بيروت عاصمة مميزة ودائمة للثقافة العربية، برغم تناوب الأزمات السياسية واستدامة «الاستقطاب الاجتماعي» الذي يتخذ مظاهر متعددة على اسس طائفية ومذهبية أحياناً. وبيروت هي مرآة الحياة الفكرية والسياسية العربية، ومطمع لبعض القوى الإقليمية والدولية (مقرّاً وممرّاً) من أجل تيسير إنفاذ جداول أعمالها المعقدة، استغلالاً لموارد لبنان الفريدة، استراتيجياً وبشرياً، وعبقرية الموهبة ومحبة الحياة، والكنز الفكري الكامن فيه عبر أغوار التاريخ، منذ إبداع أول أبجدية للإنسان على أيدي الفينيقيين، سادة البحر والتجارة في الشرق الأدنى القديم.
ولبنان ليس هذا كله فقط، بل هو أيضاً ينوب عن الوطن العربي في مجموعه من أجل أداء مال يتم أداؤه بحكم الشلل المزمن لما يسمونه «النظام العربي» خلال العقود الأخيرة، فقد كانت «المقاومة الوطنية» في لبنان هي القوة المحركة للنَّفَس العربي الممانع، من خلال حركة تحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الصهيوني المباشر عام 2000، ومواجهة تجدد النزعة العدوانية الإسرائيلية إبان حرب يوليو/ تموز 2006، وما تلاها من صمود على بوابة الحدود.
ولمناسبة سفرتنا الأخيرة إلى لبنان، نشير إلى منشط ثقافي مهم، قُدِّر لنا ان نشارك فيه، وهي الندوة التي عقدتها «المنظمة العربية لمكافحة الفساد» في بيروت يوميْ 9 و10 مايو/ أيار (2014) حول موضوع (الفساد وإعاقة التغيير والتطور في العالم العربي).

التركيز فقط على
قضايا «الفساد الصغير» مسؤولية مشتركة


وقد تصعب الإحاطة بمجريات الندوة في هذا المقام، بما تضمنته من أوراق مقدمة، ومداولات ومناقشات متنوعة، ولذا ارتأينا أن نكتفي ببضعة «رؤوس أقلام» تلخص بعضاً مما لفت انتباهنا من محصلة الأعمال. ونشير هنا إلى ثلاثة مواضيع:
الموضوع الأول، يتعلق بالتفرقة بين ما يمكن تسميته «الفساد الكبير» و«الفساد الصغير». فأما الفساد الكبير فهو الفساد السياسي بالمعنى العميق والواسع، والذي يمكن تعريفه بأنه كل ما ينتج من الانحراف بممارسة السيادة العليا التي تقوم عليها رؤوس السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية في البلاد، سواء كانت آثار هذا الانحراف سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية، أو غير ذلك، حيثما وجدت.
وتستمد هذه القضية أهميتها البالغة من المسار الذي اتخذته أحداث «الثورة» في كل من مصر وتونس بصفة خاصة. في مصر مثلاً، تركزت قضايا الفساد التي قدمت إلى القضاء بشأن الرئيس (المخلوع) حسني مبارك ورجال مؤسسة الرئاسة والسلطتين التنفيذية والتشريعية والحزب الحاكم و«الحلقة الضيقة» حول الرئيس، في قضايا قليلة وذات طابع جزئي، تنحصر في قضية بيع الغاز الطبيعي إلى إسرائيل، وقتل المتظاهرين أثناء فترة الاحتجاجات الشعبية الكبرى بين 25 يناير و11 فبراير 2011، وما يسمى باستغلال أموال القصور الرئاسية، وإحدى صفقات البيع في «سوق الأوراق المالية» (صفقة بيع «البنك الوطني») والتصرف في بعض الأراضي المملوكة للدولة، إضافة إلى بعض دعاوى «الكسب غير المشروع» وبعض دعاوى إساءة التصرف في عدد من العقود المبرمة بين الحكومة وجهات أخرى، داخلية أو خارجية، مثل ما يسمى بقضية «اللوحات المعدنية للسيارات».
إن كل هذه القضايا تعتبر من قبيل «الفساد الصغير». وأما «الفساد الكبير» فلم يتم بشأنه شيء، كما لم تتوافر أدلة جدية في مضمار «استرداد الأموال المنهوبة والمهربة للخارج»، لأسباب متعددة ومعقدة بالطبع.
