفي عند أغلب الناس، لا يرتاح لبنان إلا إذا أعطيت كل طائفة حقها من الوظائف والمنافع العامة بموجب نظام مفصل» (الأعمال الكاملة، ج 2، ص 355). واستنكر سعادة موقف البطريرك قائلاً إن حركته القومية «تحارب جميع الحزبيات الدينية التي تلغي الرابطة الوطنية وتمحو العصبية القومية، وتفسد الإيمان الديني الحقيقي، لأن مهمتها الكبرى العمل على فلاح الأمة السورية وارتقائها» (الأعمال الكاملة، ج 6، ص 8).
يتفاجأ كثيرون ومنهم من كان وزيراً في حكومة الرئيس سليم الحص عام 1998، حين أخبرهم أنه هو الذي ألغى مادة التربية الوطنية من المدارس الرسمية في لبنان واستبدلها بالتربية الدينية


السبب الرئيس لأهمية الفصل ما بين الدين والدولة «ان الوحدة القومية لا يمكن أن تتم على أساس جعل الدولة القومية دولة دينية، لأن الحقوق والمصالح تظل حقوقاً ومصالح دينية، أي حقوق ومصالح الجماعة الدينية المسيطرة، وحيث تكون المصالح والحقوق مصالح وحقوق الجماعة الدينية تنتفي الحقوق والمصالح القومية التي تعتبر أبناء الأمة الواحدة مشتركين في مصالح واحدة وحقوق واحدة. وبدون وحدة المصالح ووحدة الحقوق لا يمكن أن تتولد وحدة الواجبات ووحدة الإرادة القومية» (الأعمال الكاملة، ج 8، ص 92).
لقد توقّع سعادة مصائب كبرى ستحل بالمشرق العربي إذا لم يتم الفصل ما بين الدين والدولة، وإلغاء الطائفية في كل مؤسسات الدولة، والتوجه نحو حصر الدين بشؤون الفرد الخاصة، واحترام خيارات المواطنين فيما يختص بحياتهم الروحية. فما الذي حصل في ما بعد؟
بدأت الحروب الطائفية مع تقسيمات جغرافية بحسب الدين والمعتقد، بعد عقد من استشهاد سعادة، ففي عام 1958 اشتعلت الحرب بين طرفين مسلم ومسيحي حول مصير لبنان إزاء المد الناصري العربي، لتعود وتستعر في حرب كبرى امتدت خمسة عشر عاماً (1975-1990).

بين الدولتين الدينية والعلمانية
لنقارن كيفية اإارة الدولة الدينية/ الطائفية واختلافها عن الدولة العلمانية، (القصد بالعلمانية الفصل بين الدين والدولة لا الإلحاد):
1) في دولة الطوائف يتحكم رجال الدين بكل أفراد المجتمع في الشأن العام كما الخاص أيضاً، فيأمر رجال الدين الناس باتباع نظام واحد شمولي في المأكل والملبس والعبادة والفكر، ويفتون في كل مناحي الحياة ويلِجون إلى أتفه التفاصيل ما يمنع أي حرية أو مبادرة من قبل الأفراد، فيما الدولة العلمانية لا تتدخل في شؤون المواطن الخاصة.
2) لأن دولة الطوائف الدينية لا تفصل بين الشأن العام والخاص، يستتبع ذلك انتشار الفساد والمحسوبيات والمحاصصات، والقفز فوق القانون الوضعي. فالطوائف/ الأديان في النهاية، مسألة تختص بمصالح كل طائفة/ دين على حدة لا بالكل المكوّن للوطن/ الأمة، ونحن نستطيع أن نتكلم عن الشأن العام فقط ضمن نطاق الدولة القومية العلمانية، أي اتخاذ قرارات تختص بشؤون عامة الشعب بشكل متساو، ومن دون تمييز أو تحيز.
3) تفرض الدولة الدينية/الطائفية الأحوال الشخصية الدينية على الجميع بالولادة، فلا خيار أمام الفرد، فهي تعلّبه وتُملي عليه القيود الواجب اتباعها وتجبره على البقاء ضمن الطائفة والولاء لها، ولا تسمح له بالتغيير والتقدم، فيما تتبع الدولة العلمانية القانون الوطني/ المدني المتحرك والذي يتغير بناءً على إرادة الشعب. ويخضع جميع المواطنين للقانون المدني دون أي استثناء في الدولة العلمانية بينما يفرق قانون الأحوال الشخصية بين المواطنين فتتبع كل فئة قانوناً مغايراً لفئة أخرى وقد يكون مناقضاً لها، ويتلاشى مفهوم المواطنة. ثم إن القوانين الدينية تفتح الباب أمام رجال الدين للسيطرة على الدولة، فبدلَ أن يكون الزواج والطلاق والإرث والوفاة تبعاً لقانون مدني، يتحكم رجال الدين بأفراد المجتمع، وهم يتحكمون أيضاً بالمدارس التي هي طائفية في غالبيتها المطلقة بما فيها الإرساليات الأجنبية، والمستشفيات، والجمعيات الخيرية، والمقابر، ولرجال الدين الحق في وضع المناهج المدرسية والموافقة عليها، كما أنهم يقررون مَن من الأساتذة يُقبلون في المدارس والجامعات، وتصبح الدولة ألعوبة في يد الطوائف التي تهدد الحكومات بإثارة الناس عليها إذا لم تنصَع لإرادتها، أما الدولة العلمانية فهي تحيّد الدين وتجعله شأناً خاصاً.
4) تعطي دولة الطوائف/الأديان الأولوية للدين والمذهب، وبالتالي هي تابع لأوامر خارجية بحسب انتماءاتها الدينية، فانحاز الموارنة تاريخياً إلى فرنسا، وانحاز السنة إلى السعودية، بينما تؤازر الدولة العلمانية مفهوم الاستقلال القومي والسيادة القومية، فرجل الدين الفرنسي ولو كان كاردينالاً هو فرنسي قبل كل شيء، وينصاع للقوانين الفرنسية لا لقوانين روما، ويحاكم بتهمة الخيانة إذا عصى على القانون الفرنسي. هذا الوضع ليس حاصلاً في سوراقيا حيث يتبع السكان قوانين وإفتاءات رجال الدين الذين يحرضونهم على القتل، ولا يلتزمون بقانون دولتهم.
5) قوانين الأحوال الشخصية هي قوانين دينية تفرض على التابعين لها التقيّد بها حيثما كانوا شرقاً أو غرباً، بينما القوانين الوضعية مختصة بكل دولة على حدة، وينتج عن ذلك أن كل طائفة أو ملّة تتبع قرارات مرجعياتها الدينية المتواجدة خارج حدود كيانات الدولة المدنية.
6) يختلف الوضع دراماتيكياً بين مجتمع علماني ومجتمع طوائف دينية فيما يختص بحرية الفكر والعلم والمعرفة، فلا حرية للفكر حيث تهيمن الدولة الدينية، ونصبح في وضع نجد فيه رجال دين شبه أميين، ولا اختصاص لديهم، يقررون الحقائق المعرفية فيصعد أحدهم على منبر المسجد ليؤكد أن الأرض مسطحة، ويصدقه المؤمنون لأن عدم تصديقه يعني الكفر بدينهم!
يقودنا ذلك إلى تقهقر العقل والمعرفة كما هو حاصل في العالم العربي حيث تراجعت المعرفة وحرية الفكر تراجعاً هائلاً عما كانت عليه منذ نصف قرن! لقد انهار المستوى الفكري العلمي المبتكر والمحلل والمستنبط لقواعد الكون بسبب تدخل رجال الدين في العلوم الوضعية، وهذا ما لم يحصل في الدولة الأموية وبداية الدولة العباسية حيث كان الدين مفصولاً فصلاً تاماً عن العلوم. لقد تبنّت السلفية الوهابية تجربة الإمبراطورية الكاثولكية في القرون الوسطى والتي كانت تحتكر العلم وتضطهد العلماء، بينما حافظت إيران الإسلامية على التراث الحضاري القائم على فصل الدين عن العلوم الوضعية ما أدى إلى تطورها السريع في التكنولوجيا، هذا التطور هو بالظبط ما تريد «إسرائيل» وأده لأنه يهدد وجودها العائم على بحر من التخلف. «اسرائيل» تستعمل الفالق المذهبي السني-الشيعي لتسعر النار ضد إيران لأنها تخاف من تقدمها العلمي والقومي، لا من توجهها الديني، والبرهان على ذلك أنها تتحالف مع أشد الدول في تطرفها الديني التكفيري ألا وهي السعودية الوهابية.