هكذا بقيت «جذور الفساد» خلال حقبة «السادات - مبارك» على مدى أربعين عاماً، حية لم تمس تقريباً، ومن ذلك: تشكيل تحالف للسلطة بين الحكومة وحفنة من «رجال الأعمال» فيما يطلق عليه التزاوج بين السلطة والثروة، وما نتج منه من «تجريف» الثروة الوطنية لصالح أوليجاركية المال والنفوذ السياسي، أو «الطغمة المفسدة» بروابطها الداخلية والدولية المريبة، على طريق تعميق «التخلف» و«التبعية». وقد تجلى تحالف السلطة والمال، منذ اللحظة الأولى في حقبة السادات، من خلال النفوذ المتنامي لرجل المقاولات القوي عثمان أحمد عثمان، وروابط المصلحة والمصاهرة التي جمعته مع الرئيس، ثم تجلت الظاهرة نفسها في نهاية الأمر من خلال ما سمي بحكومة رجال الأعمال، برعاية كل من نجل الرئيس مبارك والرجل القوي في احتكار صناعة الحديد والصلب، «زعيم الغالبية» في مجلس الشعب، و«رئيس لجنة الخطة والموازنة» في المجلس ذاته أيضاً - أحمد عز.
ومن قبيل «الفساد الكبير» - الذي لم يمسّ أيضاً - آلية صنع القوانين في البرلمان، وما شابها من انحراف خطير على يد رئيس مجلس الشعب، بصفة خاصة، وكذلك آلية تسيير الحياة الحزبية والسياسية التي قنّنت احتكار «حزب الحكومة» للسلطة المطلقة وحولت بقية الكيانات السياسية إلى ملحقات مدجّنة بلا حول أو طول، برعاية «الأمين العام» للحزب الحاكم. بل وما لنا لا نشير إلى التدخل في تشكيل السلطة القضائية – بالقانون - من أجل ترويضها وتسيير أمورها بما يكفل استدامة حلف السلطة العليا والثروة المنهوبة، بلا رقيب جدّي.
أما عن الفساد في عملية صنع السياسة الخارجية، فحدّث ولا حرج، بدءاً من العلاقة بالولايات المتحدة الأميركية ومعوناتها المدنية والعسكرية بمقتضى اتفاقات «كامب ديفيد» والالتزامات المترتبة على المعاهدة المصرية - الإسرائيلية، وكذلك مسار العلاقة «المشينة» مع إسرائيل، على حساب الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية، والإخلال الجوهري بتوازن القوى التسليحي والعملياتي مع الكيان الصهيوني.. إلخ.
ومن الأسف، أن مسؤولية صرف الأنظار عن «الفساد الكبير» والتركيز فقط في قضايا «الفساد الصغير» هي مسؤولية مشتركة بكل تأكيد، تتقاسمها جميع القوى التي شاركت في الحدث العظيم لثورة يناير المباركة، وهي: القوى الوطنية والسياسية كلها، وشباب الثورة جميعاً، وما سمي بالمجلس العسكري الذي تولى إدارة الدولة منذ 11 فبراير/ شباط 2011 حتى 30 يونيو/ حزيران 2012، فلا يلومنّ أحدٌ أحداً إذن في هذا الباب، ولا يبكينّ أحد على الحليب المسكوب.
هذا كله عن الموضوع الأول الذي لفت انتباهنا في محصلة مداولات الندوة محل العرض، والتي سهر على الإعداد لها وتنظيمها فريق متعدد التخصصات، بدءاً من رئيس مجلس الأمناء د. بهيج طبارة والأمين العام للمنظمة د. عامر خياط.
أما الموضوع الثاني، فذو بُعد نظري بصفة أساسية، ويتلخص في رأي أبداه البعض، وهو أن الفساد قد تزايد بعد «الثورات العربية» الأخيرة. والرأي لدينا، أن المظاهر الدالة على تزايد حجم الفساد في تونس ومصر بعد أحداث 2011 بادية للعيان، غير أن علّة الظاهرة هي الفوضى المصاحبة للأحداث، أو ما يمكن تسميته بالانفلات السياسي والأمني بصفة اساسية. فقد سقطت قلاع الفساد الكبرى من دون أن تخلق منظومات جديدة معبرة عن روح الثورة في جميع المجالات، بما يشكل بيئة مانعة لتجدد الفساد كعائق تنموي.
بعبارة أخرى، لم يوجد في البلدين (مصر وتونس) حتى الآن «نظام» بالمعنى العلمي System وإنما وجد مجرّد «وضع» أو «ترتيب موقت» Setting.
أما الموضوع الثالث محل الاهتمام في الندوة المذكورة، من وجهة نظرنا، فيتصل بالموازنة بين حرية الوطن وحرية المواطن، في سياق الخبرة التونسية والمصرية الأخيرة. إذ يبدو أننا نواجه، إلى حدّ معيّن، إحراجاً حدّياً: إما هذا وإما ذاك. هل الأولوية لقضايا الحريات العامة أم للحفاظ على وجود الدولة في مواجهة ما يتهددها من أخطار جدية، بفعل العنف المسلح الممارس من قبل قوى وجماعات «ضدّ الدولة Anti-State»؟
والرأي عندنا، أنه لا تناقض هناك، من حيث المبدأ. ولكن من الناحية العملية، فإنه لا بدّ من التفرقة بين «التناقض الرئيسي» و«التناقض الثانوي» في كل مرحلة تاريخية بعينها. والتناقض الرئيسي في المرحلة الراهنة، وخصوصاً في مصر، هو المتمثل في تهديد وجود الدولة، بما يتبعه ذلك من قيود محدودة النطاق ومحددة المدى الزمني على ممارسة بعض الحقوق كالحق في التظاهر والتجمعات العامة، وأنه حالما يتم حل التناقض المذكور، فإنه يتعين الانتقال إلى مواجهة تحدي الحريات الفردية على اختلافها.
ولا تفوتنا الإشارة أيضاً، لمناسبة السفرة الأخيرة إلى لبنان الشقيق، إلى ملاحظات انطباعية أخرى ذات بعد اقتصادي - اجتماعي مركب. إذْ يلاحظ اختلاف الحالة المصرية عن اللبنانية في جانبين: من جهة أولى تسود في مصر ظاهرة الانخفاض الواضح للكفاءة التنظيمية وتغلغل بعض بؤر الفساد في عصب جهاز الدولة، وخصوصاً أجهزة تسيير المرافق والخدمات والمنافع العامة، ما ينعكس على الحالة التي تبدو عليها هياكل البنية الأساسية في قطاعات متعددة، في مقدمتها منظومة النقل البري والبحري والجوي.
ومن جهة ثانية، يلاحظ في ما يتعلق بمصر، لا سيما في أجواء «الانفلات الأمني» بعد ثورة 25 يناير، فقدان الرقابة الشاملة للدولة إزاء القطاع الخاص بجميع مستوياته، من الأنشطة الصغرى إلى الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، سواء من حيث نوع المنتجات، ونوعيتها من جانب الجودة والسعر، ما أدى إلى تفشي السلوك القائم على تحقيق أكبر عائد ممكن في أقل وقت، على حساب اعتبارات التكلفة والمواصفات، لجميع السلع والخدمات تقريباً، ابتداء من الغذاء وانتهاءً بصناعة السكن.
يضاف إلى ذلك، تردّي حالة المحيط الطبيعي والحيوي، وتدهور شروط «البيئة» بالمعنى الواسع، بما فيه ضعف منظومة الرقابة والضبط للتلوث، تلوث مياه النهر ومجاريه الفرعية بالمخلفات الصناعية ونفايات الاستخدام المنزلي وغيره، وتلوث الهواء بمركبات الكربون وعوالق الغبار المتخلف من «تعرّي القمم الجبلية» المحيطة بالعاصمة والوادي، وانعدام الغطاء النباتي الكثيف حول المدن الكبرى، وتطاير أتربة الصحاري بفعل العواصف الموسمية وغيرها، مع انخفاض منسوب الأمطار.
ويتصل بالمقارنة بين البلدين، ما وجدناه خاصاً بالاقتصاد اللبناني من حيث:
استقرار نسبي لمعدل التضخم أو اعتدال معدلات ارتفاعه، ربما نتيجة إلى حد كبير لاستقرار سعر الصرف للعملة المحلية أمام الدولار الأميركي (1500 ليرة للدولار الواحد منذ أكثر من ست سنوات).
منظومة ذات مستوى معقول من الكفاءة في بعض المناطق للتخلص من النفايات، وخصوصاً في العاصمة ومركزها، بالإضافة إلى تسهيل إجراءات تحصيل بعض مخالفات السير.
بينما نلاحظ بالنسبة إلى مصر سيادة معدل تضخم مرتفع، بل وبالغ الارتفاع خلال السنوات القليلة الأخيرة، في اقتصاد «حسّاس للواردات» بطبيعته، وترتفع فيه نسبة المكون الاستيرادي للناتج القومي الإجمالي – وكذلك إخفاق واضح في كل من منظومة التخلص من النفايات، ومنظومة السير داخل القاهرة ومن حولها وفي عواصم المحافظات، ما يؤدي إلى ارتفاع نسبي في معدلات الحوادث (المرورية) وما يتخلف عنها من آثار مادية وضحايا بشرية.
بيد أن هناك سمات مشتركة بين الاقتصادين اللبناني والمصري في الفترة الأخيرة، في مقدمتها: قلة فرص التشغيل وكسب الدخول، بالمقارنة مع وفرة نسبية في جانب عرض قوة العمل، وتآكل الدخول المتاحة للتصرف، خصوصاً مع انخفاض حجم وعائد السياحة وتحويلات العاملين والمقيمين خارج البلاد. ويشكل فيضان النزوح السوري إلى لبنان الشقيق جراء الأحداث الأخيرة عاملاً إضافياً للضغط على اقتصاد يعاني من خلل هيكلي جسيم أصلاً، بفعل الاعتماد المفرط على مصادر متقلبة ومتذبذبة بمعدلات مرتفعة عبر الزمن، لأسباب اقتصادية وسياسية متنوعة، لا سيما القطاع السياحي والتحويلات الخارجية.
* أستاذ في معهد التخطيط القومي ــ القاهرة