7) تراجع وضع المرأة نتيجة اضمحلال القوانين الوضعية التي تواكب التطور واستبدالها بالقوانين الدينية التي تعتمد على النظام البطريركي المذلّ للمرأة كما كان سائداً في المجتمعات التي تولّدت فيها الأديان منذ قرون بعيدة. ما يحصل اليوم هو قمع للمرأة ومنعها من الحصول على حقوقها كمواطنة أسوة بالرجل، وتتحكم بها قوانين الأحوال الشخصية الدينية التي تعطي الأفضلية للرجل في الزواج والطلاق والإرث وحضانة الأطفال. أما في السياسة، فالتمثيل النيابي لا يمثل الشعب، بل الطوائف في لبنان وكذلك في العراق بعد الاحتلال الأميركي عام 2003، ونرجو ألا يتحول نظام سوريا إلى طائف لبناني آخر بفعل شنّ الولايات المتحدة الأميركية الحرب عليها، فالترشح للانتخابات أساسه ديني لا وطني، والناخب يذهب إلى صناديق اقتراع مختلفة حسب انتمائه الديني.

من الطائفي إلى العلماني
لا تزال دول المشرق العربي تعيش في ظل نظام الملل الديني الذي وضعه العثمانيون منذ ما يناهز الستة قرون. يؤكد كثر بأن الولوج إلى الدولة العلمانية لن يحصل قبل قرن أو قرون، وها قد مضى قرن على سايكس-بيكو ولم نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، لا بل أصبحنا أشد طائفية وأكثر تخلفاً مما كنا. هذا يدل أن الزمن ليس كفيلاً بتغيير الظروف، وإننا إذا لم نبادر نحن إلى العمل باتجاه الدولة الديمقراطية التي تساوي بين جميع المواطنين بمعزل عن دينهم، فلن يتحول الوضع إلا عكس ما نشتهي لأن غيرنا يعمل بالاتجاه المعاكس.
يتفاجأ كثيرون ومنهم من كان وزيراً في حكومة الرئيس سليم الحص عام 1998 حين أخبرهم أنه هو الذي ألغى مادة التربية الوطنية من المدارس الرسمية واستبدلها بالتربية الدينية! لم يستطع الحريري أن يفعل ذلك، لكنه تم على أيدي من يُعتبر وطنياً قومياً عربياً، وكان آنذاك وزير التربية محمد يوسف بيضون الذي يُنظر اليه أيضاً على أساس أنه معتدل ووطني. فكيف يحصل ذلك منذ 17 عاماً ولم يتحرك وطني علماني واحد للاستنكار، ولم يتحرك أي من الأحزاب الوطنية العلمانية لهذه الكارثة المحققة والتي ستخرّج في بضع سنوات السلفيين الإرهابيين الذين يدمروننا اليوم.
لا حل أمامنا إذا لم نربّ جيلاً جديداً على القيم الوطنية، فهنا يكمن التغيير الحقيقي، وللدلالة على ذلك سأعطي أمثلة من لبنان وسوريا. ففي خمسينيات القرن الماضي أُنشئت مدارس قومية في لبنان وسوريا، خرّجت جيلاً قومياً/ وطنياً من جميع الطوائف دون استثناء. وما إن توقف عمل هذه المدارس حتى تلاشى هذا الوجود وتحول الجيل الجديد إلى متعصبين طائفيين جراء المدارس الدينية المسيحية والإسلامية. لقد تنبهت الولايات المتحدة الأميركية إلى هذا الموضوع الأساسي لوجودها فمنعت المدارس الخاصة في البدء، ثم سمحت لبعضها بالتواجد بسبب وجود جاليات أجنبية، وهي قليلة جداً بالنسبة إلى عدد السكان الذي يتجاوز الثلاثمائة مليون نسمة. ركّزت أميركا كل تعليمها الابتدائي الرسمي على ترسيخ فكرة الولاء لأميركا، ومثّلت هذه الأخيرة المهمة الأولى والأساسية للتعليم في المدارس الرسمية.
إن عدم فصل الدين عن الدولة أدّى إلى كارثتين: الأولى، تصدّع المجتمعات العربية إلى مذاهب وملل وأديان تتصارع وتتحارب، والكارثة الثانية تجلّت في السماح لرجال الدين بالسيطرة على التعليم، أي التحكم بمآل عقول الناشئة والجيل الجديد من الشباب. فتحكّم رجال الدين بالتعليم في المدارس أدى إلى إرساء التطرف الديني في الجامعات أيضاً، فهذه الأخيرة ليست إلا التكملة المنطقية لتعليم المدارس، حيث تم اللجوء إلى التفسير الديني بدلاً من التنقيب العلمي، فنرى مثلاً أن الأساتذة في العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية أصبحوا يبشرون في صفوفهم بالإيديولوجية الدينية فيُلقن الطالب «أن الاتحاد السوفياتي سقط لأنه شرّع الكحول والرقص والمسرح والموسيقى»، و«أن الاقتصاد الأوروبي فاشل لأنه غير ملتزم بالاقتصاد الإسلامي»، وتُمنع دراسة النظريات السياسية اليسارية على أنها تدعو إلى الإلحاد، وتُحجب النظريات القومية لأنها تتعارض والدين الإسلامي الشمولي. (راجع ماهر الخشن، «في الجامعة اللبنانية إن سُئلت عن ماركس تحدث عن أفلاطون»، جريدة الأخبار في 16 آب 2016).
ترسيخ مفهوم الدولة القومية العلمانية ممكن على الصعيد التربوي إذا ما انصبت جهودنا في هذا المضمار لمواجهة التعليم الديني السلفي، كما هو ممكن على الصعيد السياسي عبر التشديد بأن طرح فصل الدين عن الدولة يوحد المجتمع، بينما لا تؤدي المطالبة بالدولة الدينية إلا إلى حروب لا نهاية لها، لأن بلادنا هي نتاج أديان ومذاهب مختلفة ومتنوعة. لا تستطيع دول العالم العربي أن تتوحد داخلياً إلا إذا فصلت بين الدين والدولة، ومن أجل ذلك عليها أن تقف بوجه الخطط الاستعمارية الغربية التي تريد القضاء على الدولة القومية/الوطنية، لأن هذه الأخيرة تؤمّن الاستقلال السياسي والاقتصادي والاجتماعي لشعبها بمعزل عن أهواء الدول الخارجية.
مع بدء الألفية الثالثة، هدفت مخططات الولايات المتحدة الأميركية إلى دعم الدولة الدينية لا فرق بين إخوانية وسلفية، فالإخوانية مرجعيتها تركيا الحليف الموثوق في حلف شمال الأطلسي، والسلفية مرجعها السعودية، وآل سعود عائلة لا تحيد عن السياسة الأميركية قيد أنملة، إذ إن وجودها منوط بالإرادة الأميركية، وفي كلا الحالين، تمنع الولايات المتحدة الأميركية أي تقارب أو تنسيق بين كيانات المشرق العربي، لأن تفاهمها وتعاونها يعنيان القضاء المبرم على «إسرائيل» التي هي رأس الحربة الأميركية في المنطقة، والطريقة الوحيدة لمنع كيانات سوراقيا من التعاون هو إدخالها في حروب طائفية دينية مذهبية وإثنية.
تدور الحرب إذاً بين اتجاهين ومقولتين: المقولة الأميركية التي تريد إلغاء الدول الوطنية/القومية التي تقف عائقاً أمام الإمبراطورية الأميركية، ومن أجل ذلك تدعم التيارات الدينية السُّنية المتطرفة، والاتجاه المعاكس الذي يدافع عن مبدأ استقلال الأمم وحقها في الوجود، وفي تحقيق مصالح شعبها، والمكوّن من الدولة السورية وإيران وروسيا وحزب الله، والمقاومة الشعبية في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين. نخلص إلى القول بأن لا علمنة إلا بوحدة المشرق العربي، لأن الذي يعطّل الوحدة داخلياً وخارجياً هو النظام الطائفي/ الديني، والعكس صحيح أيضاً: سوراقيا لا تستطيع أن تكون موجودة فعلياً إلا إذا كانت علمانية.
* باحثة وأستاذة جامعية